التكفير كمطلب للدولة المدنيّة

اضيف الخبر في يوم الإثنين ١٥ - أكتوبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: رصيف 22


التكفير كمطلب للدولة المدنيّة

تقف أغلب وجهات النظر الداعية للتسامح موقفاً سلبياً من خطاب التكفير على اعتبار كونه خطاباً يدعو للكراهية، وبالتالي تجب محاربته، إضافةً إلى مطالبتها أحياناً بالحدّ من نشاط الجهات التي تُصدر فتاوى التكفير بحق بعض الأشخاص، إلى جانب سعيها للدفاع عن هذه الآراء من خلال إيجاد أو خلق مساحات تأويلية في النص تضمن بقاء تلك الآراء ضمن دائرة الدين.

مقالات متعلقة :

في الوقت ذاته، تجهد وجهات النظر تلك في محاولة إثبات عدم منافاة أو مصادمة تلك الأفكار للدين، ويغدو التسامح بحسب هذه الرؤية متعارضاً مع التكفير، ويصبح من يطلق عبارات التكفير بحق الآخرين شخصاً غير متسامح بالضرورة، وعليه تغدو إدانة التكفير مطلباً أساسياً لتعزيز كل من التسامح والتعددية.

هكذا تبدو المقاربة التقليدية لخطاب التسامح إزاء مسألة التكفير، لكن النقطة التي سوف أحاول عرضها من خلال هذا المقال هي العكس من ذلك، وهي أن التكفير  - أو بالأحرى السماح به - هو الخطوة الأولى للتسامح.

"حريّة الكفر" كحاجة ضروريّة

كل إدانة للتكفير تقتضي بالضرورة إدانة مضمرة للحريات الدينية، بمعنى أن منع التكفير يعني رفض أن يوصَم الأفراد بالكفر والخروج من الدين، وهو ما يعني رفض أن يكون الخيار الديني خياراً شخصياً، ورفض حق الأشخاص في تبني موقف نقدي تجاه قضايا الدين، وهو أمر يتعامل مع الدين بوصفه "حالة سياسية" تعكس حالة التماهي ما بين الهوية الدينية والهوية السياسية، لتضيف بعداً دينياً محدداً للدولة التي من المفترض أن تكون محايدة في علاقاتها مع مواطنيها بوصفها دولة مدنية.

من الممكن إيجاد وصف عملي لذلك في الجدل الذي كانت قد أثارته رواية الراحل نجيب محفوظ "أولاد حارتنا" عام 1962، بسبب ما بدا للبعض من كونها تضمر استهانة بالدين الإسلامي ورموزه، وذلك من خلال توظيفها للرموز الدينية في سياق واقع اجتماعي(3). كان جلّ المدافعين عن الرواية، وبالتالي كاتبها، يستندون في دفاعهم على محاولات إثبات عدم مخالفة مضمون الرواية للمحتوى الديني، وعدم وجوب قراءتها قراءة دينية(4) وهو ما حدا بهم إلى الانخراط في عملية مرافعة جماعية لنفي تهمة "لا دينية الرواية" أو تهمة معارضتها للدين(5).

ولكن حتى على فرض أن تلك المرافعات نجحت في الدفاع عن نشر رواية محفوظ، فما ذاك إلا لأنها استطاعت إثبات "إسلامية" الرواية وخلوّها من أي ملوثات "لا دينية"، وهو ما يضمر بالنتيجة إدانة أي نص يفشل في اختبار السلامة أو النقاء الديني.

قبل كل شيء، لا بدّ من الإقرار بفكرة أن الدين – أي دين - يقتضي بالضرورة الاعتقاد بمعتقدات معيّنة تحدّد ماهيته العامة، وتُرسَم من خلالها حدود الانتماء لهذا الدين عن غيره، إذ لا يصبح للدين معنى من دونها فقبول الشخص لدين ما ليس أكثر من إقرار الشخص نفسه البقاء ضمن دائرة المعتقدات تلك. ومن ثم يصبح الخروج عنها خروجاً عن الدين ذاته. فثنائية المؤمن والكافر تحدّدها وضعية هذا الشخص بالنسبة "للمعتقدات المؤسسة" للدين، والإيمان بمعتقدات معينة يتضمن بالضرورة رفضاً لما يناقضها من معتقدات لأن المؤمن بمعتقد معين هو بالضرورة كافر بما يخالف هذا المعتقد، وإلا لا يكون لإيمانه معنى حقيقياً ما دام يؤمن بالمعتقد ونقيضه.

وبناء على ذلك، فإن وصف الكفر بالنسبة لشخص ما هو وصف لوضعيته خارج دائرة هذا المعتقد. وعلى ذلك يصبح التكفير جزءاً أساسياً من أي منظومة دينية، لا يمكن بدونها لأي دين أن يحتفظ بماهيته وحدوده التي تفصله عن بقية المنظومات الدينية والأيديولوجية الأخرى التي تعارضه في مبادئه الأساسية أو "معتقداته المؤسِّسَة".

 
كل المحاولات تبقى قاصرة ما لم تسعَ إلى جعل مسألة الدين خياراً شخصياً، وذلك من خلال العمل على نقد وتفكيك المنظومة القانونية والتشريعية التي تكرّس ذلك التماهي ما بين الدين والهوية السياسية

وإذا كان "التكفير" على هذا الأساس حاجة أساسية لأي منظومة دينية، فإن "حرية الكفر" في المقابل تغدو حاجة ضرورية لأي منظومة فكرية حرة. ليس هذا وحسب بل حاجة للدين ذاته، إذ ليس ثمة معنى لاعتناق الشخص لدين لا يملك حرية الخروج منه.

مع ذلك لا يمكن اعتبار التكفير فعلا وصفياً وحسب، لأن التكفير ليس مجرد إعلان عن اختلاف وجهات نظر حيال خيارات الشخص العقائدية أو الفكرية إزاء العقائد الأخرى، لأن اعتبار الدين كمسألة ذاتية، بين الفرد وذاته، لا يقوله التاريخ ولا الدين ولا السياسة. لقد ظل الدين ولا يزال مشتبكاً إلى حد كبير بالسياسة والمجتمع بشكل عام، حيث يعمل على تأسيس بنى وروابط اجتماعية وسياسية، يصعب معها اعتباره مسألة أو خياراً شخصياً.

بيد أن هذه "الواقعة" التاريخية لا يجب أن تحملنا على التسليم بها طالما أردنا خلق أرضية حقيقية للتسامح والتعددية.

إشكاليّتا التكفير بين الطابع القانوني واللامؤسسي

تثير مسألة التكفير إشكاليّتين على الأقل.

تندرج الأولى منهما في سياق "التكفير" داخل المنظومة القانونية والتشريعية في نطاق مؤسسات الدولة، وانعكاس ذلك على الوضعية الاجتماعية والقانونية المترتبة على وصف الشخص بالكفر أو الردة، كما ينعكس في إحالة العديد من دساتير الدول العربية إلى بعض التشريعات الدينية.

هي إحالة لا تُفضي إلى خلق منظومة تشريعية ذات بعد ديني فحسب، بل تؤسس لإضفاء بعد سياسي ووطني للهوية الدينية.

وبدلاً من أن تصبح المنظومة الدينية "منظومة مفتوحة" متعلقة بقناعات وخيارات الشخص، تصبح وفق هذا التأسيس "واقعاً" لا خيار للشخص سوى في قبوله بوصفه "ثابتاً" أساسياً في هويته الوطنية والاجتماعية، الأمر الذي يجعل من خياراته المتعلقة "سلباً" بالدين بشكل عام - أو حتى تلك التي تفسر على أنها سلبية - ذات تبعات اجتماعية وسياسية باهظة الثمن أحياناً.

وهي في الواقع النتيجة المنطقية التي يقود إليها تأسيس المنظومة التشريعية للدولة على بعض الأسس الدينية، كما هو الحال في تشريعات بعض الدول العربية على الخصوص، والتي ترقى فيها الهوية الدينية لأن تكون هوية "سياسية واجتماعية"، تفضي محاولة الفكاك منها إلى عقوبات تتراوح من التجريد من الإرث والحضانة والزواج، وصولاً إلى السجن أو الإعدام(6).

 

 

ابتهال يونس وإلى جانبها صورة زوجها نصر حامد أبو زيد

 

 

تُعد حالة المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد أحد أهم الأمثلة على هذه الإشكالية، وذلك بسبب الحكم الذي قرّرته محكمة النقض في 14 يونيو 1995 والقاضي بالتفريق بينه وبين زوجته ابتهال يونس، على خلفية بعض الآراء التي وردت في كتبه والتي تم اعتبارها غير متسقة مع الدين بل ومناقضة له، وهو ما اعتُبر "ردة دينية" حُكم على أساسها بالتفريق بينه وبين زوجته على أساس استحالة زواج المسلمة من غير المسلم(7). 

أما الإشكالية الثانية فتتعلق بالجانب التاريخي العنيف المرتبط بفكرة الكفر أو الردة. ما يميّز المضمون "العنفي" الذي تثيره هذه الإشكالية عن ذاك الذي رأيناه في الإشكالية الأولى، هو الطابع "اللامؤسسي" في ممارسة العنف لجهة حدوثه خارج إطار مؤسسات الدولة القانونية والتشريعية.

وفق هذا المنطق، تبرّر بعض المقولات - الفقهية والتاريخية المتعلقة بالتعامل مع مسألة الكفر-  للأفراد تطبيق ما يرون أنه العقوبة الشرعية بحق المرتد، مثلما حدث مع الراحل فرج فودة، وهو ما عكسته بكل وضوح شهادة الشيخ محمد الغزالي أمام محكمة أمن الدولة العليا في مصر على خلفية مقتل فودة حيث صرّح في شهادته بأن قاتل الأخير قد "أدى ما كان يجب أن تقوم به السلطة" من وجوب قتل المرتد، وليس ثمة خطأ في ما ارتكبه سوى في افتئاته على السلطة وهو أمر لا يترتب عليه عقوبة محددة(8).

أحد المتهمين بقتل المفكّر المصري فرج فودة

كل هذه المحاولات تبقى قاصرة ما لم تسعَ إلى جعل مسألة الدين خياراً شخصياً، وذلك من خلال العمل على نقد وتفكيك المنظومة القانونية والتشريعية التي تكرّس ذلك التماهي ما بين الدين والهوية السياسية. 

 

وإذا كان التسامح لا معنى له من دون وجود اختلاف، وكان الاختلاف الديني - المعبّر عنه بالكفر - هو اختلاف جذري وعميق بحسب التصور الديني، فإن ذروة التسامح في الخطاب العام تكون حينما يستطيع هذا الخطاب أن يتصور مسألة التكفير كمجرّد إعلان "اختلاف في الآراء".

بمعنى أن خطاب التسامح، بدلاً من أن يرى في التكفير خطاب كراهية ويجهد في محاولات مضنية لإدانته، يجب عليه أن يجهد في إحالة مسألة التكفير هذه من كونها مسألة سياسية وهوياتية إلى مجرد نوع من التعبير عن الاختلاف، محاولاً في الوقت ذاته إزالة الأبعاد المتعلقة بالعنف والكراهية منها، وذلك من خلال فصل مآلاته الأخروية عن الدنيوية.

عندها فقط يمكن أن تكون مسألة الدين شأناً شخصياً، بينما يفقد التكفير كل اعتباراته السياسية والاخلاقية، ليصبح مجرد وصف بحت لموقف "لا تنطبق عليه معايير دينية ما"، دون أن يترتب على ذلك انتهاكٌ للحقوق الأساسية للأشخاص. وهو الأمر الذي من شأنه أن يخلق أرضية متماسكة لتعّددية فكرية ودينية. من دون ذلك، يمكن لتهمة الكفر أن تصبح في أي لحظة تهمة توازي عقوبة تزييف النقود(9). 

اجمالي القراءات 2035
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق