مقدّسات ومحرّمات وحروب.. هل هناك حلول لألغاز الثقافة المطلقة؟

اضيف الخبر في يوم الأربعاء ٢٠ - يونيو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: ساسه


مقدّسات ومحرّمات وحروب.. هل هناك حلول لألغاز الثقافة المطلقة؟

أعطى الرب لكل آدمي كأسًا من صلصال، ومن هذه الكؤوس شربوا حيواتهم.. انغمر الجميع بالماء لكن كؤوسهم كانت مختلفة. أسطورة لدى الهنود الحفارين

تعني الأسطورة أنك إذا كنت تؤمن بأنه ليس هناك من حل للغزٍ ما، فلن تجد هذا الحل على الإطلاق، وهو ما يحاول الباحث مارفن هاريس في كتابه «مقدسات ومحرمات وحروب: ألغاز الثقافة» إثباته مع صف من الجامعيين الباحثين، بمبدأ أنه كي نفسر العناصر المختلفة للثقافة يجب أن نبدأ بافتراض أن الحياة الإنسانية ليست نتاج نزوة أو محض عشواء، وأن أنماط الحياة التي عدها الآخرون مطلقة إنما كانت في واقع الأمر قضايا ذات دوافع سهلة الفهم، ومقاومة ميلنا لتثمين التفسيرات المروحنة للظواهر الثقافية، أكثر من التفسيرات الواقعية المادية.

صدر الكتاب محط حديثنا «مقدسات ومحرمات وحروب: ألغاز الثقافة» لعالم الأنثروبولوجي مارفن هاريس عن ترجمة لأحمد م. أحمد، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والذي صدرت طبعته الأولى من بيروت شباط (فبراير) 2017، فسر فيه الكاتب مطلقات عالمنا من تحريم أكل البقرة، وكراهية الخنزير، وانتظار المخلِّص لنا وقت الحروب والكوارث، واشتهاء الإنسان البدائي للدم والقتل، وغيرها من الظواهر التي ربما ما كنا لنفكر في أصلها لسبب ديني أو غيره، وهو ما سنعرضه في هذا التقرير.

لماذا لا نأكل الخنازير؟ الإجابة مفاجأة

يعرف الكثير أمثلة عما يبدو أنها عادات غذائية لا عقلانية. فيحب الصينيون لحم الكلاب، لكنهم يحتقرون حليب البقرة، ونحب حليب البقرة، لكننا نرفض أكل الكلاب، وبعض القبائل في البرازيل تحب النمل، وتزدري لحم الغزال، والأمر ينسحب على كل بقاع العالم تقريبًا.

وضع مارفن هاريس نصف اللغز المعروف الذي يتعلق بكارهي الخنزير عند اليهود والمسيحيين والمسلمين، وهو جزء تحريمه في الدين، فظهر في سفر التكوين مرة وفي سفر اللاويين ثانية أن الخنزير نجس، وأنه بهيمة تسبب الدنس إذا جرى تذوقها أو لمسها، وبعد قرابة 1500 عام، قال الله لنبيه محمد القول نفسه عن الخنزير، وهنا أصبح الخنزير ممقوتًا عند ملايين اليهود، ومئات ملايين المسلمين على الرغم من حقيقة أنه يستطيع تحويل الحبوب والدرنيات إلى دهون عالية الدرجة وبروتين بكفاءة تفوق أي حيوان آخر، إذن لماذا حرم دينان جليلان أكل بهيمة محببة عند الشطر الأكبر من الجنس البشري؟

 


صورة من مزرعة غوردون وجانين لوكي عام 2009

 

بحث مارفن خلف تفسير قدَّمه أكاديميون بأنه قبل عصر النهضة كان الخنزير شائعًا على أنه حيوان قذر بالمعنى الحرفي؛ لأنه يتمرغ في بوله ويأكل البراز، لكن ربط القذارة الفيزيائية بالمقت الديني يؤدي إلى التناقض، ذلك أن الأبقار التي تُربى ضمن حيز مغلق تغوص هي الأخرى في بولها وروثها، كما أن الأبقار الجائعة، والكلاب، والدواجن تأكل بإقبال البراز البشري، ولعل القدماء تعلموا أن الخنازير التي تربت ضمن حظائر نظيفة أصبحت دواجن منزلية شديدة الحساسية.

عاد مارفن بالتاريخ عندما وعت الحاخامية اليهودية في مطلع عصر النهضة على هذه التناقضات، فتقدم موسى بن ميمون، طبيب بلاط صلاح الدين في القرن الثاني عشر، في القاهرة، بتفسير أن الرب قصد من وراء الحظر نظامًا صحيًّا شعبيًّا، لكن لم يقدم ميمون توضيحًا لتفسيره، حتى في منتصف القرن التاسع عشر، فيُكتشف أن أكل لحم الخنزير غير مكتمل الطهو يسبب داء الشعرية (TRICHINOSIS).

ولكن ما لم يجعل فرحة الأصوليين تكتمل هو سؤال ذوي العقلية الإصلاحية: لماذا لو شاء الرب حماية صحة شعبه لم يأمرهم بأكل لحم الخنزير المطبوخ جيدًا بدلًا من عدم أكله كليًّا؟ كما أنه لماذا الخنزير تحديدًا؟ فلحم العجل غير مكتمل الطهي مصدرًا للطفيليات والديدان الشريطية، كما الأبقار والأغنام والماعز الناقلة لداء البروسيلا والحمى المالطية والجمرة الخبيثة، وهي الأمراض التي قد تقتل على عكس الخنزير؟

عرض مارفن في كتابه بحوث لتثبت أن الخنازير جنبًا إلى جنب مع سائر الحيوانات المحرمة في الكتب المقدسة، كانت في ما مضى رموزًا طوطمية بالنسبة لعشائر قبلية مختلفة، لكن لو جعلنا هذا الاحتمال صحيحًا فإنه ينبغي أن نقبل أن تكون حيوانات أخرى غير نجسة، مثل الأبقار والأغنام والماعز، كانت رموزًا طوطمية في ما مضى، ولكن رد مارفن جاء من الكثير من الكتابات عن موضوع الطوطمية، فإن الطواطم لا تكون عادة من الحيوانات ذات الأهمية كمورد للغذاء، والطوطمات الأكثر شعبية بين قبائل البدائيين في أستراليا وأفريقيا كانت من الطيور غير المفيدة، والحشرات، والجمادات، كالغيوم والصخور، لكن كيف أصبح الخنزير طوطمًا في منطقتنا قديمًا؟

يعود السبب الرئيسي -وفقًا لمارفن هاريس – في ذلك إلى أن مناطق البداوة في العالم تنسجم مع السهول والتلال التي تعتمد في ريها على الأمطار، كما لا يمكن ريها بسهولة يدويًّا، لذلك تكون الأبقار والغنم والماعز أكثر تكيفًا لقدرة معدتها على هضم العشب والأوراق بكفاءة، عكس الخنزير الذي يعيش على ضفاف أنهار مظللة، لا يعيش على العشب وحده، كما أنه ليس مصدرًا عمليًّا للحليب، ولا يمكنه الانتظام ضمن قطعان، فوق ذلك فإنه من ناحية الديناميكية الحرارية سيئ التكيف مع المناخ الحار والجاف في النقب، ووادي الأردن، وباقي مناطق الكتب المقدسة، فهو لا يملك صوفًا كثيفًا، فيموت إذا تعرض للشمس، لذا فلتربيته يجب حفر وحل لكل حيوان يتمرغ في طينه عندما يجف جلده، ما يجعل تدجينه مهلكًا ومكلفًا ومن دون جدوى، إلا عند ذبحه فقط لأكل لحمه، وهي مواصفات تجعل منه حيوانًا بكل صفات الطوطم ليكون الخنزير محرمًا لأنه «كان مقدسًا».

هل كان الإنسان البدائي في حربه يشبع غريزة القتل فقط؟

لماذا تبدأ قبيلة الجيفارو (jivaro) حملة لصيد رؤوس العدو وانتزاع أرواحهم، كما يتوق محاربو الكراو (crow) إلى لمس جثة العدو ليبرهن على شجاعته، ويتأثر مقاتلون آخرون بفكرة الانتقام، وآخرون بإمكانية أكل البشر؟ أسئلة مقززة ولكن هل من تفسير لها؟

نادرًا ما يقبض المولعون بالحرب أنفسهم على الأسباب والعواقب المنهجية للمعارك البدائية. فهم يميلون إلى تفسير الحرب خلال وصف ما اختبروه من المشاعر والدوافع الذاتية قبيل اندلاع الخصومات مباشرة. ولكن بما أن للحرب عواقب مميتة على المشاركين فيها، يُعد الشك في أن المقاتلين يعرفون السبب من وراء قتالهم، ضربًا من الوقاحة.

 


تمثال لرجل من العصر الحجري القديم في ملاجئ الصخور في الهند

 

برر مارفن في الكتاب ذهاب البدائيين إلى الحرب لافتقادهم إلى الحلول البديلة لبعض المشكلات، حلول تقل فيها المعاناة والموت قبل الأوان، وأدرج تفسير المارينغ -كما كثير من المجموعات البدائية الأخرى- سبب ذهابهم إلى الحرب من منطلق الحاجة إلى الانتقام من الأفعال العنيفة، فقد بدأت الجماعات التي تعايشت بسلام لعقود بإشعال حروب بعضها ضد بعضها الآخر في إثر الادعاءات بحدوث ممارسات عنيفة، تتمثل في التحرشات الأكثر مصادفة باختطاف النساء والاغتصاب، والتصويب على خنزير يأكل من بستان شخص غير صاحبه، وسرقة المحاصيل، والصيد دون إذن، وفي إحدى المرات تورطت جماعتان من المارينغ في حرب سُفك فيها كثير من الدماء، كانت فيها كل ضحية على أرض المعركة توضع في حسبان أقاربها الذين لم يكونوا ليشعروا بالرضا حتى تتعدل الحصيلة بقتلهم أحد الأعداء ممن كانوا السبب في قتل أب أو أخ منذ 10 سنوات خلت.

ما يهم هنا هو أن الصراع الحربي البدائي لا ينجز تأثيراته المنظمة أساسًا من خلال الموت في المعركة، وهو ما جعل اهتمام مارفن في هذا الفصل ينصب على إجابة سؤال: ما إذا كان القتال والتجاور الإقليمي يُنتج ما يطلق عليه على نطاق واسع «الضغط السكاني»، وهو بدء اقتراب الكثافة السكانية من مرحلة نقص الغذاء، أو فور بدئها بالنمو والاستهلاك بمعدل سيقلل أو يستنزف عاجلًا أم آجلًا طاقات ديمومة الحياة في بيئتها.

وضح مارفن بشرحه الأمر أكثر، فإنه لقرون طويلة امتلكت معظم المجتمعات البدائية مثل المارينغ، تقنيات مؤسساتية للحد من النمو السكاني وخفضه إلى ما دون «المتاح» بكثير، وكان على هذا الاكتشاف أن أربك بعض الخبراء، على اعتبار أن بعض المجموعات خفضت العدد السكاني والاستهلاك قبل وقوع أي عواقب سلبية ملموسة بتجاوزهم المتاح والكافي لبقاء المجتمع، وكانت النتيجة أن الجماعات التي اتبعت مؤسسات خفض النمو نجت بثبات أكبر من الجماعات الأخرى التي تجاوزت الحد، ومن هنا أجمع الخبراء على أن الصراع البدائي ليس نزويًّا ولا غرائزيًّا، بل هو إحدى تقنيات الخفض التي تساعد في إبقاء عدد السكان في حالة من التوازن البيئي بالنسبة إلى مواطنهم. ومن هنا يمكن استنتاج أن الحرب كانت جزءًا من استراتيجية التكيف المرتبطة بأوضاع بيئية، ولدينا كل ما يدعو للأمل في أنه عندما تقتنع الإنسانية أنها ستخسر في الحرب أكثر مما يمكنها أن تجنيه، لتبحث عن وسائل أخرى لحل النزاعات بين الجماعات.

كيف تفوَّق الرجل «الهمجي» على المرأة؟

هناك آراء بأن الاختلافات الجنسية الفطرية لا تفسر التوزيع غير المتكافئ للامتيازات والصلاحيات بين الرجال والنساء، ضمن المجالات المنزلية والاقتصادية والسياسية، غير أن مؤيدي الحركة النسائية لا ينكرون أن امتلاك مبيضين بدلًا من الخصيتين يقود بالضرورة إلى أنواع مختلفة من التجارب الحياتية، وإنما ينكرون وجود شيء ما في الطبيعة البيولوجية للرجل والمرأة يقرر في حد ذاته أن يستمتع ذكور البشر بامتيازات جنسية، واقتصادية، وسياسية، أكثر من الإناث.

أسس مارفن في الكتاب لفكرة أنه بصرف النظر عن الإنجاب والتخصصات ذات الصلة الجنسية، لا يأتي إسناد الأدوار الاجتماعية على أساس الجنس تلقائيًّا بمراعاة الاختلافات البيولوجية بين الرجال والنساء، فلا يمكن للفرد منا من خلال الاطلاع على الحقائق البيولوجية والتشريح البشريين وحسب أن يتنبأ بأن الإناث سيكن التابع اجتماعيًا، وذلك لأن الجنس البشري فريد في المملكة الحيوانية، فوسائله الأساسية للتكيف البيولوجي هي الثقافة لا التشريح، فلا يحكم الرجال النساء لأنهم أضخم وأطول جثة، إلا إذا وجدنا الماشية والأحصنة تحكمنا.

 

 

سرد مارفن اعتقاد مختلف المنظرين الذين عاشوا في القرن التاسع عشر، وعلى سبيل المثال منهم فريدريك إنغلز الذي حصل على أفكاره من عالم الأنثربولوجيا الأمريكي لويس هنري مورغان أن فوقية الذكور هي عبارة عن حالة من «ردة الفعل الحازم»، أو ما دُعي «تضخيم التحول»، وهو ما قد يسبب فوضى في الخطابات العامة التي تضخم أفكارًا وقت الحرب، فكلما كان الذكور أشرس ازدادت الحرب، وكانت الحاجة للمزيد من هؤلاء الذكور أكبر، وكلما كان الذكور أشرس أيضًا، أصبحوا أكثر عدوانية جنسيًّا، وازداد استغلال الإناث، وسادت حالة تعدد الزوجات للرجل الواحد، وهو التعدد الذي يسهم في إنقاص النساء لدى الذكور الصغار، فإن الآباء يخطبون بناتهن الرضيعات لذوي السلطة ليبادلونهن من أجل زواجهم الخاص، فتكون جميع إناث القبيلة متزوجات، الذي يترك الشبان دون أي مصدر لإشباع رغباتهم الجنسية، ما يعزز دافع الذهاب للحرب، ومن ناحية أخرى تعامل الإناث بازدراء ويُقتلن في مهدهنّ، ما يجعل الذهاب للحرب ضروريًّا للحصول على زوجات من أجل تربية أعداد إضافية من الرجال العدائيين.

لفهم العلاقة بين شوفينية الذكور والحرب، من الأفضل دراسة أساليب حياة مجموعة محددة من أنصار التمييز الجنسي من العسكريين البدائيين، مثلما فعل مارفن بكتابه، فسرد دراسته عن قبيلة، وهي اليانومامو، مجموعة من حوالي 10 آلاف رجل من رجال القبائل الهندية الأمريكية، الذين يقيمون على حدود البرازيل وفنزويلا، وصفوا بـ«الشعب الشرس»، فهم من أكثر المولعين بالحرب عدوانية، ومن أكثر المجتمعات توجهًا للذكور في العالم، فيتشاجرون من طفولتهم ويزدرون النساء إلى حد كبير، ويشوه أجسادهن المغررون والمغتصبون والأزواج، بالضرب وقطع أجزاء من أجسادهن بالمنجل والأسهم والفؤوس، وحبسهن داخل قفص من سيقان البامبو دون طعام طوال فترة الحيض.

أشار مارفن لسبب نقص النساء، وخطوبة الرضيعات، والزنا، وتعدد الزوجات، وأخذ الأسيرات الإناث إلى أن الجنس سبب حرب اليانومامو، لكن الحقيقة الوحيدة التي لا تفسرها النظرية أن النقص في النساء يحدث من صنيع اليد، بقتل الأطفال الإناث عمدًا، من أجل أن يكون المولود الأول ذكرًا، فتضع الأم عصا على حنجرة الطفلة وتقف على طرفي العصا، حتى تلفظ أنفاسها، ولكن بالنظر إلى المصاعب التي سيتحمَّلها الرجل للحصول على زوجة، فيجب أن تتوفر قوة أكثر جبروتًا من الجنس تقوده للتخلُّص من المصدر الأصلي لشهوانيته، وهو بقاؤه حيًّا، وضمان طعام الغد، مع النظر إلى أن هذه القبائل كان لديها ما يكفيها لسنوات من محصول عام واحد. ولكن ألا يمكن اعتبار المرأة مساهمة بفاعلية في الاستغلال الواقع عليها؟

من الصحيح أن رجال اليانومامو يفضِّلون الأبناء على البنات، وأن المرأة التي لا تلد ذكرًا سوف تتعرض للازدراء من زوجها والضرب أحيانًا، لكن لماذا لا تلد النساء في الغابة بعيدًا عن القرية دون أن تقتل الإناث، أو تمارس القتل الانتقائي ضد الذكور؟ السبب ليس إجبار الزوج فقط على القيام بذلك، فهناك طرق كثيرة للالتفاف حول رغبات الرجال، إلا أنها مؤمنة بضرورة ذلك، ففي قبيلة اعتمد أسلافها على الصيد، والذي يقوم به الرجال، فإن وجود نسبة رجال تفوق النساء يعني المزيد من البروتين والغذاء (المعتمد على الصيد) للفرد الواحد، لأن الرجال هم الصيادون، كما يعني تباطؤًا في معدل النمو السكاني، وهنا لن تضطر القبيلة للحرب إلا في مقابل تربية الأبناء.

في الهند: اذبحني ولا تذبح بقرتي!

ماذا عن تلك الأبقار التي يأبى الفلاحون الفقراء في الهند أكلها؟ سؤال يحب المتخصصون طرحه للتحدث عن العقلية الشرقية المبهمة، والحياة غير العزيزة على المجتمع الأسيوي، فهم لا يدركون أن الهندي يفضل أن يأكل بقرته على أن يتضور جوعًا، لكن واقع الأمر أنه سيتضور جوعًا إذا أكلها، وفي الكتاب فسر مارفن هاريس هذه الحال المتناقضة.

على الرغم من دعم التشريعات المقدسة وحبّ البقرة، ثبت أحيانًا تحت ضغط المجاعة أن أكل البقر لا يمكن مقاومته. فخلال الحرب العالمية الثانية، حلَّت مجاعة كبيرة في البنغال نتيجة للجفاف المتكرر والاحتلال الياباني لبورما، فبلغ ذبح الأبقار وحيوانات الجر مستويات مقلقة في صيف 1944 حتى إن البريطانيين اضطروا إلى استعمال قواتهم العسكرية لتطبيق شرائع حماية البقرة. وفي عام 1967 ورد في صحيفة نيويورك تايمز:

«الهندوس الذين يواجهون الموت جوعًا في منطقة بيهار التي ضربها الجفاف يذبحون الأبقار ويأكلون لحومها، على الرغم من أن تلك الحيوانات مقدسة في الديانة الهندوسية»، وعلق المراقبون: «كان بؤس الناس أبعد من الخيال».

 


صورة طفل في معبد هامبي بالهند

 

بمقاربة صنعها مارفن للمزارع الهندي أنه حين يذبح بقرته أو يبيعها قد يجني بعض الروبيات، أو يحسِّن مؤقتًا من غذاء عائلته، لكن على المدى الطويل، فهو يحفر قبره بيديه، فقد تكون هناك نتائج نافعة لرفضه بيعها إلى المسلخ، أو قتلها لغرض الطعام. فثمة مبدأ راسخ في التحليل البيئي يشير إلى أن مجتمعات الكائنات الحية لا تتكيف إلا مع الشروط القصوى، الأمر ذو الصلة في الهند مع الاحتباس المتكرر للأمطار الموسمية، فمن أجل تقويم الأهمية الاقتصادية لمحرمات حظر الذبح والأكل لا بد من الاطلاع على تفسير لذلك.

تطرق مارفن أيضًا إلى احتمالية أن يكون التحريم الواقع على الذبح للعجول نتيجة اصطفاء طبيعي يتفق وحجم الأجساد الصغيرة لسلالات الأبقار الدربانية وإمكان تعافيها المذهل. وقد يخاتل المزارعون في فترات الجفاف والمجاعة إغراء لا يُقاوم بقتل ماشيتهم أو بيعها، لكنه إغراء نهايته القضاء عليه وعلى أسرته، فحتى إذا نجوا في تمرير فترة الجفاف ريثما تأتي الأمطار، فإنه لن يكون بمقدورهم حراثة حقولهم، فالذبح الجماعي للقطيع تحت وطأة المجاعة يشكل تهديدًا على بقاء البشر أحياء، وهو أشد هولًا من أي حساب خاطئ محتمل يجريه المزارعون في ما يتعلق بجدوى حيواناتهم في الأحوال العادية.

ويبدو أنه من المحتمل أن ثمة جذورًا لتحريم ذبح البقرة، إذا تعلق الأمر بالتناقض المؤلم بين الحاجات الملحة وشروط البقاء على قيد الحياة على المدى الطويل، فإن حب البقرة برمزيته المقدسة وعقائده الورعة يقي المزارع من إجراء الحسابات التي تعد «عقلانية» على المدى القصير لا أكثر.

اجمالي القراءات 2159
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق