كتاب معالم في الطريق.. دستور سيد قطب الذي تنهل منه كل تنظيمات الإرهاب

اضيف الخبر في يوم السبت ١٨ - نوفمبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: العرب


كتاب معالم في الطريق.. دستور سيد قطب الذي تنهل منه كل تنظيمات الإرهاب

معالم في الطريق.. دستور قطب الذي تنهل منه كل تنظيمات الإرهاب

  • الإرهاب أو التطرف الديني ليسا فقط أعمالا متوحشة أو قتلا على الهوية أو إقصاء للآخر، بل هي أيضا فكرة مغالية وقصوية مؤسسة لكل ما سبق إيراده. درجت الإنسانية على الاحتفاء بالأفكار الكبرى الطامحة للتغيير الاجتماعي أو الاقتصادي، والتي على اختلافها كانت هديا للساسة ولرجال الاقتصاد ولغيرهم، وكل تلك الأفكار الكبرى كانت تبحث عن تحسين عيش الإنسان أو تخليصه من هنات سابقة في التاريخ. لكن للتطرف أيضا “أفكاره الكبرى” المؤسسة له، والتي يمكن اعتبارها، بدورها، مناهل أو سنن الإرهابيين أو دساتيرهم. من الكتب التي لا تموت في هذا الصدد، كتاب “معالم في الطريق” لسيد قطب، الصادر عام 1973، الذي جنح فيه إلى ابتكار مفاهيم قسمت العالم إلى فسطاطين: عالم مؤمن وعالم جاهلي و”المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم، أي كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده، متمثلة هذه العبودية في التصوّر الاعتقادي، وفي الشعائر التعبدية، وفي الشرائع القانونية”. و”وكل أرض تحارب المسلم في عقيدته، وتصده عن دينه، وتعطل عمل شريعته، فهي دار حرب ولو كان فيها أهله وعشيرته وقومه وماله وتجارته، وكل أرض تقوم فيها عقيدته وتعمل فيها شريعته، فهي دار إسلام ولو لم يكن فيها أهل ولا عشيرة ولا قوم ولا تجارة”. من هذه المنطلقات، وغيرها من المفاهيم المبثوثة في كتاب “معالم في الطريق” رسم قطب معالم واضحة اهتدت بهديها كل التيارات الإرهابية التي نشطت في العالم العربي والإسلامي وفي غيره. كتاب “معالم في الطريق” على أهميته بالنسبة للتيارات الإسلامية، ولشتى المشغولين بتتبع مسارات الأفكار المتطرفة، هو حلقة في سلسلة المناهل التي تنهل منه تلك التيارات، فهو كتاب لا ينفصل عن إرث ابن تيمية وأبوالأعلى المودودي وحسن البنا، وهو أيضا لا ينفصل عما جاء بعده من أدبيات طالما عُدّت أرضيات فكرية لتيارات الإرهاب والتطرف مثل “إدارة التوحش” لأبي بكر ناجي، حيث ورد في قول أحمد عبدالمجيد (أحد قياديي جماعة الإخوان) “حدث تغيير في أفكار سيد قطب، فعندما كان في مستشفى ليمان طرة، طلب من أسرته كتب الشهيد حسن البنا، والأستاذ أبوالأعلى المودودي، فبدأ يتنبه إلى أمور كانت غائبة عنه، خاصة في ضرورة التركيز على موضوع العقيدة، ثم بدأ يطلب كتب ابن تيمية وابن القيم، وبدأ التغير في تفكيره وكتاباته”.

أدبيات قديمة تزود التشدد الراهن بكل معداته الفكرية

ذهب “كتاب معالم في الطريق” لسيد قطب بالفكر الإسلامي المنغلق الذي كان يحمله أفراد جماعة الإخوان المسلمين في بداياتها إلى أقصاه، حيث كان يحصل قبل ذلك نوع من الاعتدال السلوكي بفعل أمزجة الأشخاص، فضلا عن أن الجماعة كانت تعيش في حالة تطبيع مع الواقع السياسي في فترة الحكم الملكي، ما سمح لها بتوسيع دائرة الأنصار واستقطابهم تدريجيا والإيحاء لهم بأن الجماعة لا تتبنى العنف أو الإكراه.

لكن مع صعود الرئيس المصري جمال عبدالناصر إلى السلطة وسعيه لتطويق الجماعة خوفا من أن تتحول إلى قوة تهدد سلطته الوليدة، بدأ الاصطدام معها سريعا (حادثة المنشية 1954)، ثم تأزمت العلاقة إلى الأقصى في بداية الستينات من القرن الماضي، وهو ما جسدته ردات الفعل الإخوانية ذات الطابع العنيف من جهة، والأحكام القضائية العالية التي أصدرها قضاء الزعيم من جهة ثانية.

في رحم هذا الصراع جاء كتاب “معالم في الطريق” ليمضي بالفكر الإخواني إلى منتهاه، أي إلى النموذج الأمثل الذي يريد أن يحققه للناس، وعلاقته بخصومه، وجاء هذا الكتاب ليؤسس لاستعلاء الجماعة وخصها لوحدها بالإيمان والحكم.

ولم يكن سيد قطب منظّرا من خارج الجماعة، أو من قائمة الغاضبين على “اعتدالها” أو تقيّتها ومهادنتها للواقع، بل كان في قلب المنظومة الإخوانية، وأحد المعبّرين بامتياز عن حلمها، وهو ما عبّر عنه حسن الهضيبي المرشد الإخواني حينها.

وروت زينب الغزالي أن حسن الهضيبي اطّلع على الكتاب، وصرّح لسيد قطب بطبعه. وحين سألت الغزالي الهضيبي قال لها “على بركة الله، إن هذا الكتاب حصر أملي كله في سيد، ربنا يحفظه، لقد قرأته وأعدت قراءته، إن سيد قطب هو الأمل المرتجى للدعوة الآن إن شاء الله”.

معالم في الطريق هو الوثيقة المرجعية التي أسست لظهور الجماعات العنفية الإسلامية تحت مسميات متعددة

لقد أحدث الكتاب منعرجا كبيرا في فكر الجماعة، ورفع عنها أسلوب التقية والبراغماتية بإيحائها بأنها سليلة روّاد فكر النهضة مثل جمال الدين الأفغاني ورفاعة الطهطاوي، أو على الأقل أنها تؤمن بأبرز شعاراتها، وهي الانفتاح على القيم الوافدة، والاستفادة من المنجزات العلمية للغرب لإحداث التغيير.

ومسح “معالم في الطريق”، بكل قسوة وجرأة، الخطوات التي كانت تحبوها جماعة الإخوان نحو الانفتاح، ومحاولات بعض قادتها للإيهام بمدنية الفكر والانفتاح على المنجز الكوني الذي كان العرب على هامشه تماما، وكانوا يأملون أن يحذوا حذوه ليحصنوا أنفسهم من الاستعمار.

وافتتح سيد قطب كتابه بإعلان حكم مطلق غير قابل للتأويل البراغماتي التوليفي الذي يلجأ له شيوخ الإخوان في ربط الدين، وتأويل النص القرآني، بالمنجزات الإنسانية حين قال إن “العالم يعيش اليوم كله في جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها.. جاهلية لا تخفف منها شيئًا هذه التيسيرات المادية الهائلة، وهذا الإبداع المادي الفائق”.

ولم يكن مفهوم الجاهلية توصيفا أخلاقيا لظاهرة ما، بل “قرارا فلسفيا” لنقض الفكر الإنساني ومنجزاته المادة كلها وإعادة العالم إلى نقطة الصفر.

ويقول سيد قطب “هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية.. وهي الحاكمية.. إنها تسند الحاكمية إلى البشر، فتجعل بعضهم لبعض أربابا، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة، وفي ما لم يأذن به الله.. فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان الله اعتداء على عباده”.

ويقول متخصصون بفكر الجماعات الإسلامية إن سيد قطب اجترح مقاربة تأويلية للنص القرآني تلغي ما سواها من القراءات والتفاسير التي حملها التراث الإسلامي، وهي ذاتها التي اعتمد عليها هو شخصيا في كتابة تفسيره “ظلال القرآن” وحولها من مقاربة دلالية تفسيرية إلى أداة لتبرير التفسير الواحد والطريق الواحد إلى الله.

إن خطورة “معالم في الطريق” أنه حول الجماعة إلى فرقة ناجية ليس فقط اعتمادا على مدوّنة انتقائية للنصوص المرجعية، وخاصة الأحاديث النبوية، تؤسس بها لشرعيتها في مواجهة الآخر إلى رؤية فلسفية تجعل المغاير كافرا وجاهليا بالضرورة، وأن على الفرقة الناجية التي لم تمتلك بعد الأدوات اللازمة أن تتولى إفناءه والقضاء عليه، وترك الملعب الكوني لها وحدها لعبادة إله قُدّ على مقاسها، وتمسك بنصه لسيادة العالم.

سيد قطب سخر في مواضع كثيرة من كتابه من فكرة تطوير الفقه الإسلامي واجتهاداته، وهي سخرية جعلت حتى الذين يدافعون عنه من داخل الجماعة ومن خارجها مهددين باللعنة القطبية

ومن هنا تأتي المخاوف من الجماعات الإخوانية بمختلف تفرعاتها، خاصة تلك التي تحاول أن تظهر نفسها في حالة اندماج مع الفكر الكوني، آخذة بأساليبه مثل السير في طريق الديمقراطية وتشكيل أحزاب لخوض معارك الوصول إلى الحكم.

إن “الحاكمية” التي تفرغ الطريق إلى السلطة من الخصوم، حتى من الإسلاميين المغالين في التفسير والتأويل، هي التي تجعل المنطقة كلها لا تصدق أن الإخوان يتغيرون أو يمكن أن يتخلوا عن فكرة الإله تحت الطلب، الإله الذي سيمكن الجماعة من هزم التكنولوجيا الغربية، فما بالك بالخصوم المحليين الذين يؤمنون بإله يُجيز التعدد واختلاف المقاربة الإنسانية.

وسخر قطب في مواضع كثيرة من كتبه من فكرة تطوير الفقه الإسلامي واجتهاداته المتعددة، وهي سخرية جعلت حتى الذين يدافعون عنه من شيوخ ومفسرين من داخل الجماعة ومن خارجها، مهددين باللعنة القطبية. ويقول سيد، في هذا السياق، إن “من واجب أصحاب الدعوة الإسلامية أن يرفضوا السخرية الهازلة في ما يسمى «تطوير الفقه الإسلامي» في مجتمع لا يعلن خضوعه لشريعة الله ورفضه لكل شريعة سواها، من واجبهم أن يرفضوا هذه التلهية عن العمل الجاد.. التلهية باستنبات البذور في الهواء.. وأن يرفضوا هذه الخدعة الخبيثة”.

وفيما جمع سيد قطب لنفسه وللجماعة في مرحلة التمكين كل أوراق الحاكمية، فإنه سعى لأن يسحب من الآخر كل أوراق الفعل الممكنة، ودأب على توصيف كل المنجز البشري بالعبثية واللامعنى بما في ذلك جهود شيوخ وباحثين إسلاميين لبناء “نظرية إسلامية” في تفسير الكون والإجابة عن التحدي العلمي الذي حمله الغرب إلى المسلمين الذين كان البعض منهم وقتها يشك في أن تكون الأرض كروية الشكل.

وعاب سيد قطب على خصومه من الإسلاميين أن يبحثوا عن نظرية تجيب عن الأسئلة التي دفعته هو إلى الإيغال في التطرف واختزال العالم في وجه واحد وصوت واحد، مشددا على أن الجميع مطالبون بأن يسيروا خلف الجماعة الناجية (الافتراضية) التي صنعها قطب في كتابه لتحتكر القرار وتجبر الآخرين على القبول به.

ويؤكد سيد قطب، ساخرا من جهد هؤلاء الباحثين في بناء “النظرية الإسلامية” التي سعى لها هو من قبل في كتبه ذات النزوع الأدبي ليمنعها عمن سواه، إن “تحويل العقيدة الإسلامية الحية التي تحب أن تتمثل في واقع نَامٍ حي متحرك، وفي تجمع عضوي حركي؛ تحويلها عن طبيعتها هذه إلى (نظرية) للدراسة والمعرفة الثقافية، لمجرد أننا نريد أن نواجه النظريات البشرية الهزيلة بـ”نظرية إسلامية”.

وهذا التطرف الذي ينفي على الذين هم من حول الجماعة المستعلية الحق في الاختلاف دفع بالكثير من المفكرين وقتها للتحذير من خطورة هذا الكتاب مثل الشيخ محمد عبداللطيف السبكي، رئيس لجنة الفتوى بالأزهر وقتئذ، بعد أن أسندت إليه مراجعة “معالم في الطريق” وكتابة تقرير عن مضمونه إذا وصفه بالكتاب المستفز، محذرا من تأثيره.

الجماعة لم تكن لتتبنى فكرة الحاكمية لو لا أنها تؤمن بالاستعلاء وتحلم ببناء مجتمع صاف لا تعدد فيه ولا اختلاف، وهو مجتمع يمكن وصفه بمجتمع اللامعنى الذي يتناقض مع طبيعة الحياة ومع النص القرآني

ويرى الشيخ السبكي “لأول نظرة في الكتاب يدرك القارئ أن موضوعه دعوة إلى الإسلام ولكن أسلوبه أسلوب استفزازي، يفاجئ القارئ بما يهيج مشاعره الدينية وخاصة إذا كان من الشباب أو البسطاء الذين يندفعون في غير روية إلى دعوة الداعي باسم الدين ويتقبلون ما يوحي إليهم به من أهداف، ويحسبون أنها دعوة الحق الخالصة لوجه الله وأن الأخذ به سبيل إلى الجنة”.

ويمكن الاستنتاج بيسر أن كتاب “معالم في الطريق” هو الوثيقة المرجعية ذات التأثير القوي التي أسست لظهور الجماعات العنفية لاحقا بدءا بالقاعدة التي ظهرت تحت مسميات متعددة في مصر، وخرجت من رحم جماعة الإخوان غاضبة من لين الجماعة وعدم تنفيذها لدستور الجماعة الذي جاء في الكتاب.

إن المطّلع على “معالم في الطريق” يمكن أن يستنتج بيسر أن متشددي القاعدة وداعش تربوا على هذا الكتاب الإخواني الشهير، واستقوا منه مفردات كثيرة، وخاصة فلسفة إفناء الآخر وبناء مجتمع إسلامي على نقيضه.

يقول سيد في قطب في كتاب معالم في الطريق “وسواء كان الحاكم علمانيا أو قومياً أو وطنياً أو إخوانياً أو سلفيا ثم حكم بغير ما انزل الله فهو طاغوت، ومجالس البرلمانات التي تشرع على خلاف ما أنزل الله فحكمها أنها أرباب وأنداد من دون الله، وأن الديمقرطية بمفهومها اليوم وثن يعبد من دون الله”.

ويضيف “ليس الطريق أن نخلّص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي إلى يد طاغوت عربي، فالطاغوت كله طاغوت، إن الأرض لله.. وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت إلى طاغوت!.. إن الناس عبيد الله وحده.. لا حاكمية إلا لله، لا شريعة إلا من الله.. ولا سلطان لأحد على أحد.. وهذا هو الطريق”.

ويعتقد المتخصصون في الفكر الإسلامي أن سيد قطب لم يحدث هذه النقلة الفكرية نحو التشدد بفعل التعذيب، وأن الجماعة لم تكن لتتبنّى فكرة الحاكمية في أوج خلافها مع عبدالناصر، لو لا أنها تؤمن بالاستعلاء وتحلم ببناء مجتمع صاف لا تعدد فيه ولا اختلاف، وهو مجتمع يمكن وصفه بمجتمع اللامعنى الذي يتناقض مع طبيعة الحياة، ومع النص القرآني في حد ذاته الذي يرفض أن يقتل الاختلاف ويحتفظ بحق غير المؤمنين في الحياة.

اجمالي القراءات 1933
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق