التدخل العسكري في ليبيا.. 6 أسئلة تشرح لك لعبة الحرب بين تركيا ومصر

اضيف الخبر في يوم الثلاثاء ٢٨ - يوليو - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: الجزيرة


التدخل العسكري في ليبيا.. 6 أسئلة تشرح لك لعبة الحرب بين تركيا ومصر

في 2 (سبتمبر/أيلول) للعام 2019، نجح الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" كعادته في تسليط الأضواء نحوه بعد ظهوره في احتفال رسمي نظّمته جامعة الدفاع الوطني في إسطنبول وخلفه خريطة غير تقليدية، كُتِب عليها اسم "الوطن الأزرق"، محددة السواحل التي تعتبرها تركيا مِلْكا لها في البحر المتوسط وبحر إيجة، وأظهرت الخريطة "وطن تركيا الأزرق" ممتدا حتى الخط الوسيط لبحر إيجة محاطا بمجموعة من الجزر اليونانية، كما أظهرت سيطرة تركيا على مساحة كبيرة من سواحل شرق المتوسط تمتد إلى الشاطئ الشرقي لجزيرة كريت اليونانية، خامس أكبر الجزر في البحر الإستراتيجي الواصل بين قارات العالم القديم.

لم تكن هذه أول إشارة من قِبل تركيا لوطنها الأزرق على كل حال، ففي كتابه الشهير "العمق الإستراتيجي" الصادر عام 2001، تحدَّث رئيس الوزراء التركي السابق "أحمد داود أوغلو" عن أهمية السيطرة على البحار بالنسبة لبلاده، مُذكِّرا أن بداية النهاية للإمبراطورية العثمانية كانت بسبب فقدانها السيطرة على البحار، لكن فكرة "الوطن الأزرق" بشكلها الحالي غالبا ما تُنسب إلى الأدميرال "رمضان جيم غوردينيز" الذي طرح الفكرة لأول مرة خلال ندوة في مركز قيادة القوات البحرية التركية في يونيو/حزيران عام 2006، وتضمّنت رؤية لفرض سيادة تركيا على مساحات كبيرة من البحر المتوسط وبحر إيجة والبحر الأسود.

من وجهة نظر "غوردينيز"، فإن تركيا تعرّضت لظلم كبير في تقسيم حدودها البرية أعقاب معاهدة "سيفر" عام 1920 التي قسّمت إرث الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وهي تتعرّض في الوقت الراهن لمعاهدة "سيفر" ثانية في البحر، حيث يسعى خصوم أنقرة في اليونان وقبرص ومؤخرا إسرائيل ومصر لتقليص نفوذ أنقرة البحري وحصره في شريط مائي ضيق حول سواحلها.

قررت تركيا نقل رؤيتها للوطن الأزرق للتنفيذ الفعلي، حيث قامت بتوقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية

ورغم أن فكرة الوطن الأزرق تُعَدُّ قديمة نسبيا، فإنها لم تكن حاضرة على أجندة السياسة الخارجية التركية إلا في وقت قريب، حيث أثارت اكتشافات الغاز الكبرى في المتوسط خلافات حادة بين بلدان شرق البحر على تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة واقتسام الثروات البحرية، ولما كانت تركيا تعاني من فقر شديد في الطاقة وحاجة ماسة إلى موارد الغاز البحرية الجديدة؛ فإنها شرعت في تعديل إستراتيجيتها البحرية واستدعت فكرة "الوطن الأزرق" سعيا لفرض سيطرتها على مساحة تبلغ 462 ألف كيلومتر من الأراضي البحرية في شرق المتوسط وإيجة.

كانت البداية فعليا في فبراير/شباط 2019، حين نفّذت القوات البحرية التركية مناورة عسكرية باسم "الوطن الأزرق" أيضا في المناطق المحددة، قبل أن يُشير وزير الدفاع التركي "خلوصي أكار" إلى المفهوم ذاته مجددا خلال احتفالات يوم النصر في 30 أغسطس/آب للعام نفسه، في حين جاءت الإشارة الأخيرة كما ذكرنا من أردوغان نفسه في سبتمبر/أيلول، قبل أن يقوم مُمثِّل تركيا الدائم لدى الأمم المتحدة في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 بتقديم مطالبات تركيا بالمناطق الاقتصادية الخالصة لها في شرق المتوسط والمتوافقة مع مفهوم "الوطن الأزرق" في رسالة رسمية للمنظمة الأُممية.

لم تتوقف جهود أنقرة عند هذا الحد، فبحلول 27 من الشهر نفسه بدا أن تركيا قررت نقل رؤيتها للوطن الأزرق للتنفيذ الفعلي، حيث قامت بتوقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية المُعترَف بها دوليا ورئيسها "فايز السراج"، وهي اتفاقية زادت بموجبها أنقرة من مناطقها الاقتصادية الخاصة وسواحلها القارية في شرق المتوسط بنسبة 30%، قبل أن تقوم بإصدار خريطة جديدة غير رسمية تُظهِر المناطق الاقتصادية الجديدة لها والتي تم إقرارها بموجب الاتفاقية.

 

غير أن الاتفاقية الليبية التركية أثارت رد فعل عنيف(1) من قِبل اليونان وقبرص ومصر، حيث ادَّعت الدول الثلاث أن أنقرة تحاول الحصول على امتيازات ليست من حقها بالمخالفة للقوانين البحرية الدولية، واصفين الاتفاق بأنه "غير قانوني" لأنه يؤثر على مصالح أطراف ثالثة، ولأنه أُبرِمَ من قِبل حكومة ليبية "غير مخوَّلة" حد وصفهم، وقد ذهبت اليونان لأبعد من ذلك حيث قامت بطرد سفير الحكومة الليبية في أثينا احتجاجا على الاتفاق، وأعلنت أنها ستحشد الدعم من حلف الناتو ضد التصرفات التركية، لكن أنقرة لم تهتز بحال، واستقبل أردوغان السراج للمرة الثانية خلال ثلاثة أسابيع فقط مؤكِّدا استمرار الاتفاقية، واستعداد تركيا للتدخل العسكري وإرسال قوة رد سريع لطرابلس حال طلب منها الجانب الليبي ذلك رسميا.

وبدا للوهلة الأولى أن الاتفاقية الجديدة دفعت المياه السياسية في شرق المتوسط إلى درجة الغليان، قبل أن يتأكد ذلك بتصريحات الرئيس المصري ذي الخلفية العسكرية "عبد الفتاح السيسي" في مؤتمر الشباب بشرم الشيخ عندما قال مباشرة إن حكومة الوفاق الوطني "أسيرة لميليشيات مسلحة وإرهابية في العاصمة طرابلس"، وهو أعلى سجال تصريحات بين الأطراف المتورِّطة في ليبيا منذ الإطاحة بالقذافي عام 2011، ودرجة احتداد بين القاهرة وأنقرة تحديدا لم تشهدها الساحة المتوسطية من قبل، ما قد يجعل الصدام العسكري في ليبيا أحد الاحتمالات واردة الحدوث.

 

 

يعود اهتمام تركيا بشرق المتوسط إلى ما قبل تأسيس الجمهورية الحديثة بقرون، وتحديدا إلى زمان الدولة العثمانية التي هيمنت على معظم شواطئ البحر كأراضٍ داخلية لها، وقد ورثت الجمهورية التركية الحديثة هذا الاهتمام بالتبعية رغم أنها فقدت الكثير من سواحلها على البحر بعد انهيار الدولة العثمانية وحصول العديد من الولايات العثمانية السابقة على استقلالها.

في البداية، كان اهتمام الدولة التركية الحديثة بالبحر المتوسط مرتبطا بشكل كبير بالقضية القبرصية منذ قررت أنقرة عام 1974 التدخل عسكريا في قبرص ضد انقلاب عسكري مدعوم من اليونان في الجزيرة، وهو التدخل الذي انتهى فعليا بتقسيم الجزيرة إلى شطرين: جزء شمالي تسيطر عليه تركيا فعليا ولا يحظى استقلاله باعتراف أي دولة في العالم سواها، وجزء جنوبي مرتبط باليونان ويحظى بالاعتراف الدولي وعضوية الاتحاد الأوروبي.

تسبّب الصراع القبرصي طويل الأمد في تعزيز اهتمام تركيا بالمتوسط، خاصة أن له أهمية متزايدة بسبب دوره في عمليات نقل النفط وكونه جزءا من صراع النفوذ الأوسع في الشرق الأوسط. وكان هذا الاهتمام بالمتوسط أحد الأسباب التي دفعت تركيا لتقوية علاقاتها مع إسرائيل خلال حقبتَيْ الثمانينيات والتسعينيات، خاصة في ظل تدهور علاقاتها مع سوريا، وبالتبعية مع لبنان الخاضعة لهيمنة دمشق حينها، وهما أبرز القوى العربية في شرق المتوسط.

بعد عام 2010 أعلنت تركيا أنها لن تسمح للشركات العالمية بالتنقيب في المناطق الاقتصادية التي حددتها قبرص

ولكن توقيع اتفاقية أضنة بين أنقرة ودمشق عام 1998 حوّل دفة الأمور في المنطقة بشكل كبير، خاصة أنه جاء متزامنا مع تحسُّن عام في علاقات تركيا مع العالم العربي أعقاب صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، ومساعي تركيا للتقارب مع اليونان وإيجاد حل سلمي للقضية القبرصية، وهو ما أعطى بصيصا من الأمل لتأسيس علاقات تعاونية بين القوى المختلفة في شرق المتوسط، لكن هذا الأمل سرعان ما انهار في نهاية العقد الماضي بسبب تعقيدات القضية القبرصية التي وتّرت الأجواء بين أنقرة وأثينا مجددا، وبفعل توتر العلاقات بين تركيا وإسرائيل منذ عام 2008، وكانت النتيجة الأبرز لهذه التطورات هي إقامة إسرائيل واليونان لعلاقات أوثق مع بعضهما بعضا شملت مناورات وتدريبات عسكرية مشتركة، وكان هذا التقارب بين أثينا وتل أبيب يهدف بالأساس لفرض عزلة على تركيا في شرق المتوسط.

زادت الأمور سوءا عام 2009 حين بدأت الشركات العالمية في استكشاف احتياطات الغاز الكبرى قبالة سواحل إسرائيل وقبرص، ما تسبّب في تعميق الخلاف بين تركيا وقبرص اليونانية حول مناطق التنقيب، ونتيجة لهذا الصراع قام القبارصة اليونانيون بتوقيع اتفاقات لترسيم مناطقهم الاقتصادية الخالصة مع مصر واليونان وإسرائيل، وفي المقابل فإن تركيا زادت وجودها العسكري في البحر وأنشأت قوة خاصة للبحر المتوسط عام 2010، وأعلنت أنها لن تسمح للشركات العالمية بالتنقيب في المناطق الاقتصادية التي حددتها قبرص، محتجَّة بحماية حقوق القبارصة الأتراك في الشمال، وقامت من جانبها بإصدار نسختها الخاصة من المناطق الاقتصادية لتركيا وقبرص الشمالية.

تدهورت(2) الأمور أكثر بالنسبة إلى أنقرة بعد انضمام مصر لمحور "إسرائيل – اليونان – قبرص" أعقاب الانقلاب العسكري الذي شهدته القاهرة منتصف عام 2013، وكان موقف القاهرة يهدف بالأساس لعقاب أنقرة سياسيا على إدانتها للحكومة العسكرية الجديدة في البلاد، موقف دفع مصر في النهاية نحو توقيع اتفاقية جديدة لترسيم الحدود البحرية مع اليونان وقبرص عام 2014، والتي وسّعت بشكل كبير من المناطق الاقتصادية اليونانية على حساب المناطق الاقتصادية لتركيا وعزّزت حظوظ اليونان وقبرص في موارد المتوسط.

ترى أنقرة احتياطات الطاقة الكبيرة في شرق المتوسط فرصة حيوية لاستكشاف مواردها الخاصة وتقليل الاعتماد على الطاقة الأجنبية

 

بخلاف الذاكرة التاريخية التي طالما اعتبرت البحر المتوسط جزءا لا يتجزأ من الأراضي التركية، يمكن القول إن هناك ثلاثة أسباب رئيسة لاهتمام تركيا بمنطقة شرق المتوسط اليوم، أولها أن تركيا تُعَدُّ دولة مستوردة للطاقة، ويُقدر أن أنقرة استوردت سلعا هيدروكربونية بقيمة 45 مليار دولار خلال عام 2018 وحده، وهو رقم يُمثِّل ضغطا كبيرا على الموازنة العامة خاصة في ظل تذبذب قيمة الليرة التركية أمام الدولار، وبخلاف ذلك فإن الرقم يبدو مرشحا للتزايد مع استمرار الاقتصاد التركي في النمو وزيادة عدد سكان البلاد. ونتيجة لذلك، ترى أنقرة احتياطات الطاقة الكبيرة في شرق المتوسط فرصة حيوية لاستكشاف مواردها الخاصة وتقليل الاعتماد على الطاقة الأجنبية، خاصة أن معظم واردات الطاقة تلك تأتي من قوى منافسة جيوسياسيا لأنقرة مثل روسيا وإيران.

في السياق ذاته، تمتلك(3) تركيا خطة طموح لتحويل نفسها إلى مركز رئيس لنقل الطاقة بين الشرق والغرب، من الدول المُنتِجة للهيدروكربونات في الشرق الأوسط وآسيا للدول المُستهلِكة لها في أوروبا، وهي تمتلك عددا من المشاريع الواعدة لتحقيق هذا الهدف، وعلى رأسها خط أنابيب عبر الأدرياتيك "تاب" وخط أنابيب عبر الأناضول "تاناب" اللذان يهدفان لنقل الغاز الطبيعي من أذربيجان للقارة العجوز.

بالمثل، لدى أنقرة أيضا خططها الخاصة للتحوّل إلى مركز لنقل الطاقة الجديدة في شرق المتوسط للأسواق الأوروبية، لكنّ المنافسين الإقليميين للأتراك وعلى رأسهم اليونان وإسرائيل ومصر يسعون لتقويض جهودهم في هذا الصدد من خلال إنشاء خط أنابيب لتصدير الغاز يُدعى "إيست ميد" بطول 2000 كم يمتد من الحقول القبرصية والإسرائيلية عبر اليونان وصولا لإيطاليا مع تجاوز تركيا، رغم أن التكلفة الكبيرة للمشروع تسبّبت في إحجام الشركات الكبرى عن تمويله حتى الآن، فضلا عن الصعوبات التكنولوجية التي تواجهه في أعماق البحر.

 

يتعلَّق السبب الثاني بالمنافسة الجيوسياسية الإقليمية وألعاب محاور الطاقة المحتدمة. وكما سبق أن أشرنا فإن تركيا تواجه منافسة كبرى في البحر المتوسط من قِبل تكتل "اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر"، وهي منافسة اتخذت طابعا أكثر مؤسسية مطلع العام الحالي مع تأسيس ما سُمّي بـ "منتدى غاز شرق المتوسط" بمشاركة 7 دول هي مصر واليونان وقبرص وإسرائيل وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية، وهو تكتل يبدو أنه صُمِّم بالأساس لاستبعاد تركيا وعزلها عن التطورات السياسية والاقتصادية في المنطقة.

وأخيرا، تُعَدُّ منطقة شرق المتوسط منطقة مهمة لتركيا من منظور الأمن القومي، حيث كانت مسرحا للأنشطة العسكرية للعديد من البلدان في السنوات الماضية، ليس فقط من قِبل(4) مصر واليونان وقبرص وإسرائيل (تُجري مصر واليونان مناورات جوية مشتركة منذ عام 2015)، ولكن أيضا من قِبل الجهات الفاعلة مثل الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا والصين التي زادت وجودها بوضوح في المنطقة، ولذلك، فإن تركيا لم تَعُد تُفكِّر في شرق البحر المتوسط على أساس كونه مجال نفوذ تاريخيا وفرصة اقتصادية محتملة فقط، ولكن أيضا كمجال إستراتيجي يمكن أن يخدم احتياجات أنقرة الأمنية الوطنية، وخط دفاع في مواجهة التهديدات التي قد تأتي من البحر.

على وجه التحديد، يمكن القول إن هناك ثلاثة أبعاد أمنية حيوية للوجود التركي في البحر المتوسط، يتعلَّق الأول بالتحديات التي تواجهها تركيا من قِبل اليونان وأوروبا حول مناطق الاختصاص البحري التركية، أما الثاني فيتعلَّق بقبرص الشمالية (التركية) ومستقبل القضية القبرصية بشكل عام، فيما يتعلَّق الثالث بملف الأكراد، حيث تخشى تركيا من إمكانية قيام دولة كردية مستقلة لديها حرية في الوصول للبحر المتوسط، ونتيجة لذلك يبدو أن تركيا صارت تعتبر البحر المتوسط خطا أحمر في سياستها الخارجية، وهي لا تُبالي بالتهديدات المتتالية بفرض عقوبات سواء من قِبل الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة.

من حيث المبدأ، لا يُعَدُّ توقيع اتفاقية بين أنقرة وحكومة الوفاق الوطني الليبية أمرا مفاجئا، حيث تُعَدُّ أنقرة في الوقت الراهن الداعم الأبرز لحكومة الوفاق المُعترَف بها دوليا، في مواجهة تكتل من الدول الداعمة لما يُسمى بـ "الجيش الوطني الليبي" بقيادة "خليفة حفتر"، وهو تكتل يضم كلًّا من مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وروسيا وفرنسا، ويتمتع بدعم ضمني فيما يبدو من إدارة ترامب.

كان الدعم التركي، بما في ذلك الدعم العسكري(5)، هو السبب الرئيس في قدرة حكومة الوفاق الوطني على الصمود في وجه الحملة العسكرية الشرسة لحفتر وداعميه للاستيلاء على العاصمة طرابلس والمستمرة منذ أبريل/نيسان 2019، ومع وجود أنباء عن قيام الدول المؤيدة لحفتر بتعزيز دعمها ل"أمير الحرب" الليبي، كان من المتوقع أن تذهب حكومة الوفاق لأنقرة بحثا عن الدعم العسكري، وهو ما تكلّل بالفعل بتوقيع اتفاقية دفاع بين الطرفين، إضافة إلى مذكرة تفاهم حول ترسيم الحدود في البحر المتوسط بين جنوب غرب تركيا وشمال غرب ليبيا، تم بموجبها منح أنقرة حقوق التنقيب في المناطق الساحلية الليبية جنبا إلى جنب مع السماح بوجود تركي موسَّع في الموانئ الليبية.

إذا نظرنا للأمر من زاوية حكومة الوفاق الوطني؛ يُعَدُّ السعي لتوقيع مثل هذه الاتفاقية أمرا مفهوما وبديهيا، فبخلاف تقنين الدعم العسكري التركي للحكومة ووضعه في إطار رسمي يسمح بتعزيزه بما يشمل ربما إنشاء قاعدة بحرية لتركيا في غرب ليبيا؛ فإن توقيع اتفاقية لترسيم الحدود هو في حد ذاته خطوة تهدف لإثبات المؤهلات السياسية لحكومة الوفاق التي ترى أنها تتعرض للتهديد من قِبل ميليشيات قوية غير شرعية مدعومة من اللاعبين الإقليميين الرئيسين وبعض اللاعبين الدوليين الأقوياء، بخلاف الفرص المستقبلية للحصول على عقود مربحة للتنقيب عن النفط والغاز قبالة السواحل الليبية لدعم الاقتصاد المتعثِّر بسبب الحرب الأهلية والنزاع السياسي والعسكري المستمر منذ الإطاحة بنظام القذافي.

في المقابل، تُعَدُّ الفوائد للجانب التركي أكثر وضوحا، وأولها أن لدى أنقرة مصلحة قوية ومباشرة في دعم حكومة الوفاق ومساعدتها على بسط سيطرتها الشرعية على البلاد، بما يعنيه ذلك من فوائد اقتصادية مباشرة لأنقرة ليس أقلها استعادة ما قيمته 19 مليار دولار تقريبا من عقود البناء والإنشاءات التركية المعلقة منذ عهد القذافي، فضلا عن الفوائد الجيوسياسية المتعلِّقة بصراع النفوذ الذي تخوضه تركيا ضد الدول الداعمة لحفتر خاصة السعودية والإمارات ومصر، ورغم ذلك، تبقى الفائدة الأهم لتركيا أن هذه الاتفاقية ستُعزِّز بشكل كبير من أسهمها في الصراع طويل الأمد حول تقسيم الكتل البحرية وحقوق التنقيب في شرق المتوسط، حيث من المرجح أن تقوِّض الاتفاقية جميع محاولات اليونان لترسيم حدودها البحرية مع مصر وإسرائيل وقبرص بسبب شمولها للمياه حول جزيرة كريت، وبخلاف ذلك فمن المقرر أن يساعد الاتفاق تركيا في بسط سيطرتها على المناطق البحرية المقرر أن يمتد خلالها خط أنابيب "إيست ميد" ما يُهدِّد أي محاولات لبناء وتشغيل خط الأنابيب، وأخيرا فإن الاتفاقية ستمنح تركيا عمقا إستراتيجيا يمتد من شمال أفريقيا إلى بحر إيجة إلى خليج أنطاليا مع زيادة مساحة حدودها البحرية السيادية.

لتحقيق هذه الفوائد اعتمدت أنقرة إستراتيجية(6) ذات شقين. أولا، ومع علمها بعدم قدرتها منفردة على مواجهة محاولات خصومها لفرض العزلة عليها، فإنها سعت للبحث عن شركاء جدد في المنطقة حتى لو كانوا ضعفاء نسبيا مثل حكومة شمال قبرص وحكومة الوفاق الوطني الليبية (وربما سوريا مستقبلا)، وثانيا، سعت أنقرة لصياغة سرد تاريخي يؤكد حقوقها التاريخية في المنطقة عبر استدعاء فكرة الوطن الأزرق التي تداعب أحلام المجد السياسي للإمبراطورية العثمانية، وفي كل الأحوال، يبقى الهدف النهائي من تحركات تركيا هو فرض نفوذ تركي دائم في المنطقة وإرسال رسالة إلى خصومها حول مدى استعدادها للدفاع عن هذا النفوذ رغم أي تهديدات أو تكتلات.

في ضوء ذلك كله، وفي وقت يُفسِّر فيه المجتمع الدولي نشاط تركيا في البحر المتوسط باعتباره "نشاطا عدائيا"؛ تُعرِّف تركيا إستراتيجيتها البحرية على أنها خطة دفاع استباقي(7)، وتستند في رؤيتها الخاصة لسواحلها البحرية إلى تفسير غير تقليدي لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، والتي لم تُوقِّع عليها أنقرة حتى اليوم خوفا من أن تفرض قيودا على أنشطتها البحرية أو تجعلها ملتزمة بتفسيرات الدول الموقعة على الاتفاق.

فبموجب الاتفاقية الأممية، يحق للدول الساحلية الحصول على 200 ميل بحري من المساحات المقابلة لسواحلها لإقامة منطقة اقتصادية خالصة تتمتع فيها الدولة بجميع الحقوق السيادية السياسية والاقتصادية، ولكن بسبب الشكل المقعر لسواحل البحر المتوسط، فإن هناك تداخلات كبيرة بين المناطق التي يحق لكل دولة مُطلة عليه المطالبة بها، وبالتالي فإن معظم الدول لم يكن بمقدورها إنشاء مناطق اقتصادية خالصة دون ترسيم الحدود مع بقية جيرانها. وبخلاف ذلك، تُعارض(8) تركيا أيضا التفسير المعياري لهذه القوانين مدّعية أن الجزر لا يمكن أن يكون لها جرف قاري بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ولا تتمتع إلا بمنطقة اقتصادية محدودة بعرض 12 كم فقط، وتحتجّ تركيا بأن منح الجزر سواحل قارية مساوية للدول يمكن أن يحوّل البحر المتوسط إلى بحيرة كبيرة تسيطر عليها اليونان بحكم وجود عدد كبير من الجزر اليونانية المنتشرة في البحر.

ينطبق الأمر ذاته على قبرص بالنسبة لأنقرة، فنظرا لأن تركيا لا تعترف بجمهورية قبرص الجنوبية (اليونانية) كدولة مستقلة، فإنها لا ترى أن من حقها الحصول على مناطق اقتصادية خالصة ما لم تتم تسوية القضية القبرصية، وهي ترى أن معظم المناطق التي تدّعي قبرص أحقيتها فيها تعود إلى القبارصة الأتراك الشماليين المدعومين من تركيا، لذا فإن أنقرة تقوم بتسيير دوريات بحرية وأنشطة مسح واستكشاف في المناطق الخاضعة نظريا للسيطرة القبرصية مؤكدة أنها لن تسمح بأي أنشطة في المناطق البحرية القبرصية قبل تسوية النزاع القبرصي أولا.

بالمثل، استندت تركيا إلى تفسيرها الخاص للقانون البحري في الاتفاقية الأخيرة لترسيم الحدود مع ليبيا، حيث تجاهل الاتفاق الرفوف القارية لعدد من الجزر اليونانية هي رودس وكاستيلوريزو وكارباثوس وكاسوس والجزء الشرقي من كريت، واحتجّت أنقرة بأن هذه الجزر لا يحق لها الحصول على مناطق اقتصادية بعرض 200 ميل (أي بمساحة تبلغ أضعاف مساحة الجزر نفسها في بعض الحالات) ولا ينبغي أن يتم الاحتجاج بوجودها في أي مفاوضات لترسيم الحدود البحرية.

لكن اليونان المدعومة من قِبل الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي ترى خلاف ذلك، وهي تتمسّك بأن القانون البحري يمنح الجزر مناطق اقتصادية خالصة كاملة مثل الدول، وأن الكثير من المناطق الساحلية التي تدّعي تركيا ملكيتها هي في الحقيقة ملك لليونان. ومثلها مثل تركيا، لا تتعلَّق مخاوف اليونان بشأن البحر الأحمر حول المناطق الاقتصادية ومصادر الطاقة فقط، حيث تخشى أثينا أن أنقرة ستستغل الاتفاق مع ليبيا لتأسيس وجود بحري دائم في المنطقة، ونشر القوات المسلحة التركية حول الجزر اليونانية وهو وضع كارثي(9) بالنسبة لليونان من المنظور العسكري.

تتجاوز الأبعاد الجيوسياسية للاتفاق التركي الليبي الخلافات الداخلية بين تركيا واليونان وقبرص، خاصة مع دعوة أثينا الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للتدخل وإدانة التحركات التركية، وتلويحها بإثارة القضية داخل أروقة حلف الناتو، مستغلة فيما يبدو التدهور الواضح في علاقات أنقرة مع واشنطن وأوروبا رغم كون تركيا هي الأخرى عضوا في حلف الشمال الأطلسي.

وفي الواقع يبدو أن هذه القوى جميعا منحازة(10) بشكل كبير للرؤية القبرصية واليونانية حول البحر المتوسط على حساب تركيا، حيث سبق للاتحاد الأوروبي القيام بفرض عقوبات على تركيا في يونيو/حزيران 2019 بسبب أنشطة الأولى في التنقيب عن الغاز قبالة السواحل القبرصية، كما لوّح الاتحاد بفرض عقوبات جديدة بعد تحركات تركيا الأخيرة، ويبدو أن الأميركيين يتبنّون موقفا مماثلا، فبخلاف وجودها العسكري التقليدي في جزيرة كريت؛ عزّزت واشنطن في ديسمبر/كانون الأول للعام نفسه من علاقاتها الأمنية مع اليونان، وفي أبريل/نيسان 2019 ناقش الكونغرس الأميركي قانون شراكة الأمن والطاقة في شرق المتوسط والذي ينص على قيام واشنطن بتقديم مساعدات عسكرية بقيمة تصل إلى 5 ملايين دولار سنويا لكلٍّ من اليونان وقبرص، وفي المقابل، فإن الكونغرس لوّح في أكثر من مناسبة بفرض عقوبات على تركيا بسبب أنشطتها المتوسطية.

 

لا يقتصر الأمر على واشنطن فحسب، حيث تتبنّى فرنسا فيما يبدو نهجا مماثلا في دعم القبارصة واليونانيين على حساب تركيا، ففي يناير/كانون الثاني للعام 2019 أجرت فرقاطة فرنسية مناورات مع السفن القبرصية قبالة سواحل قبرص، وفي 16 مايو/أيار وقّعت باريس اتفاقية مع قبرص منحت السفن الحربية الفرنسية حقّ الرسوّ في قاعدة ماري البحرية القبرصية التي يجري توسيعها لاستيعاب السفن الحربية التابعة للبحرية الفرنسية.

تُفسِّر العديد من الأسباب الاقتصادية والجيوسياسية انحياز دول الناتو وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا لصالح اليونان وقبرص، فمن ناحية فإن شركات الطاقة الأميركية مثل إكسون موبيل والفرنسية مثل توتال تبرز كأكبر المستفيدين من مشاريع التنقيب عن الغاز قبالة السواحل القبرصية، وهي تأمل في فعل الشيء نفسه مع اليونان، ومن ناحية أخرى يبدو أن البيت الأبيض يدعم الخطط "القبرصية – الإسرائيلية – المصرية" للتنقيب المشترك عن الطاقة، ويرى أنها يُمكن أن تُسهم في نهاية المطاف في تقليص اعتماد أوروبا على الغاز الروسي.

توفِّر سياسة الاحتواء المتشدد للناتو هذه منظورا آخر(11) لتفسير تحركات تركيا في البحر المتوسط، فبالنسبة لأنقرة يُعَدُّ هذا الموقف الغربي امتدادا لقائمة طويلة من المواقف التي فشلت دول الناتو خلالها في تفهُّم مخاوف تركيا الأمنية ومصالحها الإقليمية وعلى رأسها الموقف الغربي المنتقد للتدخل التركي ضد الأكراد السوريين، ورفض الولايات المتحدة والناتو دعم مقترح تركيا للمنطقة الآمنة في سوريا، وهو ما دفع تركيا للتلويح بعرقلة خطة دفاع الحلف في البلطيق وبولندا (يتطلّب إقرار الخطة التصويت بالإجماع من دول الحلف) فضلا عن تكرار تهديدها التقليدي بالسماح بتدفق المهاجرين للاتحاد الأوروبي، وفي ضوء ذلك يمكن اعتبار الاتفاق الليبي ورقة تركية جديدة في لعبة الكر والفر التقليدية داخل الناتو، وطريقة خاصة اختارتها أنقرة للاحتجاج على تجاهل مصالحها من قِبل الحلف والضغط من زاوية أخرى.

 

تُدرك أنقرة جيدا أنه لن يمكنها فرض سيطرتها العسكرية كاملة على المناطق البحرية الجديدة التي اكتسبتها بموجب اتفاقها مع ليبيا دون المخاطرة بنشوب صراع عسكري أوسع مع اليونان وداخل الناتو، لذا فإن إستراتيجية تركيا تهدف على الأرجح لخلق واقع افتراضي جديد يهدف إلى منع استقرار توازنات القوى في البحر المتوسط بشكل يخل بمصالح تركيا طويلة الأمد، ويمنح أنقرة مزايا إضافية في أي مفاوضات تتعلّق بترسيم الحدود البحرية وتحديد المناطق الاقتصادية الخاصة في المستقبل.

لكن إستراتيجية تركيا في الاعتماد على حكومة الوفاق الوطني لا تخلو من مخاطر، خاصة في ظل سيطرة حفتر على الجزء الأكبر من البلاد بما في ذلك المناطق الساحلية المضمّنة في الاتفاقية التركية الليبية ما سيخلق صعوبات لوجستية في تنفيذ الاتفاقية وربما يُهدّد بإسقاطها بالكلية حال نجح حفتر في السيطرة على طرابلس.

يبدو أن حكومة الوفاق قررت أن حاجتها إلى الدعم العسكري والمادي التركي المباشر تجنبا للإطاحة بها تفوق حاجتها إلى شرعية رمزية في الوقت الراهن

بخلاف ذلك، من المرجح أن تُسهم الاتفاقية في تفاقم التدخلات الخارجية في الحرب الأهلية الليبية، وفي حين أن أنقرة ستضاعف دعمها لحكومة الوفاق الوطني، فإن خصوم تركيا وعلى رأسهم مصر سيكثّفون من دعمهم لحفتر، ومن المرجح أن يدفع الاتفاق أيضا اليونانيين والقبارصة للإلقاء بثقلهم في الحرب سعيا لدعم حفتر، وحصد المكاسب حال انتهى النزاع الليبي بانتصاره، فضلا عن أن إيطاليا، أحد الداعمين النظريين لحكومة الوفاق، ربما تقرر مراجعة مواقفها هي الأخرى بسبب الاتفاق.

يعني ذلك أن حكومة الوفاق ستواجه بدورها تحديات غير قليلة جراء الاتفاقية الأخيرة، ولما كانت الحكومة تستند في شرعيتها السياسية بشكل كامل إلى الاعتراف الدولي بسلطتها في ظل انحسار نفوذها السياسي والعسكري وضعف هياكلها التنظيمية؛ فإن الاتفاق يمكن أن يُضعف الحكومة التي ربما تخسر الاعتراف الدولي مستقبلا من بعض دول شرق المتوسط، ولكن يبدو أن حكومة الوفاق قررت أن حاجتها إلى الدعم العسكري والمادي التركي المباشر تجنبا للإطاحة بها تفوق حاجتها إلى شرعية رمزية في الوقت الراهن، تماما كما قررت تركيا أن إبراز القوة على الأرض وفرض سياسة الوضع الراهن يُعَدّان أقصر الطرق لرعاية مصالحها، وربما يُعَدّان الطريقتين الوحيدتين لذلك.

اجمالي القراءات 1290
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق