من الفصل الأول من كتاب : ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى ــ دراسة عملية ) :
سادساً :بين القصص القرآني والروايات التاريخية

آحمد صبحي منصور Ýí 2019-10-03


سادساً :بين القصص القرآني والروايات التاريخية 

من الفصل الأول من كتاب : ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى ــ دراسة عملية )

مقدمة :

1 ـ لا نقصد إطلاقاً لعقد مقارنة بين القصص القرآني والروايات التاريخية البشرية. فالقرآن كلام الله المعجز للبشر، والحقيقة التاريخية في القصص القرآني حقيقة مطلقة لا مجال مطلقاً للشك فيها، يقول تعالى عن القصص القرآني (إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ..آل عمران62) (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.. يوسف111).

وفى قصة أهل الكهف يشير رب العزة إلى سمو الحقيقة القرآنية المطلقة وتنزهها عن النسبية والشك في الروايات البشرية ، إذ يقول في بداية قصة أهل الكهف ( نحن نقص عليك نبأهم بالحق ) ثم يشير إلى الاضطراب في تحديد عدد الفتية ما بين ثلاثة أو خمسة أو سبعة فيقول (..قُل :رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ..الكهف22 ) ويقول عن المدة التي قضوها (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً، قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..الكهف 25: 26) (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً ..الكهف27).

2 ـ إن الوحي الإلهي نزل بالحقائق المطلقة على الأنبياء السابقين، وكلّف الله علماء الأمم السابقة بحفظه فكانت النتيجة أن الزيف لحق بالكتب السماوية – قبل القرآن – لذا فإن الله تعالى حين أرسل رسوله الخاتم رسولاً عالمياً لكل البشرية إلى قيام الساعة وأنزل معه القرآن المعجز – فقد ضمن بنفسه أن يحفظ القرآن بنصّه وفصّه من كل تغيير وتبديل حتى يؤدى دوره في هداية البشر بعد وفاة الرسول عليه السلام وحتى قيام الساعة . وهكذا أنزل القرآن المحفوظ  بالقوة الإلهية ، نزل حجة على اليهود والنصارى الذين حرفوا التوراة والإنجيل وملأوها بالروايات الكاذبة ، نزل القرآن بالقول الفصل فيما أدخل اليهود من تحريف في التوراة (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ..النمل76) نزل القرآن الكريم مهيمناً على ما في التوراة والإنجيل وشاهداً على ما أدخلوه من تحريف في كلام الله (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ..المائدة48) .

إلا أن اليهود حاولوا الكيد للقرآن وإن لم يستطيعوا النيل من النص القرآني المحفوظ بقوة القادر تعالى فقد وجدوا طريقهم إلى تفسير القرآن خصوصاً في القصص القرآني ، حيث احتوت التوراة على قصص تعرض لها القرآن مثل خلق آدم وسير الأنبياء السابقين ، وقد حرفوا في هذه القصص وأصبح التحريف فيها جزءاً من التوراة في نظر اليهود ، ونظراً لأن القرآن الكريم أستهدف جانب العظة فلم يهتم بالتفصيلات فإن المفسرين ـ وقد أولعوا بالتفصيلات والاستقصاء ــ رجعوا للتوراة يأخذون منها ويدخلونها في التفسير ، وبذلك نشأ في (علم ) التفسير روايات كاذبة سميت بالإسرائيليات . وكان أهم مروجي تلك الإسرائيليات اليهودي كعب الأحبار ووهب بن منبه .

3 ـ وفى هذا المبحث عن ( القصص القرآني والروايات التاريخية ) لا نهدف كما سبق للمقارنة وإنما لتوضيح الفجوة الواضحة بين النص القرآني والروايات التاريخية التي كان من المفروض أن تتدبر القصص القرآني فإذا بها تعارض النص القرآني. وما كان ذلك إلا لأنهم أهملوا في تدبر الآيات وتعقلها بما يكفى , بل غلب عليهم الاهتمام بسرد الروايات إلى جانب الآية المراد شرحها ثم الاجتهاد بأقصى طاقة فئ عرض الرواة على قانون الجرح والتعديل , وبالانهماك في تقصى أحوال الرواة في سلاسل الروايات المختلفة وإعطاء كل راو حكما مؤبداً بالصدق  أو الكذب , وبالانهماك في اختلافهم المستمر حول تعديل راو أو تجريحه أو هل يسرى قانون الجرح والتعديل على الصحابة أم لا .. في ذلك كله ضاع الاهتمام بالنص القرآني , ووجدت بعض الإسرائيليات طرقها في التفسير ضمن ما يعرف ب( الكتب الصحاح ). ونضرب لذلك مثلا يخص الروايات التاريخية في التفسير..

إسناد معجزات حسية مادية للنبى محمد عليه السلام :

1 : يروى البخاري في باب التفسير [1] في قوله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ..القمر1) ( سأل أهل مكة أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر ) , قول ابن كثير في تفسيره ( قد كان هذا في زمان رسول الله (ص) كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة  , وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي ( ص) وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات ) [2] . بيد أن ذلك الإجماع الذي حكاه الإمام ابن كثير يناقض القرآن الكريم في أكثر من موضع .

2 ــ وحتى يتضح موقف القرآن الكريم – من قضية المعجزة فإننا نرتبها على النحو التالي على سبيل الاختصار :

2 / 1 :فالمشركون طلبوا من الرسول معجزات شتى (وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً،أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً ، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً ، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ.. الإسراء90: 93 ) وكان الرفض لإنزال أي معجزة (..قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً،  وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً ..93 : 94..الإسراء).

2 / 2 : وقد تكرر رفض إنزال المعجزة الحسية في أكثر من موضع في القرآن الكريم :

2 / 2 / 1 : ففي سورة الرعد (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ؟ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ..الرعد7 ) وفيها أيضا (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ..الرعد27)

2 / 2 / 2 :وفى سورة الفرقان (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ؟ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً..الفرقان21),

2 / 2 / 3 : وفى الأنعام (وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ؟ قُلْ: إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.الأنعام37)..

2 / 3 :وقد وضح القرآن الكريم المانع في إنزال معجزة حسية على الرسول عليه السلام.

2 / 3 / 1 :  فالمعجزات الحسية لم تجعل الأمم السابقة تؤمن بالأنبياء , ولن تجعل مشركي العرب يؤمنون , يقول تعالى (بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ..الأنبياء5 ) ويرد القرآن الكريم على طلبهم آية فيقول (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ؟ ..الأنبياء6).

2 / 3 / 2 : ويقول تعالى لنبيّه عليه السلام أن مشركي العرب لن يؤمنوا أبداً حتى لو جاءتهم كل آية إلى أن يأتيهم العذاب بعد الموت (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ، وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ..يونس96،97) .

2 / 3 / 3 : ويقول تعالى أنه لو أنزل على رسوله كتابا من السماء ورآه المشركون ولمسوا الكتاب بأيديهم فلن يؤمنوا وسيرمونه بالسحر (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ..الأنعام7) .

2 / 3 / 4 : ويقول تعالى أنه لو أصعد المشركين المعاندين إلى السماء وطاف بهم حول النجوم فلن يهتدوا ولن يفسروا ذلك إلا بالسحر (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ..الحجر14 ،15) .

2 / 3 / 5 : ويبين رب العزة جل وعلا استحالة إيمانهم مهما أقسموا أنهم سيؤمنون إذا جاءتهم آية (وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا. قُلْ: إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ..الأنعام109) ثم يقول تعالى (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ..الأنعام111).

3 ـ وهناك سبب آخر منع إرسال معجزة حسية , فالمعجزات الحسية كانت تأتى بالإهلاك للقوم المعاندين , فالمشركون قبل محمد عليه السلام طلبوا معجزة وطلبوا العذاب الإلهي، فكانت تأتى للرسل السابقين معجزات حسية،ولا تجدي في هدايتهم فينزل الله العذاب فيمحقهم , وفى عهد محمد طلب المشركون آية كشأن الأمم السابقة (وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ..البقرة118). وطلبوا مع الآية أن يأتيهم عذاب الله (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ..الكهف55) . فسنة الأولين هي المعجزة الحسية فقد انتهت بالرسالة الخاتمة العالمية بقوله تعالى عن رفضهم للقرآن وطلبهم لآية حسية (لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ..الحجر13) .فقوله تعالى (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ) يعنى وقد مضت وانتهت طريقة الإتيان بمعجزة حسية كما كان يحدث مع السابقين , حيث كان العالم عبارة عن جزر بشرية متباعدة , فيأتي لكل قوم رسول منهم , ولم يكن العقل البشرى وقتها ناضجا بما فيه الكفاية فناسب الحال أن يعطى الرسول معجزة حسية يشهدها قومه بأنفسهم , ثم إذا عاندوا يأتيهم الإهلاك الجماعي فلا يبقى إلا الرسول والمؤمنون معه , وهكذا ارتبطت الآية في تاريخ الأنبياء السابقين بالإهلاك للمعاندين , وقبل بعثة محمد عليه السلام طلب الحواريون من عيسى عليه السلام إنزال مائدة من السماء لتكون لهم آية وجاء الرد الإلهي (قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ ..المائدة115) . ثم جاءت الرسالة الخاتمة بمحمد عليه السلام رسولاً عالمياً لكل العالمين وإلى أن تقوم الساعة فناسب أن تكون معجزته للعالم كله عقلية مستمرة دائمة متجددة الإعجاز وتمثل ذلك كله في القرآن الكريم , وامتنع إنزال معجزة حسية لأنها لا تجدي في هداية المشرك ولأنه يصحبها الإهلاك ولم يعد الإهلاك وارداً , فقريش ليست وحدها المقصودة بالاسلام. وهكذا فحينما طلب المشركون إنزال العذاب واستعجلوه يقول تعالى (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً ، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً.الكهف58: 59) .والموعد الذي يقصده القرآن الكريم هو موت المشرك على كفره (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ، يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ، يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ..العنكبوت53: 55) .

4 ـ وهناك في سورة الإسراء آية أعلنت السبب في منع إنزال آية حسية فجمعت بين السببين : أن الآية لم تفلح سابقا مع الأمم السابقة حتى أن قوم عاد قتلوا الناقة وهى الآية التي طلبوها , ثم إن الآيات كانت تأتى علامة على الإهلاك , يقول تعالى (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً ..الإسراء59) .

5- ثم يضاف سبب أخير منع إنزال معجزة حسية هو الاكتفاء بالقرآن الكريم , وقد جاء ذلك صريحا في قوله تعالى (وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ..العنكبوت50: 51).

6 ـــ ونعود للقرآن الكريم وموقفه في إنزال معجزة حسية ومستلزماتها من العذاب والإهلاك .

6 / 1 : فالمشركون ألحوا على الرسول في طلب آية أو في إنزال عذاب . والرسول يمل من إلحاحهم والسماء لا تنزل عذاباً أو آية، ويأتي الوحي ليقول له (قُلْ : إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ  ..الأنعام57 ) أي ليس لدى وأنا ـ بشر – ما تستعجلون به من العذاب ، ثم تقول الآية التالية إنه لو كان عندي ما تستعجلون به من العذاب لعذبتكم وانتهى الأمر بيني وبينكم (قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ..الأنعام58) .

6 / 2 : وتأتى آية آخري تأمر الرسول بالصبر وألا يتعجل العذاب لقومه ، فأنهم إن رأوا العذاب الذي يستعجلونه فكل حياتهم تمر أمام أعينهم كساعة من نهار (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ؟ ..الأحقاف35 ) .

6 / 3 : وبالنسبة لمنع نزول آية حسية فالرسول يحزن لعناد قومه وإصرارهم على آية حسية لن تنزل أبداً من السماء فيأتي الوحي يطمئنه بأن المشركين يصدقون نبوته إلا أنهم يجحدونها وما طلبوا آية إلا على سبيل العناد (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ..الأنعام33 ) . ويخبر القرآن الرسول بأن الرسل السابقين صبروا على عناد قومهم حتى نصرهم الله ولا مبدل لكلمات الله فلا آية حسية ستنزل وسينصره الله (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ..الأنعام34) . ثم تقول الآية التالية إذ عظم عليك يا محمد إعراض قومك وتصميمهم على آية حسية فتصرف بنفسك؛ إصعد للسماء أو إهبط للأرض لتأتى لهم بآية ، ولو أراد الله هدايتهم لهداهم (وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ، وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ،إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ،وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ..الأنعام36:35) .

7 ـ وهكذا يتضح في النص القرآني أنه لم تنزل على الرسول عليه السلام آية معجزة للتحدي إلا معجزة القرآن الكريم أما ( الإسراء ) فهو خصوصية للرسول عليه السلام لم تأت للتحدي وإنما ليرى الله رسوله من آياته . يقول تعالى (..لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ..الإسراء1) . وما ورد من تفسير لقوله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ، وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ..القمر1،2 ) إنما يتعارض مع صريح القرآن ولا يمكن للتفسير أن ينهض حجة على آية واحدة في القرآن الكريم ، فالقرآن الكريم نص صريح واضح الدلالة ولا يمكن أن يعارض بعضه بعضاً (.. وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً..النساء82) .

8 ــ ولكن كيف نفهم قوله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ، وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ..القمر1،2 ) ؟؟

8 / 1 : إن أسلم التفسير هو أن يفسر القرآن بالقرآن ، وواضح أن بداية السورة تتحدث عن اقتراب الساعة وأن من علاماتها انشقاق القمر وأن من شيمة المشركين من قريش الإعراض عن آيات الله واتهام الرسول بالسحر ، فهناك أربعة عناصر في الآيات هي اقتراب الساعة وانشقاق القمر والإعراض عن رؤية آيات الله ، ووصفها بالسحر .

8 / 2 :  وقد تحدث القرآن عن اقتراب الساعة وإعراض المشركين عن آيات الله القرآنية ووصفهم إياها بالسحر في قوله تعالى (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ..الأنبياء1: 3) . أما عن رؤية الآيات الكونية وإعراض المشركين عنها فقد تردد الحديث عنها في القرآن الكريم (وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ..يوسف105) . ويقول تعالى عن إعراض المشركين عن آيات الله في القرآن التي يسمعونها تتلى عليهم وإعراضهم عن آيات الله في الكون التي يرونها بأعينهم (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا ..الأنعام25) . فالآيات السابقة تفسر آيات (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ .. ) ويفهم منها أن انشقاق القمر ليس آية حسية رآها المشركون وإنما هي من علامات الساعة .

8 / 3 : وقد عبر عنها القرآن الكريم بصيغة الماضي لتحقق الموضوع ، كما يقول تعالى( أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ..النحل1)، وقوله تعالى (وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا.. ) تفسرها آيات إعراض المشركين عن آيات الله في الكون كإعراضهم عن آياته في القرآن. ويؤكد ذلك أن الآيات التالية في سورة القمر تحدثت عن علامات الساعة (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ ..القمر6 ) وبعدها تحدثت عن تكذيب الأمم السابقة لرسلهم ليتعظ مشركو آخر الزمان بالقيامة الآتية على الأبواب ويعتبروا بما حاق بالأمم السابقة حين كذبوا الرسل .

8 / 3 : ومن فصاحة القرآن الكريم أنه بدأ سورة القمر بالحديث عن قيام الساعة وانشقاق القمر علامة من علاماتها , ثم تحدث عن إعراض المشركين وعنادهم ثم ذكرهم بعلامات الساعة وما حدث للمشركين السابقين وبعدها ختم السورة بتقرير العنصرين معاً , فقال للقرشيين مشيراً للأمم السابقة (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ؟ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ؟ ..القمر43) . ثم تحدث عن اقتراب الساعة (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ..القمر46) ثم ذكر تفصيل عذاب المشركين يوم القيامة وأشار إلى جزاء المتقين (القمر 43: 55) .

8 / 4 : وانشقاق القمر وانشقاق السماء من علامات الساعة في القرآن الكريم ، يقول تعالى (إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ..الانشقاق1) ويقول عن الشمس والقمر (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ؟ ، فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟..القيامة 6: 10) وبذلك يستقيم فهم (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ، وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ..القمر1،2) في ضوء اقتراب الساعة وان من علاماتها انشقاق القمر ، وقد عبر تعالى عنه بصيغة الماضي ليعطى الإحساس بان اقتراب الساعة جد قريب . ومن هنا فأسطورة أن الرسول انشق له القمر معجزة حسية أمام أهل مكة تناقض التفسير القرآني وتتناقض – وهذا هو الأهم – مع آيات القرآن الصريحة بعدم نزول آية حسية اكتفاء بالقرآن الكريم .

9 ــ أحيانا قد توقع العاطفة صاحبها في خطأ ، والمحب إذا غالى في حب حبيبه أساء إليه دون قصد ، وهذا ما وقع فيه بعض الرواة حين قرءوا عن معجزات الأنبياء السابقين في القرآن الكريم والكتب السابقة ووجدوا أن تاريخ الرسول عليه السلام يخلو من إعجاز حسي مثل موسى أو عيسى أو سليمان أو داوود عليهم السلام فتطوعوا من أنفسهم ومنحوا محمدا عليه السلام  بعض المعجزات الحسيه لكي تكون مادة محببة للقصاصين الذي بدأت بهم رواية التاريخ للرسول الخاتم والرسل السابقين, وبهذا وجدت هذه الأكاذيب طريقها للتفسير والحديث ووجدت من يرويها ممّن يعتبرونهم من (الثقات ). ولو فقهوا النص القرآني وأعطوه حقه من التدبر والتعقل لكان في ذلك السلامة لهم ولمن جاء بعدهم.. ومهما يكن من أمر فالقرآن – كما اعترف عدوه الوليد بن المغيرة – يعلو ولا يعلا عليه، وكل ماعدا القرآن من تفسير وحديث وكتب سماوية سابقة إنما تبع للقرآن، والقرآن مهيمن عليه باعتباره انه يعلو على التحريف ويسمو على كل محاولات التزييف.. و.. (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً..الكهف1: 2  ) .

روايات تتعارض مع القصص القرآنى :

1 ـ وإذا كانت بعض الروايات قد أضافت للنص القرآني ما يناقضه ، فان بعض الروايات وقفت  موقف التعارض مع النص القرآني . والأغلب في هذا الاتجاه هو ما جاء في القرآن الكريم خاصاً بالغزوات وكان فيه بعض المآخذ على الصحابة.

2 ـ فالروايات التاريخية عن غزوة بدر مثلاً تجمع على أن المسلمين حين اتجهوا لملاقاة العير ووجدوها قد نفدت منهم سارعوا بالموافقة على القتال ، بهذا قال المهاجرون والأنصار ، وكل دارس للسيرة يحفظ أقوال المقداد بن عمرو " امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (أذهب أنت وربك ..) ونذكر مقالة سعد بن معاذ ( ...... فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك " وتمضى الروايات فتحكى استبشار الرسول بإجماع المهاجرين والأنصار على لقاء العدو في بدر, يقول ابن هشام ( فسر رسول الله (ص) بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال: سيروا وابشروا ) [3] . وهذا الإجماع من البدريين على لقاء العدو نجد ما يعارضه في النص القرآني الذي بدأت به الروايات القرآنية عن غزوة بدر إذ يقول تعالى (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ، وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ،..الأنفال 5: 7) . فالآيات صريحة في أن فريقا من المؤمنين في بدر كان كارهاً للحرب وطامعا في الاستيلاء فقط على القافلة , وأنهم حين فوجئوا بفرار القافلة وأن عليهم مواجهة المشركين كرهوا اللقاء وأعلنوا رأيهم صراحة بل وجادلوا الرسول (ص) في عدم الحرب مع أن الحق قد تبين ووضح وهو أنه لابد من المواجهة , ثم إذا أذعنوا للقرار الحتمي كانوا كأنهم يساقون للموت وهم ينظرون ، وقد كانوا يريدون الاستيلاء على القافلة ولكن الله يريد المواجهة المسلحة مع المشركين ليحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين , إذ قد وعد الرسول (ص) إما بالعير وإما بالنفير . تسكت الروايات التاريخية عن توضيح هذه الحقيقة القرآنية التاريخية فتعطى انطباعاً بالتعارض بينها وبين النص القرآني , إذ يفهم من الرواية التاريخية انعدام المعارضة بينما تؤكد الرواية القرآنية وجود معارضين أعلنوا رأيهم بالصوت والحركة .

سكوت الروايات التاريخية عن تسمية الأشخاص من الصحابة وتفصيل أعمالهم

1 ـ ولأن الروايات التاريخية سكتت عن الموضوع بأكمله فنحن لا نعرف من هم من البدريين الذين عارضوا وجادلوا في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . هذا مع أن البدريين كلهم معروفون بالاسم والنسب[4] . والطريف أن مؤرخاً مفسراً مثل ابن كثير حين عرض لتفسير قوله تعالى (وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ.. الآيات) لم يذكر رواية تاريخية وإنما بعض الشروح كأنما يفسر آية في التشريع لا في التاريخ وهو المؤرخ المشهور , وعذره أنه لم يجد رواية تاريخية تشرح الآيات , وكان ينبغي عليه أن ينبه على هذه الفجوة بين الرواية القرآنية والرواية التاريخية .

2 ــ وفى سورة الأحزاب حديث مفصل عن غزوة الأحزاب ومواقف المنافقين وطائفة أخرى أظهرت محنة الأحزاب ضعف الإيمان في قلوبهم فكانوا مع المنافقين صفاً واحداً , وكان النص القرآني يتحدث عنهما معا كأن يقول تعالى (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ..الأحزاب12) . أو يقول تعالى (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً ..الأحزاب18) (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً ..الأحزاب60). ولم تسعفنا الروايات التاريخية بشرح لأعمال أولئك المنافقين وضعاف الإيمان بمثل ما فصل القرآن , وشأن النص القرآني أن يشير إلى صفات لا إلى أشخاص محددين بالاسم واللقب , وهكذا فإذا عرفنا بعض المنافقين الذين قالوا ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً فإننا لم نعرف الصنف الآخر الذي أظهرت المحنة إفلاس عقيدته ولم نعرف من هم المعوقون والمثبطون ولم نعرف من هم المرجفون الذين هددهم القرآن بهذه اللهجة العنيفة ولعنهم (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ..الأحزاب61) . فالروايات التاريخية سكتت عن الشرح وبذلك أصبح النص القرآني وكأنه يتحدث عن أناس لا وجود لهم على أرض الواقع والتاريخ.

3 ـ وهذا القصور من الروايات التاريخية في توضيح النص القرآني مبعثه إلى أن من قام برواية التاريخ كانوا من أبناء المهاجرين والأنصار وأحفادهم , وأولئك تحرجوا في الخوض في الروايات التي فيها مآخذ على أسلافهم فسكتوا عنها , وتحول النص القرآني الذي يؤرخ لأحداث معينة إلى مجرد نص يحتاج إلى تفسير للألفاظ بمثل ما فعل ابن هشام في تاريخه دون محاولة لشرح الرواية القرآنية رواية تاريخية تحدد فيها الأسماء وتوضح فيها المواقف .

أخيرا

1 ـ ومهما يكن من أمر فإن القصور في الروايات البشرية التي تشرح النص القرآني – سواء كان قصوراً بالإضافة وإلى تناقض مع النصّ القرآنى  – أو بالسكوت عن الشرح – فالمهم أن ذلك القصور البشرى يؤكد عجز البشر دائما أمام القرآن المعجز لكل البشر , وهذا يعنى أن مجال الاجتهاد في شرح القصص القرآني سيظل مفتوحاً أمام كل دارس , والمهم أن يتسلح دارس القرآن بأدوات الاجتهاد ويبدأ فيه معتمداً على الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه .

2 ـ إن قصور البشر أمام القرآن مما يؤكد إعجاز القرآن .. هذه حقيقة تتضح أكثر إذا توقفنا مع الإعجاز في القصص القرآني.



[1]
البخاري 6ر178

[2] تفسير ابن كثير 4ر261

[3]سيرة بن هشام 2 ر615 تاريخ الطبري 2 ر435

[4]ذكرهم ابن هشام في تاريخه 2 ر 677 , 706

 

اجمالي القراءات 5128

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (4)
1   تعليق بواسطة   Ben Levante     في   الجمعة ٠٤ - أكتوبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[91444]

بعض التساؤلات حول موضوع البحث عن مصادر التاريخ الدينية


السلام عليكم



عن المعجزات الحسية للرسل وعن امتناع الله عنها أثناء الرسالة الاخيرة جاء في مقالكم مايلي: "وهناك سبب آخر منع إرسال معجزة حسية , فالمعجزات الحسية كانت تأتى بالإهلاك للقوم المعاندين, فالمشركون قبل محمد عليه السلام طلبوا معجزة وطلبوا العذاب الإلهي، فكانت تأتى للرسل السابقين معجزات حسية، ولا تجدي في هدايتهم فينزل الله العذاب فيمحقهم". عيسى بن مريم جاء بمعجزات حسية، وبغض النظر عن رواية صلبه، فلقد اختفى عن أنظار القوم ولم يعد له أثر حسي في واقع الامة. مع هذا فلم يحدث اهلاك للقوم وانتشرت المسيحية وتعاليم الانجيل عبر طرق اخرى واناس آخرين. حتى بعد موسى وآياته الحسية وآيات سليمان وموقف الناس منهم لم يحدث اهلاك لتلك الاقوام. هل كان العامل على عدم الاهلاك هو بقاء الرسالات مكتوبة وبذلك ضمان استمراريتها – التوراة والانجيل والقرآن – لذا كان تأجيل الاهلاك إلى الآخرة؟ نستطيع هنا القول أن هذه الرسالات التي حُفِظت بكتابتها لم تكن لقوم واحد وإنما للعالمين، حتى لو قامت امة معينة بحمل الرسالة. واذكر هنا تعليقا لي حول بعث موسى إلى فرعون بأنه كان محاولة لهدايته، وفرعون ليس من بني اسرائيل (اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ﴿١٧﴾ فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ ﴿١٨﴾ وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ ﴿١٩﴾ النازعات). الفرق بين القرآن ورسالات موسى وعيسى هو أن القرآن غير قابل للتغيير.



لو تمعننا في الآية عن الحواريين ((قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ ..المائدة115)) نستطيع القول بأن الناس الذين كانوا في عهذ الرسول محمد وعاندوه لن يُعَذَّبوا عذاب من كفر من اولئك الحواريين المعنيين بالآية. وهذا ينطبق أكثر بكثير على من لم يرى هذه الآيات الحسية ولم يرى حنى تلك الرسل.



تعليق على مقال سابق:



من الفصل الأول من كتاب : ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى ــ دراسة عملية )



جاء في الحلقة الرابعة من هذا الفصل "رابعاً : كيفية استخلاص المادة التاريخية في القرآن الكريم" ما يلي: "وفى ذلك كله يستعين الباحث علاوة على المصحف بالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ، وقبل ذلك عليه أن يكون حافظاً لكتاب الله وعلى دراية كافية بمواضع النزول وعلوم القرآن والسيرة والتاريخ ودقائق اللغة العربية والبيان القرآني – على أن يجعل ذلك كله في خدمة النص القرآني لا العكس ، وأن يقصد بذلك وجه الله حباً في دينه ونصرةً لكتابه". حسب ما فهمت فهذا النص كان موجوداً في كتابكم سنة 1984. هل لا زلتم تعتقدون بما جاء به؟ إذا كان الامر كذلك فعندي بعض الاسئلة:



أولاً هذه العلوم التي ذُكِرت لم تكن موجودة في القرن الاول بعد وفاة الرسول، فعلى ماذا كان بامكان باحثي ذلك الزمان أن يعتمدوا عليه في بحوثهم؟



ثانيا إذا كانت هذه العلوم ضرورية للباحث في استخلاصه للمادة التاريخية من القرآن أو أي مادة اخرى لها علاقة بما جاء في القرآن، فكيف سيستفيد هذا الباحث منها إذا كانت هذه العلوم متناقضة حتى مع نفسها؟ ربما يكون العكس صحيحاً، بأن يستفيد الباحث من القرآن لأثبات صحة معلومات وردت في هذه العلوم أو عدم صحتها. 



2   تعليق بواسطة   سعيد علي     في   الجمعة ٠٤ - أكتوبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[91445]

حلقة مفقودة في الروايات التاريخية !


الاشكالية الكبيرة التي وقع فيها المؤرخون و كُتاب الرواية التاريخية لا سيما التاريخ المتزامن مع نزول القران الكريم هو عدم الأخذ برواية الطرف الآخر ( إذا كانت هناك روايات ) دعنا نفترض جدلا لا وجود لتلك الروايات من الطرف الآخر ( لأنه لا وجود لطرف آخر ! ) لكن الحروب اللاحقة ( الفتوحات ) كفارس و العراق و مصر و الشام كانوا متقدمين تاريخيا فأين رواياتهم التي تصف ما حدث ؟ على الأقل من باب المقارنة .



نرجع للمقال الرائع و أقول حفظكم الله جل و علا و يبقى القران الكريم في جزئية التاريخ يتحدث عن صفات لا أشخاص و هذه الصفات توجد في كل مجتمع و يبقى الأساس هو العبرة و العظة و من أسف أن التاريخ يكرر نفسه فلا الظالم المستبد يتعظ و لا الكافر بالقررآن يعتبر رغم وضوح الرؤية و سبحان الله العظيم .. و الحمد لله على نعمة القران و كفى .



3   تعليق بواسطة   آحمد صبحي منصور     في   الجمعة ٠٤ - أكتوبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[91446]

شكرا استاذ بن ليفانت ، واقول :


1 ـ العامل الأساس هو أن القرآن الكريم رسالة عالمية ، أما موسى وعيسى ومن بينهما من الرسل فقد كانوا لبنى اسرائيل فحسب . موضوع الإهلاك العام  للمعاندين توقف بعد الإهلاك العام لفرعون وقومه . ونقوم الآن بتسجيل حلقات عن الإهلاك الجزئى بعد فرعون ، ومنه ما يحدث للمحمديين حتى اليوم . جدير بالذكر أن تهديد الحواريين بالعذاب فى موضوع طلب معجزة المائدة يأتى فى إطار الإهلاك الجزئى . وقد تعرض الصحابة ( صحابة الفتوحات ) الى إهلاك جزئى فى عام الرمادة وطاعون عمواس ، وشرحنا هذا فى كتاب ( المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء الراشدين ) . 

2 ـ لم يكن هناك علم فى القرن الأول الهجرى بل فتوحات وحروب أهلية. جاءت الفرصة فى العصر العباسى ثم ما لبث أن أضاعها الحنابلة ، وهم الذين جعلوا القرآن خاضعا لأحاديثهم المفتراة .

3 ـ فى هذا المبحث كنت أوجّه الحديث لمن يتدبر القرآن اليوم ، وحتى ذكرت كتاب ( المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ) للراحل محمد فؤاد عبد الباقى ، وكنت أعتمد عليه وقتها فى مراجعة الآيات .

4 ـ من يتدبر القرآن لا بد أن تكون له خلفية علمية متنوعة ، وبمقدارها ــ مع إخلاصه البحثى ـ يمكن أن يأتى بجديد فى تدبره القرآنى ، ولكن يظل تدبره رؤية بشرية . وأيضا يظل فى مراجعة للنفس كما فعلت مع هذا الكتاب. 

4   تعليق بواسطة   آحمد صبحي منصور     في   الجمعة ٠٤ - أكتوبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[91447]

شكرا ابنى الحبيب استاذ سعيد على ، واقول :


1 ـ هذا الكتاب كان رائدا فى بابه عام 1984، وأعتبره قد فتح بابا للباحثين . ومن طبيعة الأبحاث الرائدة أن تكون تمهيدا يلفت الإنتباه ، ويبقى على الباحثين اللاحقين التعمق من حيث الكيف والاستزادة البحثية من حيث الكم . وبنفسى قمت بإضافة أبحاث ستكون الجزء الثانى بعد الإنتهاء من هذا الكتاب الأصلى .

2 ـ قمنا بما علينا ، ولكننا نعيش عصر الأُمّية العلمية والسطحية الجاهلة حتى بين من يزعمون البحث . هم يكتبون أكثر مما يقرأون .

أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 4981
اجمالي القراءات : 53,362,550
تعليقات له : 5,324
تعليقات عليه : 14,623
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي