مترجم: عن تأسيس استبداد السلطة في العالم العربي

اضيف الخبر في يوم السبت ١٦ - مايو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: ساسة


مترجم: عن تأسيس استبداد السلطة في العالم العربي

بالنظر إلى الوضع الحالي للنظام السياسي العربي؛ الذي أتلفته سنوات من الحروب الأهلية والثورات والاضطراب السياسي، تبدو قدرة النخبة الحالية على البقاء في السُلطة غير منطقية. فيبدو أن استخدام القوة المُفرطة، بالإضافة إلى خطاب «الحرب على الإرهاب» وعلى انتشار الجماعات الإسلامية المُتطرِّفة، هي التكتيكات التي يستخدمها المُستبِدُّون العرب لإعادة إحكام قبضتهم على السلطة. أمدَّهم انتشار تلك الجماعات بالتبرير الأيديولوجي للقمع، بالإضافة إلى قاعدة داعمة قوية، وخاصةً بين أفراد الطبقة الوُسطَى الحضَرية والأقليات.

مقالات متعلقة :

يُفسِّر ذلك جُزئيًّا تركيب السُلطة في العالم العربي، ولكنَّه يتجاهل طبيعتها. لعبَ كلٌّ من المجتَمع المدني والاستشراق وسياسات الهوية دورًا هامًا في تأسيس الاستبداد العربي قبل اندلاع تلك الثورات بزمنٍ بعيد.

المجتمع المدني

 

 يُعرَّف المجتمع المدني هنا بالمعنى الأعم للكلمة، ويشمل المدارس والاتِّحادات العُمَّالية، بل وحتى الأسرة باعتبارها امتدادًا للدولة. بمعنى آخر، ليس هناك تمييزًا بين المجتمع المدني وبين المجتمع السياسي، ليست هناك مساحة لظهور حركات المُعارضة المدفوعة بالأيديولوجيات ونموها داخل حدود المجتمع المدني.

تُقمَع المُخالَفة بكافة أشكالها من قِبَل واحدة أو أكثر من مجموعات المجتمع المدني تلك، دون الحاجة لتدخُّل الدولة، وهكذا يُصبح القمع لا مركزيًّا. كان هذا عاملًا رئيسًا مُساهِمًا في تفتيت الحركات الثورية العربية وعدم قدرتها على تشكيل جبهات متماسكة في وجه المُستبدِّين. مَنَع خنْق الدولة للمجتمع المدني نمو حركات معارضة مُحَنَّكة قادرة على تحدِّي النظام.

كما مُنِعت تنمية الوعي الذاتي للطبقات الاجتماعية باعتبارها مجموعات مستقلة لها مصالح طبقية مُعارِضة لمصالح النخبة الحاكمة. ولذا لم يكُن هناك وضوح أيديولوجي عند اندلاع الثورات، ممَّا جعل الحركات الثورية رافضة بطبيعتها، وسمح للنخبة بهزمها بسهولةٍ. بالإضافة إلى ذلك، قلَّل غياب الوضوح الأيديولوجي من قدرة الحركات الثورية على جذب أتباع لها من الجماهير ومن أولئك الذين كانوا لامبالين قبل الثورة. في حقبة السياسة الجماهيرية الجديدة، ثبُت أنَّ غياب الرسالة الأيديولوجية للحركات الثورية هو كعب أخيل.

يمكن لخَنق المجتمع المدني إلى جانب ضَعف حركات المقاومة المدنية تفسير انتشار المجموعات المُتطرِّفة المُسلَّحة في أنحاء العالم العربي تفسيرًا جُزئيًّا. عندما تسد الحكومة باب المجتمع المدني تمامًا، لن يكون هناك بديل أمام المُعارَضة سوى استخدام السلاح. نجد أقوى مثال لذلك في ليبيا؛ حيث ابتلعت الدولة مجموعات المجتمع المدني تمامًا. أمَّا في تونس على الجانب الآخر، فظلَّت الاتحادات العُمَّالية مُستقلَّة وخارج سيطرة الدولة، ولذا تلعب الآن دورًا فعَّالًا في التحوُّل الديمقراطي بتونس.

الاستشراق

 

تخلق الدونية التي يشعر بها العرب حِسًّا من الاغتراب عن الذات والثقافة والهوية. لا يشعر العربي فقط بأنَّه أدنى، وإنما يشعر أيضًا بأنَّه مُحاصرٌ في عالم أدنى لا يمكن الهرب منه، وهو ما يساهم في النزعة المعادية للديمقراطية بين أفراد الطبقة الوُسطَى الحضرية ودعمهم للاستبداد. تبدو النُخبة العربية ما بعد الاستعمارية وكأنَّها قد تبنَّت نفس التبرير الأيديولوجي لقمع الجماهير الذي تبنَّاه أسيادهم المستعمرون السابقون؛ وهو دونية «الشرقيين» المزعومة والحاجة إلى تعليمهم وإصلاحهم. لا تقتصر هذه العنصرية فقط على الطبقة العُليا من المجتمع، بل تخترق كل الطبقات والأيديولوجيات، بل يمكن رؤيتها حتى وسط الجماعات الإسلامية.

في سياق التاريخ الاستعماري، كانت العاصمة الاستعمارية هي مركز حياة الأوروبيين، وهناك استمرارية مدهشة في حقبة ما بعد الاستعمار لنظرة الفقراء الريفيين للمركز الحضري المرتبط ثقافيًّا بالطبقة الوسطى الحضرية. هناك اعتقاد أصيل واسع الانتشار  بأفضلية النُخبة، وخاصةً الطبقة الوُسطَى الحضَرية. تتوغل تلك النظرة في اللغة المُستخدمة في الحياة اليومية، فالفقراء الريفيون في مصر على سبيل المثال يُطلِقون على القاهرة “مصر”، ويوضِّح ذلك الاعتقاد الكامن بأفضلية المركز الحضري في مقابل هامشية الريف، وارتباط المركز بالحضارة والهامش بالتخلُّف والبربرية.

يرى الفقراء الريفيون أنفسهم في الحقيقة أدنى من المركز الحضري، مُبرِّرين بذلك نظرة النُخبة الحضَرية ومُعزِّزين لها. منذ بضعة أيام، صرَّح وزير العدل المصري أنَّ ابن عامل النظافة لا يمكن أن يُصبِح قاضيًا أبدًا، بسبب طبقته الاجتماعية. لا يعمل الاستشراق فقط مُبرِّرًا للقمع عند النخبة، بل يعمل أيضًا حاجزًا أمام النمو الفكري للحركات السياسية العربية. تتسبَّب الدونية التي يشعر بها المُثقَّفون العرب في تحجيم تطوُّر الأيديولوجيات، التي يُحتَمَل أن تُقدِّم حلولًا محلية للمشاكل الحالية في العالم العربي. ازدادت حدة حس الدونية هذا مع فشل الثورات العربية.

سياسات الهوية

لقد ظلَّت سياسات الهوية تتحرَّك بثباتٍ لتبتعد عن الهويات الشاملة نحو هويات أكثر حصريةً، مما سمح للنخبة العربية بإثارة مجموعات اجتماعية مختلفة ضد بعضها البعض لإحكام قبضتها على السُلطة. يمكن تتبُّع هذه العملية حتى بدايتها في مرحلة الانحدار التدريجي للهوية العربية، وهو ما سمح للأنظمة المختلفة بالتنافس مع بعضها البعض على قيادة العالم العربي. تعكس عملية التفتيت هذه انحدار النظام السياسي الناتج عن تضاؤل القاعدة الداعمة من النخبة العربية. مع انحسار تلك القاعدة، انحسرت كذلك قدرة تلك النُخَب على فرض قواها على ما وراء حدودها ورغبتها في ذلك، مُركِّزةً على الإحكام الداخلي بدلًا من ذلك. أدَّى ذلك إلى ظهور الهويات الثانوية، ممَّا سمح للنظام بترسيخ وضعه من خلال تمثيل إحدى تلك المجموعات.

لا تشمل سياسات الهوية فقط الهويات الطائفية، وإنما تشمل كذلك الهويات الطبقية، التي تفصل بين الريف والحَضَر. تتفاعل سياسات الهوية تلك مع الاستشراق المُتفشي في المجتمعات العربية، حيث يسود الحس غير المُبرَّر بالأفضلية بين النُخَب، وخاصةً بين أفراد الطبقة الوُسطَى الحضَرية، ممَّا يتيح للمُستبدِّين اللعب على الانقسامات بين الأغنياء في الحَضَر وبين الفقراء لكي يظلُّوا في السُلطة، ويسعون للحصول على دعم مجموعة اجتماعية واحدة ضد الأخرى.

فشلت الحركات الثورية الحديثة في فهم دور سياسات الهوية في تلك الصراعات، وعلى عكس الحركة الثورية الإيرانية التي ادَّعت تمثيل «المستضافين» أو الطبقة الدُنيا المُضطَهَدة، والتزمت بضم طبقة التجار التقليديين والفقراء في الحَضَر، لم تدَّعِ الحركات الثورية العربية مثل ذلك الادعاء.

بما أنَّ تلك المجموعات لم تُطوِّر وعيًا ثوريًّا، فشلت في تمثيل أي مجموعة اجتماعية مُحدَّدة، فكانت تخاطب الجميع ولا تخاطب أحدًا في الوقت نفسه. كان ينبغي على تلك الحركات أن تهدف إلى خلق قاعدة داعمة صلبة من بين مجموعات اجتماعية مُحدَّدة، ولكنَّها حاولت أن تُعجِب الجميع بدلًا من ذلك. ومن ثَم، يمكن القول بأنَّ سُلطة المُستبدِّين العرب لا تعتمد فقط على نهوض انتشار التطرُّف الإسلامي أو القمع الجسدي، بل لها جذور أعمق في طبيعة النظام السياسي؛ وهي دور المجتمع المدني، والاستشراق، وسياسات الهوية.

يعتمد مستقبل الثورات العربية على النمو الفكري للحركات الثورية، وقدرتها على فحص مجتمعاتها فحصًا نقديًّا وتقديم حلول محلية ونقل النضال ضد النظام إلى حلبة المجتمع المدني، مُسلَّحةً برسالة سياسية قوية في حزمةٍ أيديولوجية جذابة.

اجمالي القراءات 1513
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق