من أجل أن لانظلم انفسنا والناس:
الحرب والسلام في الأسلام(2)

زهير الجوهر Ýí 2008-07-19


تحية طيبة

هذا المقال يأتي كحلقة ثانية بعد الحلقة الأولى الموجودة على الرابط:

http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=3718

بالرغم من أن معظم ان لم يكن كل المعلومات في هذه السلسلة مكرر, لكن كما قلت لأهمية هذا الموضوع, فأني أرى أنه لاضرر من أن يعاد عرضها بصور شتى مادام المضمون واحد.

هنا في هذا المقال سوف أتعرض بالشرح لآية كثر أستعمالها على الساحة الأسلامية, وللأسف أستعملت بصورة أقتطاعية خارج سياقها, وخارج السياق العام للديانات السماوية وبالذات للأسلام الحنيف المسالم,وكثرت التعميمات الخاطئة لها, حتى صارت هي التفسير المعمول به في الساحة, يستشهد به كبار وصغار المتشددين الأسلاميين لتبرير جرائمهم ضد الأنسانية, ولازالوا مستمرين وبنجاح منقطع النظير مع الأسف الشديد.

الآية 126 من سورة النحل

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ

طبعا نحن لانسمع ألا المقطع الأول من هذه الآية: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ.....

وهذا بداية التناول الأقتطاعي للآية, حيث يوهم المستمع بأن الآية هي هذا المقطع, وطبعا لاتذكر الآيات التي سبقتها ولا الآيات التي بعدها, بل ولاحتى يذكر تكملة الآية نفسها, لماذا.... هذا ماسوف نراه معا في هذا المقال.

الطرح الحالي للمتشددين عندما يذكرون هذه الآية هي أن أعداء الأسلام بزعهم من اليهود والنصارى يعاقبون المسلمين بالقتل الذي لايميز بين المقاتل وغير المقاتل والذي لايميز بين الرجل البالغ المقاتل وبين المدني والأمرأة والطفل, وهذا واضح في القصف الأسرائيلي على مخيمات ومدن الفلسطينيين, وبهذا فأن المتشددين يسوغون لأنفسهم الرد بالمثل ويقولون لك يقول الله:

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ

ويأخذون بالآية على أطلاقها, من دون تقييد مسبق بشرع الله نفسه الموجود في القرآن. وبتصريحهم فهم يأخذون بالتعميم المطلق لهذه الآية حيث ان منطوقها عام, لذلك فأيا كانت العقوبة التي عوقب بها المسلمين من قبل المعتدين قتاليا عليهم, فللمسلمين ان يردوا بنفس العقوبة بالضبط (أيا كانت تلك الفعلة) على المعتدين.

هذا هو الأدعاء المطروح والمعمول به من قبل المتشددين الأسلاميين بكل طوائفهم من سنة وشيعة.

هل هذا التفسيرصحيح؟

سوف أناقش هذا الموضوع بصورة مقتضبة مبسطة  من ثلاثة زوايا

1) هل يمكن الأخذ بالتعميم المطلق أعلاه للآية من دون أن نقع في تناقض صريح مع آيات آخرى من القرآن, وخصوصا الآيات الشرعية.
2) ماهو السياق الخاص الذي وردت فيه هذه الآية في القرآن, وهل يتناسب مع الزعم أعلاه.
3) كيف نفسر الآية ضمن السياق العام للأسلام, والسياق العام للقتال المذكور في القرآن.

لنأخذ أولا: مسألة التعميم

من الواضح لكل أنسان مسلم بأن الآية لايمكن أن تأخذ على أطلاقها, للتعارض الواضح مع الكثير من الآيات التشريعية في القرآن.
مثال: لو أن دولة محاربة ومعتدية على الأسلام, أعلنت بأن لجنودها الحق بأغتصاب الأسرى المسلمين من الرجال جنسيا, فهل للمسلمين ان يحتجوا بهذه الآية لعمل المثل بأسرى هذه الدولة؟

أذا كان الجواب نعم , فهذا خرق واضح للآيات: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) المؤمنون..

مثال آخر: لو أن الدولة المعتدية قامت بأستعباد الأسرى الذكور المحاربين الأحرار من المسلمين, فهل يجوز لنا أن نستعبد محاربيهم من الذكور الاحرار. اذا كان الجواب بنعم نقع في تناقض مع الآية 4 من سورة محمد: 

فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى اذا اثخنتموهم فشدوا الوثاق فاما منا بعد واما فداء حتى تضع الحرب اوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل اعمالهم

هذه الآية تقرر بأن للأسير مصيران : أما أن يطلق سراحه بلامقابل (منا) , أو لقاء مقابل (كأطلاق سراح أسير أو أسرى بالمقابل) لذلك فلا نستطيع ان نستعبد الأسرى على مبدأ المعاقبة بالمثل بصورة مطلقة.


أذن نستنتج بأنه لايمكن بأن نأخذ بالتفسير الأطلاقي التعميمي للآية أعلاه, لأنه بكل بساطة يتعارض بصورة واضحة مع القرآن.

أذن الآية مقيدة بالشرع في القرآن.

أي أن المقصود من الآية هو: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ(بشرط ان تكون العقوبة من مالايخالف الشرع في القرآن)....

هذا الشرط الذي أوردتة بين قوسين أعلاه, هو شرط على كل آيات القرآن وليس فقط هذه الآية, وهو شرط مفهوم حتى في النصوص القانونية, فهي تكتب بما يتناسب مع النصوص الدستورية وتفسر بما لا يتناقض معها. ولذلك لاتكرر النصوص الدستورية أمام كل نص قانوني, لأن ذلك يؤدي الى تكرار غير مفيد.


الآية أعلاة نص قانوني بشأن حالة معينة, وليست نصا دستوريا عاما, والدليل عدم أمكاننا أخذها على أطلاقها, بخلاف النصوص الدستورية المطلقة, مثل الآية 190 من سورة البقرة, والتي هي نص دستوري. (راجع المقال المذكور على الرابط أعلاه).

وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولاتعتدوا ان الله لايحب المعتدين. البقرة 190

لكن ماهو السياق القرآني الخاص(الآيات قبل وبعد الآية) التي وردت فيه هذه الآية, لعلنا نجد في هذا السياق مايفسر لنا سر هذه الآية, وما المقصود بالعقوبات التي هي رد بالمثل على المعاقب(بكسر القاف), وهنا نصل الى الزاوية الثانية من الموضوع.

ثانيا) السياق الخاص للآية 126 من سورة النحل: لأول وهلة عندما نسمع المتشددين يستشهدون بذلك المقطع من هذه الآية, نتصور ان الآية وردت في سياق الآيات القتالية في القرآن, لكن الحقيقة شيئا آخر.


السياق هو: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128)

نلاحظ ان الآية جاءت في سياق مختلف كليا عن السياق الذي يتكلم عنه المتشددين.

السياق هو سياق الدعوة الى الأسلام, وليس ساحة القتال أبدا أو أي شيء يتعلق بها.

عند الدعوة الى سبيل الله , من المتوقع ان يتعرض الدعاة الى العديد من المضايقات من المقابل, مثل المقاطعة الأقتصادية, أو عدم السلام عليهم, أو أغلاق أبواب الدور بوجهم, وهنا في هذا السياق, أباحت الآية 126 من سورة النحل الرد بالمثل ولكنها في نفس الوقت دعت الى الصبر على هذه المضايقات, لذلك جاءت هذه الآية وكأنها عامة في منطوقها وذلك لأنه المفهوم من السياق ان المراد بالمعاقبة هي رد هذه المضايقات بالمثل, لأنه قلما تتجاوز طبيعة هذه المضايقات الحدود الشرعية. ونرى أن الأيات التي بعدها تحث على الصبر والتقوى والأحسان, فالسياق كله سياق الدعوه الى سبيل الله, والصبر, وأن كان لابد للرد على المضايقات أثناء الدعوة فيمكن ذلك لكن الأفضل هو الصبر.

لكن وعلى عادة التراث, أقتطعوا هذه الآية من سياقها القرآني, وبدءوا يستشهدون بها في غير موضعها. لابل ورويت آحاديث بأن الآية 126 نزلت بعد مقتل عم الرسول الحمزة بن عبد المطلب, لكن حتى هذه الآحاديث تقر بأن صحابة الرسول عندما سمعوا التعقيب بالصبر, قالوا "بل نصبر", على عكس المتشددين تماما في هذا الزمان الغريب. وأهل السنة أنفسهم مختلفين فيما أذا كانت هذه الآية مدنية أم مكية, وكل مايقولون يقع في دائرة الظنون وليس اليقين.

أقول بغض النظر عن القيل والقال في نزول الآية, فالثابت يقينا هو أن سياقها في القرآن انما هو سياق الدعوة, وبهذا نستدل.

أذن أنظروا الى أي مدى جرى حرف معنى الآية عن موقعها. سبحان الله. حرف سياق الآية 180 درجة من الدعوة السلمية والعقوبة السلمية للمقابل لكن مع تفضيل الصبر, الى تسويغ رد معتد على الأبرياء, مناقضا في ذلك قيم الأسلام في أحترام الأنسان وعدم الأعتداء عليه, ومناقضا بصورة صريحة للآية 190 من سورة البقرة.

ومايزيد الطين بلة هو أدعاء المتشددين عندما تواجههم بتكملة الآية بالمقطع " ولئن صبرتم لهو خير للصابرين" , والآيتين التي بعدها :

وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128)

تراهم يردون ردا عجيبا غريبا, يقولون لك: لقد صبرنا ولم نجد نتيجة, وهذا أدعاء حماس حول أتفاقيات أوسلو, ولسان حالهم يقول أننا الآن نعاقبهم كما يعاقبونا, لأننا جربنا الصبر ولم نجده مجديا.

لاتعليق.

ثالثا:)النتيجة هي أن الآية 126 من سورة النحل أنما جاءت لرد المضايقات التي تحصل للدعاة أثناء الدعوة الى الأسلام اذا وفقط اذا كان هذا الرد يتوافق مع آيات القرآن التشريعية. ولايجوز أقتطاعها من سياقها والأستشهاد بها كآية رد على المعتدين المقاتلين, وبالتأكيد لايجوز تعميمها بطريقة تخالف السياق العام للديانات السماوية والأسلام وآيات القرآن المحكمة, وخصوصا الآية 190 من سورة البقرة, التي كما شرحنا تعتبر آية دستورية في موضوع القتال.

لايمكن بأي طريقة من الطرق تسويغ قتل الأبرياء, الذين لم يقاتلونا, فهذا يجعلنا من المعتدين وهو يناقض الآية 190 من سورة البقرة.

ياترى لماذا ذهب علماء الملة كل ذلك الذهاب البعيد في تفسير الآية أعلاه.

الله وحده يعلم!

مع التقدير

اجمالي القراءات 30139

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (4)
1   تعليق بواسطة   عثمان محمد علي     في   الإثنين ٢١ - يوليو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[24751]

المواصفات القياسيه للمنتج القرآنى:

أخى الكريم - زهير - احيك على مقالتك الثانيه الداعيه لثقافة السلام على اساس قرآنى . وأتفق معك فى كثير من  فهمك لقول الله تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ) .وأن ما تقوله فى مقالتك ,هو ما ننادى به دائما وهو وجوب عرض المنتج القرآنى  القولى والفعلى على مواصفات القرآن القيا سيه جميعا أولا  ,على ألا يخالف المواصفات والدرجات  اللازمه لمروره من مصفى أحدها ابدا .سواء كان هذا المنتج قوليا كتابيا مثل المحاضرات والندوات وكلمات المنابر والعظات ,أو المقالات والأبحاث والإجتهادات القرآنيه الكتابيه ..أو كان فعلا وعملا تطبيقيا يتصل بحق الله وحق العباد ...  فشكرا لك .


2   تعليق بواسطة   عمرو اسماعيل     في   الإثنين ٢١ - يوليو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[24764]

مقال لذوي الألباب ..

مقال رائع أخي الكريم .. ولكن هل تعتقد أن مسوغي الارهاب والعنف من هؤلاء أو أنهم يعقلون ..


أمامنا وقت طويل لإقناع الغالبية وقد رأيت بعض التعليقات علي مقالك السابق عن حزب الله وحماس وفيرهم ممن يستغبون الدين ويلوون عنق الآيات لأغراض سياسية بحته هدفها السيطرة وليس التحرير ولا مقاومة عدوان ولا يحزنون ..


بارك الله واستمر في جهادك السلمي ..لعله يأتي اليوم الذي نفهم فيه قواعد الحرب والسلام في الاسلام ..والتي تتفق بل وتسبق كل المواثيق الدولية من الاعلان العالمي لحقوق الانسان الي اتفاقات جنيفا


3   تعليق بواسطة   زهير الجوهر     في   الإثنين ٢١ - يوليو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[24788]

حقوق الأنسان

تحية طيبة للأستاذين الفاضلين عثمان محمد علي وعمرو أسماعيل


شكرا لك أستاذ عثمان.


أستاذ عمرو, هذه الأيام انا أحاول أن أتدبر بعض آيات القتال في القرآن, وفي الحقيقة النتيجة الأولية هو أني وجدت فرقا كبيرا بين ماحصل في التأريخ الأسلامي من أعتداءات مؤسفة على الغير, وبين ما موجود في القرآن العظيم, في الحقيقة هناك مباديء حتى هذه الأتفاقيات لم تصل اليها, ولسوف أكشف عنها رويدا رويدا.


نحن علينا أيضاح مانستطيع حول الجانب السلمي للأسلام, والفقة السلمي للقتال في الأسلام, وعلينا عمل مانستطيع لازالة غبار القرون التي رانت على أدمغة المسلمين المخدوعين مع الأسف بالعمائم الدموية.


نسأل الله التوفيق.


مع خالص تقديري


4   تعليق بواسطة   عمرو اسماعيل     في   الثلاثاء ٢٢ - يوليو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[24790]

العمائم الدموية ..

تعبير دقيق فعلا ..أخي زهير ..


صورة أحدهم بهذه العمامة منشورة في خبر في هذا العدد


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2007-06-23
مقالات منشورة : 24
اجمالي القراءات : 545,137
تعليقات له : 592
تعليقات عليه : 478
بلد الميلاد : Iraq
بلد الاقامة : Jamaica