وجودهم لم يرتبط بأي احتلال ولم ينته بزواله"... الأرمن كصنّاع لتاريخ القدس

اضيف الخبر في يوم الجمعة ١٣ - نوفمبر - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: رصيف 22


وجودهم لم يرتبط بأي احتلال ولم ينته بزواله"... الأرمن كصنّاع لتاريخ القدس

يتشكل المجتمع الفلسطيني في مدينة القدس، بجانب العرب، من عدة مجموعات إثنيّة وأقليات هاجرت لأسباب مختلفة إلى المدينة خلال السنوات والقرون الماضية، من بينها الأفارقة والأكراد والغجر والأتراك والأرمن. لكنّ هؤلاء بنوا فصول تاريخهم ضمن سياق مختلف، لتتشكّل لديهم هوية مميزة ومثيرة للاهتمام في مدينة القدس.مما لا شكّ فيه أنّ وجود الأرمن في المدينة يشكّل جزءاً أساسياً من ذاكرتها على امتداد العصور. فرغم أنهم أقليةٌ تعبر عن هوية ثقافية مستقلة، إلا أنّهم عكسوا الجزء المُشرق منها، الحافل بالفنّ والثقافة. تتميز الطائفة الأرمنية عن بقيّة الطوائف المسيحية والأقليات الأُخرى في مدينة القدس بأنّ تاريخ الأرمن فيها لم يغب في أي مرحلة من المراحل منذ العهد البيزنطي. فوجودهم لم يرتبط بأي احتلال ولم ينته بزواله.

وعلى الرغم من هذا الارتباط الوثيق بتاريخ المدينة، إلا أنّ آلاف السنوات من التواجد في مدينة القدس لم تكن كفيلة بأنّ تُنسي الأرمن قوميتهم الأصلية، حتى غلبت في بعض الأحيان هويتهم الفلسطينية. لكنهم في الوقت ذاته عاشوا المعاناة والتهجير والقتل على غرار باقي مكونات الشعب الفلسطيني، كما كان لهم بصمة كبيرة في صقل هوية المدينة وتشكيل ثقافتها وفنها، بحسب مقال "صفحات أرمنيّة في تاريخ القدس" لبيان نويهض الحوت.

أشار القائد العسكري الأردني عبد الله التل في مذكراته إلى أنّ الأرمن اعتبروا أنفسهم عرباً خلال حرب عام 1948 في فلسطين، وشربوا من نفس الكأس الذي شربه الفلسطينيون، حتى سقط منهم 8 شهداء على الأقل في مدينتي القدس ويافا

تاريخ إثني في مدينة تاريخيّة

لا توجد إحصائيات رسمية بشأن عدد الأرمن في مدينة القدس، لكن الموثّق الأرمني إبراهيم بناليان يقول لرصيف22 إنّ عددهم، حسب تقديره، يتراوح ما بين 1000 إلى 2000 شخص، رغم أن عددهم قبل نكبة عام 1948 كان يقدّر بأكثر من 25 ألفاً.

و"تعود بداية الوجود الأرمني في مدينة القدس إلى ما قبل أكثر من 1600 عام، أي منذ اعتناق الأرمن للديانة المسيحية، حين كانوا يأتون إلى المدينة للحجّ، فاستقر فيها عدد منهم من أجل الاقتراب من المدينة المقدسة. أضف إلى أنّ وجود بعض الأرمن في المدينة، يعود إلى هجرتهم قسراً إبان المجزرة التي نفذتها الدولة العثمانية بحقهم"، يقول بناليان.

ورغم أنهم جزء أساسي في صورة تشكل أحداث تاريخ مدينة القدس، إلا أنّ الأرمن حافظوا بشكل تام على تقاليدهم وعاداتهم وصفاتهم، حتى أنّ لهم تسمية خاصة تدعى "كاغهاكاتسي"، وتعني الأرمن المحليين في مدينة القدس، أي الأرمن الذين يعيشون منذ قرون في المدينة.

يرى بناليان أن الأرمن في القدس يصنفون أنفسهم فلسطينيين، لكن انتماءهم الأول هو لأرمينيا، وهذا يعبر عن ارتباطهم الجمعي بالهوية الأرمنية. ويعتقد الموثق الأرمني أنّ الأرمن مرتبطون روحياً بمدينة القدس، رغم الهجرات المتتابعة والأحداث السياسية والاجتماعية خلال السنوات الماضية، والتي أدت إلى ابتعادهم عن المدينة المقدسة تارة واقترابهم منها تارة أخرى.يتسم الحي الأرمني الذي يقع جنوب غربي القدس القديمة، ويُشغل نحو خُمس مسـاحتها داخل الأسوار، بطابع أرمني مدموج بلمسة شرقية. ما أن يدخل المرء بهو هذا الحيّ حتى يرى عظمة "دير الأرمن مار يعقوب"، الذي يستقبل الزائرين بلغات ثلاث: الأرمنية واللاتينية والعربية، ليعود به مئات السنوات إلى الوراء.

وتحيط بالدير عـدة كنائس، أبرزها كاتدرائية "سانت جيمس"، بالإضافة إلى حدائق ومتاحف ومدارس ومنازل ومقرات اجتماعية ومكتبات. ويقال إنّ الحيّ الأرمني يضم أضخم ثاني مكتبة أرمنية للمخطوطات في العالم.

لعل اللهجة من أبرز المظاهر التي تُحاكي تميّز الثقافة والهويّة الأرمنية. فالأرمن يتحدثون بلكنة مميزة عن غيرهم من المسيحيين في مدينة القدس. وبحسب دراسة نشرتها جامعة هارفرد، فإنّ أبرز مكونات اللهجة الأرمنية في مدينة القدس ناتجة عن التأثير العربي الواسع عليها بشكل أساسي، بالإضافة إلى التأثر باللغتين الأرمينية والتركية. لكنها في كافة الأحوال كانت موضع إعجاب السامعين من الفلسطينيين.

أمّا الموثق بناليان، فيوضّح لرصيف22 أنّ سبب تميز اللهجة الأرمنية، هو أنّ "معظم أبناء الطائفة يتعلمون في مدارس تابعة لها، بحيث أنّ المناهج تدرس باللغة الأرمنية".

لا توجد إحصائيات رسمية بشأن عدد الأرمن في مدينة القدس، لكن الموثّق الأرمني إبراهيم بناليان يقول لرصيف22 إنّ عددهم، حسب تقديره، يتراوح ما بين 1000 إلى 2000 شخص، رغم أن عددهم قبل نكبة عام 1948 كان يقدّر بأكثر من 25 ألفاً

فلسطينيّون ولكن...

"كل ذلك لم يجعل الفلسطينيين المقدسيّين ينظرون إلى الأرمن على أنهم أرمن وحسب، بل كانت نظرتهم نظرة أبناء وطن واحد، إذ أنّ فلسطين فيها ما لا يقل عن 12 مجموعة إثنيّة وعرقيّة مختلفة" يقول حنّا عيسى، الأمين العام للهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات لرصيف22. ولعلّ هذه الوحدة لم تكن سبباً في انصهار الهويّة الأرمنية داخل الهويّة الفلسطينيّة وغياب ملامحها الخاصّة.

يقول عيسى إنّ "الأرمن في مدينة القدس وفلسطين يفتخرون بـأصولهم، وذلك بسبب الأزمة الوجودية التي أنتجتها "المجازر التركية"، كما يسمّيها الأرمن، قبل أكثر من 100 عام". ويضيف: "بقي الأرمن في القدس وفلسطين طائفة مستقلة اجتماعياً، فكانوا لا يتزوجون من خارج الطائفة. حتى تغيّر الأمر خلال السنوات الأخيرة الماضية وأصبحوا يصاهرون الطوائف المسيحية الأخرى، لكن بعدما أصبح عددهم قليلاً جداً".

لعل اللهجة من أبرز المظاهر التي تُحاكي تميّز الثقافة والهويّة الأرمنية. فالأرمن يتحدثون بلكنة مميزة عن غيرهم من المسيحيين في مدينة القدس.

من أهم أسباب محافظة الأرمن على هويتهم الثقافية والقومية، على خلاف الأقليات الأخرى مثل الأكراد والأتراك وغيرهم، هو أنهم مسيحيون، فمعظم الأقليات الوافدة الأخرى كانت مسلمة، تزاوج أبناؤها وانصهروا بشكل أعمق مع المسلمين والعرب، بحسب عيسى، الذي يشير أيضاً إلى أنّ الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية دفعت معظم الأرمن في مدينة القدس للهجرة إلى دول أوروبا وأمريكا الشمالية، للبحث عن لقمة العيش. لكن عيسى يؤكد أنّ الأرمن في القدس شكّلوا ما يشبه كياناً مستقلاً صغيراً صمد لآلاف السنين متوّجين تواجدهم بدور ثقافي واجتماعي وحياتي وسياسي في مدينة القدس.

ريادة في الفنّ من رحم التاريخ الأليم

حضور الطائفة الأرمنية الدائم في كافة المجالات، وخاصة الفنيّة والثقافيّة والعلميّة، يُعد من أبرز أسباب اندماج هذه الطائفة في نسيج المدينة رغم تميزها بهوية خاصة. من أبرز إسهامات الأرمن في القدس، حسب بيان نويهض الحوت، هو تأسيس أول مطبعة في المدينة عام 1833.

كما يعتبرون عَرّابي فنّ النقش على الفخار وصناعة الخزف أو السيراميك التي أعادوا إدخالها إلى المدينة بعد غياب لسنوات طويلة. ويربط السيراميك الأرمني مدخل الحي بالمسجد الأقصى، ليحيط بمآذن المسجد الأقصى، وخاصة قبة الصخرة، فيعتبر ذلك من أهم الإنجازات الأرمنيّة الفنيّة في فلسطين.

إضافة إلى ذلك، يعتبر الأرمن روّاد التصوير الفوتوغرافي في القدس، ولعلّ أبرزهم غارو نالبانديان المعروف بـ"مصور المشاهير". وُلد غارو في القدس عام 1943 لأبوين فرّا من مذبحة الأرمن على يد الأتراك فهاجروا إلى القدس في القرن الماضي، وكانوا جزءاً من فئة من الطائفة تعاني الفقر والبطالة، ويعتبر غارو أشهر مصور فوتوغرافي في مدينة القدس، ويحتفظ بصور لشخصيات فلسطينية وعربية بارزة، أهمها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والملك الأردني الراحل الحسين بن طلال.

 

غارو نالبانديان

يقول غارو لرصيف22 أنّه يعرّف نفسه كفلسطيني أرمني، ويرفض الحصول على الجنسية الإسرائيلية. كما يعرف نفسه "لاجئاً فلسطينياً"، نزح أهله من أرمينيا بسبب المجازر التركية. ويضيف: "كنت من أوائل المصورين الذين نشروا صوراً للأحداث التي تقع في فلسطين بشكل عام والقدس بشكل خاص إلى العالم".

ورغم أنه مسيحي، إلا أنّ غارو يُعتبر المصور المفضل لدى دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس لالتقاط صور للمسجد الأقصى، كونهم يثقون بأخلاقه ومهنيته.

يُعتبر الأرمن عَرّابي فنّ النقش على الفخار وصـناعة الخزف أو السيراميك التي أعادوا إدخالها إلى القدس بعد غياب لسنوات طويلة. ويربط السيراميك الأرمني مدخل الحي بالمسجد الأقصى، ليحيط بمآذن المسجد الأقصى، وخاصة قبة الصخرة، فيعتبر ذلك من أهم الإنجازات الأرمنيّة الفنيّة في فلسطين

ويعتقد المصور الفلسطيني الأرمني أنّ إسرائيل حاولت مراراً خلق فجوة بين الأرمن والفلسطينيين، إذ سهّلت عليهم الحصول على الجنسيّة الإسرائيليّة، لكن معظمهم رفضوا ذلك. وأدرف قائلاً: "قد تُسهل الجنسية الإسرائيلية العديد من الأمور بالنسبة لي، لكني رفضت بشكل قاطع. وأنا أصمم دائماً بأنّ أعرف عن نفسي كلاجئ فلسطيني أرمني".

يقول غارو إنّه عانى خلال طفولته، إذ اضطر لترك المدرسة والعمل عندما كان في التاسعة من عمره، وكذلك العديد من الأطفال الأرمن من جيله. ويعتقد أنّ الظروف الصعبة التي عاشها بعض الأرمن جعلهم يبدعون في عدة مجالات ويكونوا السباقين فيها.

دخول غارو إلى عالم التصوير الفوتوغرافي لم يكن صدفة، فالأرمن، بحسب قوله، كانوا أول من أدخل التصوير الفوتوغرافي إلى القدس، حتى قبل الإسرائيليين. فقد كان الأسقف الأرمني يساي جرابيديان، الذي تعلم تقنيات التصوير في اسطنبول ومن ثم في لندن وباريس، أول من أدخله إلى المدينة في أواخر خمسينيات القرن الـ19.

يساي جرابيديان

 

كان الأرمن أول من أدخل التصوير الفوتوغرافي إلى القدس، حتى قبل الإسرائيليين. فقد كان الأسقف الأرمني يساي جرابيديان، الذي تعلم تقنيات التصوير في اسطنبول ومن ثم في لندن وباريس، أول من أدخله للمدينة في أواخر خمسينيات القرن الـ19

الأرمن في الذاكرة

 يكمل الموثق إبراهيم بناليان رواية مسيرة أجداده الأرمن. أنشأ صفحة على فيسبوك باسم "Apo Documentaries" ينشر عليها صوراً قديمة لمدينة القدس خلال عدة فترات، من بينها فترتي الحكم العثماني والانتداب البريطاني.

يهدف بناليان من خلال صفحته لتعريف الأجيال الجديدة في القدس بتاريخ مدينتهم القريب، عبر دمج الصورة بالنصّ. ويشير إلى أنّ العديد من هذه الصور تعود لمصورين أرمن، كون تلك الفترات عرفت العشرات من المصورين المنتمين للطائفة الأرمنيّة.

رغم أن الوجود الأرمني في مدينة القدس يكاد ينتهي، إلا أنّ تاريخ الطائفة الأرمنية في المدينة، جدير بالبحث، ولا يمكن محوه من ذاكرتها.

يو مقال صفحات أرمنيّة في تاريخ القدس أنّ القائد العسكري الأردني عبد الله التل أشار في مذكراته إلى أنّ الأرمن اعتبروا أنفسهم عرباً خلال حرب عام 1948 في فلسطين، وشربوا من نفس الكأس الذي شربه الفلسطينيون، حتى سقط منهم 8 شهداء على الأقل في مدينتي القدس ويافا. ولم تكن هجرة آلاف الأرمن من مدينة القدس خلال حرب عام 1948 الهجرة الأخيرة، بل تكررت إثر حرب 1967 حين أُجبرت عائلات أرمنية على الهجرة قسراً مرة أُخرى من حيّ الأرمن في مدينة القدس العتيقة، لتمنحها السلطات الإسرائيلية بعد ذلك لعائلات إسرائيلية.

إنّ تواجد الأرمن خلال هذه السنين الطويلة في فلسطين بشكل عام، ومدينة القدس بشكل خاص، في ظل محافظتهم على هوية مميزة ومستقلة، يُدلل على التنوع التاريخي الذي شكل رمزية المدينة، وفي الوقت ذاته يدحض المزاعم الصهيونية بأنّ القدس "مدينة لليهود" وحدهم. رغم أن الوجود الأرمني في مدينة القدس يكاد ينتهي، إلا أنّ تاريخ الطائفة الأرمنية في المدينة، جدير بالبحث، ولا يمكن محوه من ذاكرتها.

اجمالي القراءات 350
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق




مقالات من الارشيف
more