بحث في الجذور.. متى توحش الفقر في لبنان؟

اضيف الخبر في يوم السبت ١٩ - أكتوبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: ساسه


بحث في الجذور.. متى توحش الفقر في لبنان؟

في الغالب عندما نناقش مشكلة الفقر في أي دولة يكون الحديث عن الأسباب في مجملها يدور حول المتغيرات الاقتصادية الرئيسية ونقص الموارد وغيرها من العوامل التي ينتج عنها الفقر بشكل أساسي، لكن في لبنان ظاهرة الفقر ليست بهذه البساطة فعندما تحاول البحث عن الأسباب تجد الأمر تجاوز المتغيرات الاقتصادية تمامًا، وقد يصل الأمر بك إلى مناقشة الطائفية وعدم المساواة وكثير من المشاكل الاجتماعية العديدة التي ربما لا يرتبط ظاهرها بالفقر في الحالات الطبيعية.

ويعتبر الاقتصاديون أن لبنان بلد متوسط الدخل من الشريحة العليا يبلغ عدد سكانه بحسب آخر بيانات «الشركة الدولية للمعلومات» -شركة دراسات وأبحاث وإحصاءات مستقلة تأسست في بيروت في عام 1995- إلى 5.5 مليون نسمة في نهاية عام 2018، بينما تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن العدد نحو 6.8 مليون نسمة.

ويعد تعداد اللبنانيين أحد الأمور المبهمة، إذ لا تصدر إحصاءات رسمية دورية لرصد التعداد كما هو في دول العالم، لكن تظهر بيانات الشركة زيادة ضخمة في أعداد اللبنانيين بين الأعوام 1932- 2018، فقد ارتفعت أعداد اللبنانيين في هذه الفترة بمقدار 4.4 مليون نسمة، أي بنسبة 426%.

في هذه الفترة كذلك حدثت تغيرات كبيرة بالنسبة للطوائف فبعد أن كان المسيحيون في عام 1932 يشكلون نسبة 58.7% من اللبنانيين بينما يشكل المسلمون 40%، انخفضت في 2018 نسبة المسيحيين إلى 30.6% وارتفعت نسبة المسلمين إلى نسبة 69.4%. وهذه النسب موزعة بين أكثر من 15 طائفة، لكن بشكلٍ عام من غير المعلوم على وجه الدقة عدد اللبنانيين المقيمين في لبنان، فعلى أغلب التقديرات عددهم نحو 4.2 مليون نسمة، مقابل 1.3 مليون نسمة، غير مقيمين في لبنان. بينما من هم من أصل لبناني ولا يحملون الجنسية اللبنانية فأعدادهم غير معروفة وتقدر بعدة ملايين.

عدد اللبنانيين تبعًا للانتماءات الطائفية – الشركة الدولية للمعلومات

وبحسب وثيقة صادرة عن البنك الدولي في أبريل (نيسان) 2013، فأن أكثر من 85% من اللبنانيين يعيشون في المدن، ويتمتع اقتصاد البلاد باقتصاد مفتوح، يسهم فيه قطاعا التجارة والخدمات بنسبة 60% من الناتج المحلي الإجمالي ويستحوذ على 73% من الوظائف، ويعتمد الاقتصاد بشكل مباشر على التدفقات الخارجية من اقتصادات دول الخليج العربي، ويقدر نمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنحو 4% سنويًا في الفترة الممتدّة من عام 1997 إلى عام 2010 ووصل فيه نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى 9.904 دولار أمريكي في عام 2011.

ورغم صمود لبنان خلال الأزمة المالية وأزمتي الغذاء والطاقة في 2013 و2014، والتي لم ينتج عنها آثار اقتصادية خطيرة على البلاد؛ إلا أن البلاد الآن تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة، تستلزم معها تطبيق مجموعة من الإصلاحات لوضع الاقتصاد على المسار الصحيح.

تطور الفقر في لبنان

عند متابعة أرقام الفقر في لبنان، تجد أنه من الصعب أن تصل إلى نسبة محددة. فالبنك الدولي لا يقدم أي بيانات تخص هذا الأمر، فالبيانات المنشورة على الموقع تخص فقط عام 2012، إذ حدد البنك المؤشر العددي للفقر عند خط الفقر الوطني بنسبة 27.4%، لكن بداية من الثمانينيات عندما اندلعت حرب أهلية كبرى استمرت لنحو 15 عامًا، وصولًا إلى حرب 2006 مع إسرائيل، والتي تركت لبنان بمليون مشرد داخليًا وأكثر من 100 منزل مدمر، تدهورت الأوضاع الاقتصادية بشكل أكبر.

وكان يشار إلى لبنان سابقًا باسم سويسرا الشرق الأوسط، إذ كان الاقتصاد مزدهرًا، لكنه تُرك في حالة يرثى لها ولم ينتعش بشكل تام حتى الآن. بينما يرى الكثيرون أن نسبة الفقر في لبنان، شهدت ارتفاعًا لافتًا بعد الحرب السورية، إذ تقول دراسة صادرة عن البنك الدولي بالتعاون مع منظمات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي في 2016، أن نحو مليون ونصف المليون مواطن، يعيشون على أقل من أربعة دولار يوميًا، بينما هناك 8% من الشعب اللبناني يعيشون في «فقر مدقع».

6 أسئلة تشرح لك كل ما تريد معرفته عن الحراك اللبناني

ويتهم البنك الدولي النظام السياسي المعقد –يستند تقاسم السلطة لطريقة ديموقراطية طائفية توافقية- وغياب استراتيجية تنمية متوازنة بين المناطق إلى جانب عوامل أخرى، بالإضافة إلى ضعف جودة الخدمات العامة المقدّمة، التي تدفع المواطنين إلى مقدمي الخدمات البديلة الأعلى كلفة، ناهيك عن وجود تفاوتات جغرافية في الرأسمال البشري ساهم في خلق تفاوتات في الظروف المعيشية بين المناطق.

وفي أغسطس (آب) 2018، قال، أديب نعمه، الخبير اللبناني في شؤون التنمية، إن «تقرير لبنان الرسمي إلى قمة كوبنهاغن، قدّر نسبة الفقر بـ28%، وأثبت تقرير التنمية البشرية الأول الصادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) النسبة ذاتها».

في المقابل قدرت أول دراسة شبه رسمية صادرة عام 1998 عن وزارة الشؤون، عدد الأسر الفقيرة بحوالي 32%، 7% منهم فقراء جدًا، وبعد 10 سنوات أي في 2008، صدرت الدراسة نفسها عن وزارة الشؤون وإدارة الإحصاء المركزي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وجاءت النسبة بين 30-31% أيضًا، وفي دراسة للبنك الدولي بالاشتراك مع إدارة الإحصاء المركزي والتي نشرت في عام 2015، أتت نسبة الفقر 27%. وهو ما يوضح أن معدلات الفقر في لبنان متقاربة جدًا منذ التسعينيات وحتى الآن، مع الوضع في الاعتبار أن دراسات الفقر في البلاد غير دقيقة وتعاني الكثير من العشوائية.

التفاوت والفساد.. من هنا بدأ الفقر في التوحش

على الجانب الآخر، يعد التفاوت الكبير بين المحافظات من أبرز سمات الفقر في لبنان، إذ تتركز النسبة الأكبر من الفقراء بصورة ملحوظة في بعض المناطق، بالإضافة إلى أن أكثر من نصف المواطنين اللبنانيين تنفد أموالهم بعد تسديد ثمن الاحتياجات والضرورات الأساسية، بينما يقول 63% من اللبنانيين أنهم غير قادرين على تحمل أعباء الاحتياجات الأساسية في فترة معيّنة.

ويقول تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الدولي بمشاركة وزارة الشؤون الاجتماعية وإدارة الإحصاء المركزي في 2008 بعنوان :«الفقر والنمو وتوزيع الدخل في لبنان» وهو التقرير الأول من نوعه الذي يرسم صورة عن الفقر في لبنان، إذ كشف التقرير عن تفاوت كبير في استهلاك الأفراد في محافظات لبنان، حيث يصل معدل استهلاك الفرد الواحد لأعلى معدلاته في بيروت، ويفوق مرة ونصف المرة متوسط المعدل الوطني، بينما استهلاك المواطن في الشمال ثلاثة أرباع متوسط المعدل الوطني، كما يوضح الشكل التالي.

متوسط استهلاك الفرد – محافظات لبنان

على الجانب الآخر بعد أن كان لبنان يصنف في المرتبة 63 عالميًا في العام 2006 تراجع على مستوى الفساد تراجع في 2007 ليصبح في المرتبة 99 من بين 180 دولة، ثم حل في المرتبة 138 في تقرير الفساد لمنظمة الشفافية العالمية لعام 2018، والذي يرصد درجة انتشار الفساد في القطاع العام، وبحسب المنظمة يبقى الفساد السياسي وتضارب المصالح في صدارة التحديات الكبرى التي تحول دون تحقيق أي تقدم في لبنان.

تطور الإنفاق – محافظات لبنان

ويقول تقرير صادر عن «الباروميتر العربي» -شبكة بحثية مستقلة- إن غالبية اللبنانيين يرون أن الحكومة فاسدة، بينما يرى نحو الثلثين أن الرشوة ضرورية للحصول على خدمات أفضل، كما يستبعد تسعة من كل 10 تحسن الاقتصاد في غضون العامين إلى الأعوام الثلاثة المقبلة.

ويقول استطلاع الرأي الصادر عن الشبكة إن 91% يرون أن الفساد يؤثر على مؤسسات الدولة، بينما يعتقد الغالبية، خصوصًا من فئة الشباب، أن من الضروري دفع رشوة للحصول على خدمات تعليم أو خدمات رعاية صحية أفضل، فيما تعتقد الغالبية كذلك أن الدين لا يمثل حلا للفساد، حيث يرجح نحو ثلثي اللبنانيين أن يكون القادة الدينيون فاسدين كغيرهم من المسؤولين.

عدم المساواة وغياب الأمان الاجتماعي.. آفات غذت الفقر في لبنان

هناك شبه اتفاق بين المؤسسات المالية العالمية على أن شبكات الأمان الاجتماعي في لبنان مفككة وضغيفة وتكاد تكون لا تلعب أي دور في مواجهة الفقر في البلاد، فبحسب البنك الدولي فقد بلغ الإنفاق الحكومي على شبكات الأمان الاجتماعي 1.3% فقط من الناتج المحلي الإجمالي في 2010، وبالتّالي تبقى فعاليته وتأثيره على الفقر محدودَين.

بالإضافة إلى الارتفاع الكبير في نسب الهدر المرتفعة في المساعدات لغير الفقراء وضعف القدرة والتنسيق بين المؤسسات الرسمية الأساسية وغياب البيانات الملائمة والموثوق بها، ناهيك عن أن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على حافة الانهيار، إذ أن صندوق الضمان، الذي يعد المظلة لنحو مليون و430 ألف شخص، يعاني من عجز مالي بسبب عدم تسديد الدولة للاحتياجات الأساسية.

وكان من المفترض أن تسدد الدولة للصندوق نحو ألف مليار ليرة خلال الأعوام 2014 و2015 و2016، لكنها لم تسدد سوى 170 مليار ليرة فقط، بينما في عام 2017 لم تسدد الحكومة أي مبالغ لمصلحة الضمان.

في المقابل فإن المبادرات الخاصة بالأمان الاجتماعي والتنمية المجتمعية التي يمكن أن تدعم سبل معيشة الفقراء والمستضعفين، تكاد تكون غير موجودة، إذ تضطر العديد من الأسر إلى دفع مئات أو آلاف الدولارات من الديون لتغطية النفقات غير المتوقعة مثل الفواتير الطبية الكبيرة، ويعيش ما يصل إلى 20% من المواطنين اللبنانيين في ظل مرافق الصرف الصحي غير المحسنة؛ كما لا يحصل 10% من الأسر الفقيرة على مياه الشرب النظيفة.

ما مدى مسؤولية اللاجئين السوريين والفلسطينيين عن الفقر في لبنان؟

منذ بداية الأزمة السورية والحكومات اللبنانية لا تنفك تُحمّل السوريين أسباب زيادة الفقر في البلاد، لكن مع العرض التاريخي لنسب الفقر في البلاد على مدار آخر عقدين نجد أن هذا الاتهام ربما غير منطقي كثيرًا، فنسب الفقر كانت مرتفعه من الأساس، كما أن الأسباب الداخلية المسؤولة عن تفاقم المشكلة لم يتم حلها لا قبل الأزمة السورية ولا بعدها.

في المقابل أيضًا لا أحد ينكر أن هناك تأثيرًا واضحًا للأزمة السورية على لبنان ومتعدد الأبعاد، خاصة فيما يخص ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية وتكلفة المأوي. وبحسب تقرير صادر عن منظمة «أوكسفام» -اتحاد دولي لـلمنظمات الخيرية التي تركز على تخفيف حدة الفقر في العالم- في 2016 فقد ارتفع عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر في لبنان بنسبة 66% منذ عام 2011، ويقدر البنك الدولي أن 170 ألف لبناني إضافي أصبحوا فقراء بين عامي 2011 و2014.

وتشير المنظمة إلى أن حوالي 350 ألف لاجئ سوري في لبنان غير قادرين على تلبية الحد الأدنى من متطلبات البقاء على قيد الحياة ويعيش 350 ألف لبناني آخر بأقل من دولار واحد في اليوم، لأن الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع، هم أكثر عرضة للتشرد والمرض وسوء التغذية واستراتيجيات المواجهة المحفوفة بالمخاطر، لكن أيضًا لا تزال السياسات والبرامج التي تنفذها الحكومة والجهات المانحة الدولية لتوفير مستوى من الدعم والحماية الاجتماعية أقل من المتوسط.

وفي الوقت الذي قد يشكل فيه الفلسطينيون ما يصل إلى 10% من سكان البلاد، إلا أنهم يفتقرون إلى معظم الحقوق، ويعيش الكثير منهم في مخيمات الأمم المتحدة التي تعيش في فقر مدقع ويُحرمون من الوصول إلى أنواع معينة من العمل، كما أنه لا يتم احتساب اللاجئين في الإحصاءات الرسمية للفقر من قبل الحكومة اللبنانية، وبالتالي تحميل اللاجئين المسؤولية بشكل كامل ربما لا يكون في محله.

وختامًا، يمكن القول إن ظاهرة الفقر في لبنان ترتبط بالكثير من المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والطائفية ولا يكمن تحميلها على أحد هذه المتغيرات دون غيرها، لذلك عندما تقرر البلاد مواجهة الفقر، فعليها العمل أولًا على وجود شبكة أمان اجتماعي حقيقية وفعالة، بالإضافة إلى تعزيز المساواة بين المحافظات، وبرنامج جاد لمحاربة الفساد على كل الأصعدة.

اجمالي القراءات 1470
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق