فشخرة «الأثرياء الجدد» سوقية.. وتدعو إلى «الغثيان»

اضيف الخبر في يوم السبت ٠٣ - أكتوبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: المصرى اليوم


. حازم الببلاوى يكتب:عن «الفشخرة»

.. فشخرة «الأثرياء الجدد» سوقية.. وتدعو إلى «الغثيان»



٣/ ١٠/ ٢٠٠٩

أياً كان شكل «الفشخرة» وسواء كانت تطلعاً للطبقات الأعلى اجتماعياً فى محاولة للتشبه بها، أو كانت رغبة فى متابعة ما يحدث فى دول «الغرب»، أو مسايرة للموضة وآخر الأزياء، أو قبول آخر الصراعات الفكرية أو الفنية، فإن أبرز ما يميز هذه «الفشخرة» أنها مقلدة وتابعة وغير أصيلة. فـ«الفشخرة» هى «صورة» وليست «أصلاً»، وإن كانت أحياناً «مسخاً»، وهى بالتالى متغيرة ومتلونة. فـ«الفشخرة» دائماً بلا أصالة أو ريادة وهى إحدى خصائص سلوك «القطيع».

 

وإذا عدنا إلى مصر الحديثة منذ محمد على، فإننا نجد أنفسنا إزاء بلد لا يكاد يعرف النظام الطبقى من الأشراف والنبلاء، فعندما وصل محمد على إلى الحكم كانت سلطة الحكم -بشكل عام- فى يد المماليك وممثلى السلطان العثمانى. أما الشعب المصرى -فى غالبيته- فقد كان يعيش على الزراعة فى الأرياف، وإن عرفت المدن طبقة صغيرة من التجار وعلماء الدين الذين تميزوا عن القاعدة العريضة من الفلاحين وصغار الصناع والحرفيين بقدر معقول من الثراء والعلم. فالطبقة الوحيدة التى تميزت عن القاعدة العريضة من جمهور المصريين كانت هى طبقة التجار والعلماء.

 

ومع محمد على وأولاده بدأت تتشكل طائفة من كبار الموظفين فضلاً عن أفراد العائلة المالكة وعدد من أحفاد عائلات الشراكسة والمماليك الذى استخدمهم محمد على وخلفائه ومنح بعضهم «أبعاديات» على حواف الوادى من الأراضى المستصلحة. وبدأ ظهور الملكيات الزراعية على حياء مع سعيد باشا، ثم توسع الأمر مع بيع أراضى الدائرة السنية فى عهد الخديو إسماعيل وولده توفيق، ومعها بدأت الملكيات الزراعية الكبيرة -لأول مرة- بالنسبة للمصريين، فكان أول ظهور للأعيان من المصريين من كبار الملاك الزراعيين هو بداية القرن العشرين.

وفى الوقت نفسه بدأت تتميز العائلة المالكة وأصهارها فى أعداد قليلة من العائلات الأرستقراطية -نوعاً- وأغلبها من أصول تركية وشركسية، وبدأت مشاركة المصريين بشكل أكبر فى الصناعة والتجارة، خاصة بعد الحرب العالمية الأولى وإعلان الاستقلال فى ١٩٢٢.

وجاءت الحرب العالمية الثانية، وقبلها التعريفة الجمركية ١٩٣٠ وإنشاء بنك مصر، مما أدى إلى تنوع النشاط الاقتصادى وبزوغ قدر من الصناعة المحلية، وإن ظل وجود الأجانب فضلاً عن اليهود والشوام غالباً على معظم النشاط الاقتصادى الصناعى والتجارى، وفى هذه الأثناء بدأ الحكم الملكى المصرى -تشبهاً بالملكيات العربية- فى منح الألقاب لكبار العائلات الزراعية ورجال المال، وبوجه خاص لرجال السياسة وكبار الموظفين، وهكذا، لقد كان تاريخ الأرستقراطية المصرية تاريخاً قصيراً ونحيفاً بلا جذور عميقة أو تقاليد صارمة.

وقامت الثورة فى ١٩٥٢، وكان من أوائل أعمالها إلغاء الألقاب ثم تقليص دور الأجانب -تدريجياً- فى الهيمنة على مقدرات الاقتصاد الوطنى، بدءاً بالتمصير ثم بالتأميمات وبداية العهد الاشتراكى منذ الستينيات فى القرن الماضى. وبهذا كاد يعود المجتمع المصرى -من جديد- ليصبح مجتمعاً بلا طبقات.

 هناك فقط حاكم ومحكومون يتمثلون فى طبقة متوسطة محترمة من الموظفين والتجار من المدن، مع طبقة واسعة من الشعب العامل فى الزراعة أو فى المدن، ولم تكن هناك أى طبقة أرستقراطية، فالعائلة المالكة استبعدت تماماً من الحياة العامة، كما اختفت الملكيات الزراعية الكبيرة، وتم تأميم أهم الصناعات. فمنذ نهاية الستينييات اختفت الأرستقراطية تماماً من الحياة العامة، وهى كانت على كل الأحوال أرستقراطية حديثة معظمها من أصول غير مصرية، وتاريخها قصير يقل عن المائة عام.

ومنذ منتصف السبعينيات من القرن الماضى وخاصة منذ التسعينيات، بدأت تتشكل طبقة جديدة من «الأثرياء الجدد»، وهى طبقة بلا تقاليد راسخة وعمرها الزمنى لا يجاوز عمر «الجيل الأول» أو «الجيل الثانى» فى أحسن الأحوال، وقد تحققت معظم الثروات الجديدة فى تجارة الخردة والوكالات الأجنبية، وبشكل عام أعمال التجارة خاصة استيراد المواد الغذائية والتموينية، فضلاً عن أعمال المقاولات والمناقصات الحكومية واستجد فى العقد الأخير المضاربة على أراضى الحكومة والنشاط العقاری،

ويقال إن تجارة السلاح وأيضاً الغاز والبترول ساهمت بدور ملحوظ فى نشأة هذه الطبقة، وتحقق الكثير من هذه الثروات بتواطؤ صريح أو ضمنى مع مسؤولين حكوميين، وعلى حين جاءت امتيازات الأرستقراطية الأوروبية فى إطار قانونى لـ«النظام القديم» الإقطاعى الذى كان يحمى هذه الامتيازات ويقننها، فقد تجمعت الثروات الحديثة فى بلادنا فى ظل نظم قانونية تتحدث عن المساواة، وبالتالى تحققت معظم الثروات بالتحايل على القوانين والخروج عليها.

وقد بدأت هذه الطبقة الجديدة والحديثة تمارس عمليات «الفشخرة» على نطاق واسع، وإن كانت ممارستها فى كثير من الأحوال فجة وأقرب إلى السوقية، فليس لأبناء هذه الطبقة اهتمام خاص بالعلوم والمعرفة أو الفنون والثقافة بشكل عام، كما أنها لم ترث تراثاً بالاهتمام بهذه القيم، وذلك على عكس الأرستقراطية ومن بعدها البورجوازية الأوروبية التى كانت راعية للعلوم والفنون ومختلف مظاهر الثقافة، فكبار الموسيقيين من باخ وموتزارت ويتهوفن وغيرهم ازدهرت فنونهم فى بلاط ملوك بروسيا وأمراء ألمانيا، وكان الأمراء ينافسون على رعاية الفنون والفلاسفة والعلماء، وكانت صالونات الأرستقراطية هى صالونات للآداب والفكر فالكتاب من أمثال كورنيل وراسين عملوا فى رعاية ملوك فرنسا،

 كما كان كبار المفكرين والأدباء من أمثال مونتانى ومونتسكيو هم أنفسهم من أصول أرستقراطية، وكان فولتير يجد ملاذاً عند فردريك الأكبر أو كاترين قيصرة روسيا، كما كان ليبنز يعمل فى حماية أمراء ألمانيا، لقد كان الأمراء ينافسون على رعاية العلماء والأدباء وإنشاء الجامعات، كذلك لم تولد الثورة الصناعية فى أوروبا فى حضن تجارة الخردة أو مافيات الاستيراد، وإنما جاءت من رواد الصناعة الذين خاطروا بأموالهم فى تكنولوجيات جديدة ومحاولة الاستفادة من التقدم العلمى لأغراض الصناعة، وهكذا افتقد أثرياؤنا «الجدد» لهذه التقاليد الأوروبية فى رعاية العلوم والفنون،

 وبالمثل فإنهم لم يعرفوا العادات التى أرساها أثرياء أمريكا وهى دولة لم تعرف تاريخاً أرستقراطياً وذلك بالقيام بأعمال البر والتبرع بالثروات الطائلة لإقامة الجامعات ومراكز البحوث والمتاحف والمكتبات العامة، مثل مؤسسة فورد أوروكفلر أو كارنيجى وأخيراً بيل جيتس، وهكذا لم يجد أثرياؤنا الجدد سوى تقليد أنماط السلوك الاستهلاكى المادى فى بناء القصور واقتناء المجوهرات وشراء اليخوت وأحيانًا الطائرات الخاصة وتدليل الأبناء وإقامة الحفلات وغير قليل من الفضائح، وربما أقصى ما يمكن عمله هو التبرع لأحد النوادى وشراء أحد لاعبى كرة القدم.

«الفشخرة» مرض عرفته معظم المجتمعات، ولكنها فى دولنا الفقيرة أقرب إلى المأساة الملهاة Tragico-comic، ليس فقط لأنها تتم وسط بحر من البؤس والفاقة، وإنما بوجه خاص لأنها تفتقد الذوق السليم وتدعو فى كثير من مظاهرها إلى الغثيان بأكثر مما تثير من الحنق. والله أعلم.

اجمالي القراءات 1769
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق