فهمي لسورة التوبة ( الجزء الثاني ):
فهمي لسورة التوبة ( الجزء الثاني )

أسامة قفيشة Ýí 2018-05-13


فهمي لسورة التوبة ( الجزء الثاني )

( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) 7 التوبة :

هنا يحدث اللغط الكبير في فهم هذا الكلام , و تحدثنا عن الوحي الموازي و كيف يستطيع الإنسان فهم كلام الله جل وعلا بالشكل المعاكس .

1 - ( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ ) هنا تم غرس فهمها في أذهان الجميع بأن المعنى لا عهد للمشركين عند الله و رسوله , و هذا غير صحيح قطعاً !

و العهد هو عهد الأمن و السلام و عدم الاعتداء ( راجع مقال الخليفة ) , و المعنى السليم بأن للمشركين حقٌ في هذا العهد كسائر البشر , فكلمة كيف ليست نافية بل تفيد الاستفهام التعجبي حقيقيّ الحدوث ( المؤكد على ثبات حدوثه و وقوعه ) و هنا نضرب بعض الأمثلة :

( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ  ) أي أنكم تكفرون بالله ,

( فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ  ) أي أنكم ستجمعون و تبعثون من جديد بعد الموت ,

( كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ  ) , أي أنكم تكفرون بما يتلى عليكم من آياته ,

و عليه فإن ( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ ) أي أن للمشركين عهد , و هذا هو الحقيقي بشكلٍ عام و هو حقٌ ثابت و مؤكد .

2 - تكملة الآية بعد رفع الاستثناء ( فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) , و هذا جواب الاستفهام التعجبي , و مراده يعيدنا و يحيلنا لما وردنا في الآية الرابعة ( فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) . 

3 - أما الاستثناء من هذا العهد الطبيعي و الثابت فهو قوله جل وعلا ( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) فهؤلاء هم محور الحديث و مقصده و السؤال العريض هنا من منَ القبائل العربية المشركة التي تم معاهدتها عند المسجد الحرام ؟

أليست هي قريش التي عاهدت عند المسجد الحرام ؟

أليست هي من وقع العهود و المواثيق مع الدولة الإسلامية في هذا المكان و فتحت بموجبه مكة ؟

ملاحظه هامه : بما أن النبيّ عليه السلام لم يقم بمكة فهذا يؤكد بأن كل المواثيق و المعاهدات التي أبرمها لم تكن عند المسجد الحرام , مما يؤكد أيضاً بأن عهود المسجد الحرام و مواثيقه التي وقعت هناك كانت بينه و بين أهل مكة ( قريش ) وحدهم , و قد أبرمت في الوقت الذي دخل به عليه السلام مكة , و هي الاتفاقات و المعاهدات التي بموجبها فتحت مكة .   

4 - نلاحظ هنا من ذكر و تحديد الجهة التي ستُلغى معها المواثيق و العهود , و نذكّر هنا بأن هذا البيان تم الصدع به في قلب مكة في موسم الحج و في أحضان قريش ( فماذا ستفعل قريش خلال تلك الأربعة أشهر من هذا الإخطار و تلك المكاشفة ! فهل تتوقف عن مخططها الانقلابي ! أم تسرع به و تقدم على قتل النبيّ و تضع يدها على زمام الأمور ! ) .

( كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ) 8 التوبة :

بعد أن أعلن الله جل وعلا و حدد و ذكر الجهة الباغية , و أمهلها أربعة أشهر كي تتراجع و تتوقف عن مخططاتها و أهدافها و هي ( قريش ) و كل من يساعدها في مخططها , يأتي الحديث هنا أكثر تفصيلاً و بياناً لحقيقة قريش الباطنية , و ما فعلته سابقاً و ما تفعله الآن و ما ستفعله لاحقاً , و يستمر الحديث عن قريش بشكلٍ خاص حتى الآية 24 من السورة ,

1 - ( كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ) هي كما قلنا في الآية التي سبقت بأن ( كيف ) ليست نافيه بل هي استفهامٌ تعجّبي حقيقي الحدوث , فهي تعني أنهم سيظهروا عليكم , و هنا المقصود قريش كما قلنا ( هل حدث شيءٌ من هذا القبيل بعد وفاة النبي ! فسيطرت قريش و القرشيون وحدهم على تلك الدولة و تمكنت من حرف مسارها ! ) .

2 - جواب الاستفهام التعجبي بأنهم لن يراعوا فيكم شيئاً من العلاقات التي بينكم , فصلة الدم أو النسب أو الصداقة أو المعرفة أو أي صله تربطهم بكم فلا محل لها عندهم فاحذروهم ( تحذير مسبق لما هو آت من ظهورهم عليكم و امتلاكهم لزمام الأمور ) .

3 - يرضونكم بأفواههم أي يخادعونكم بالكلام و هذا هو ظاهرهم , أما ما في داخلهم و باطنهم فهو عكس الظاهر لكم لأنهم في غالبيتهم فاسقون ( ماذا تسمعون اليوم من الحكام و المسئولين و الزعماء العرب ! و خصوصاً قادة الجهات و الحركات القتالية ! فهل يخدعونكم بأفواههم و كلامهم العنتري الجميل ! و ماذا تسمعون اليوم من أفواه مشايخهم من تدليسٍ و غسلٍ للعقول ! ) .

( اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) 9 التوبة :

هنا تعليل فسقهم بأنهم لم يعتبروا من قصص السابقين الأولين , و لم يكترثوا من عواقبها فاستهانوا و استخفّوا و استهتروا بها , فلم يتبعوا سبيل الله جل وعلا و خالفوه و تولوا عنه فساء ما عملوا .

( لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ) 10 التوبة :

و من ناتج عملهم السيئ أنهم يستقوون على الضعيف المسالم الذي لا يستطيع مقاومتهم و يعتدون عليه , حتى و إن كان ذو قرابةٍ أو نسب أو ابن البلد ( أنظروا لحال حكامنا اليوم و حال رجالاته و شبيحته و أجهزته الأمنية ) فهل حدث مثل هذا بعد وفاة النبيّ ! .

( فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) 11 التوبة :

في بداية السورة كان الحديث عن المشركين بشكلٍ عام , أما هنا و للتذكير فالحديث يدور عن قريش المشركة ( بشكلٍ خاص ) و لقد نبهت لهذا من بداية الآيات و هذا بناءاً على تسلسل الآيات و تجددها و بنفس المعنى العام الذي ورد أول السورة ,

1 - عرفنا بان المشرك هو صاحب دينٍ يتعبد به , و قلنا بأن جميع الأديان الشركية و الأرضية يتواجد فيها تلك العبادة من صلاةٍ و زكاة , و تحدثنا سابقاً عن هذا المفهوم في بداية السورة , و بأن المقصد منه هو الكف عن التدخل في صلاة و زكاة غيرهم من البشر و الاهتمام بما يمليه عليهم دينهم في ذلك و ليس المقصود إجبارهم بالصلاة و الزكاة بالطريقة التي نؤمن نحن بها .

2 - فإن استجابوا لذلك و توقفوا عن إكراهكم و إلحاحهم في فرض ما يمليه عليه دينهم فإخوانكم في الدين , و لقد تطرقنا لهذا المعني في مقال ( المشركون ) , أي أنهم زملاؤنا في التدين لا أكثر نحترم حريتهم و معتقدهم و طريقه تعبدهم فلا نُكرههم و لا يُكرهونا على شيء .

( وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ) 12 التوبة :

1 - هنا يأتي الإجراء الثاني إن لم يستجيبوا بالكف عن إكراهكم و إلحاحهم المستمر فيما يمليه عليهم دينهم و فرضه عليكم بالقوة القتالية بحجة اعتقادهم بأن دينكم غير صحيح ( وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ ) , و لأنهم يمارسون التهديد و القتل ضد من يخالفهم في الدين فإنهم يستوجبون بذلك القتال ( فما أكثر هؤلاء القرشيون هذه الأيام ! و لدينا مثالٌ حاضرٌ لما يتعرض له الدكتور منصور و الدكتور عثمان من كتاكيتهم المفترسة ) .

2 - إنهم لا إيمان لهم أي لا يمكن لنا من أن نأمنهم أو نؤمّن لهم , و قتالهم هنا فغايته لعلهم ينتهون ( للتذكير فالحديث لازال عن قريش ) .

( أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) 13 التوبة :

1 - عتاب و تلميح بتقاعس أتباع محمد عليه السلام عن واجبهم الدفاعي أمام أهلهم القرشيون المشركون المعتدون ( خصوصاً و بعد أن تمكنوا من العودة لبلدهم و بيوتهم بعد غيابٍ قاسٍ و مرير ) و هنا نستذكر بأن هؤلاء المؤمنون كانوا كارهون لقتال قريش من اليوم الأول ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ) 5 الأنفال .

2 - يذكرهم الله عز و جل بسابق العهد حين بدأت قريش بتقتيلهم واحداً تلو الآخر مما دفعهم للفرار خارج مكة , مع احتمالية تكرار هذا مجدداً ( مرةً ثانية ) .

3 - هنا توجد نقطةً حساسة للغاية في قوله جل وعلا ( قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ) , فيبدو بأن هذا الحدث من ضمن المسكوت عنه , و يبدو بأنه حدثٌ جلل و كبير فعله عملاء قريش ( المنافقون ) في المدينة ضد النبي عليه السلام و بأوامر من قريش , فهنا الحديث يدور حول سعيهم لإخراج الرسول من المدينة لأن هذا الحدث جاء نكثاً لأيمانهم التي أبرموها في معاهدات و مواثيق مكة أي بعد دخول قريش حالة السلم و الأمن مع النبيّ , و نستذكر هنا أيضاً ما ورد على لسانهم في مخطط الإخراج للنبيّ من المدينة ( يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) 8 المنافقون , لذا فأنا أرجح بأن تكون الآية رقم 30 في سورة الأنفال هي الأخرى تتحدث عن هذا المكر , و التي تقول ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) علماً بأن سورة الأنفال مدنية و لكنهم يزعمون أن تلك الآية بالذات مكية كي يضللوا هذا الحدث , كما سنلاحظ في معرض حديثنا عن سورة التوبة بأن تلك المحاولة و هذا السعي بالذات باء بالفشل في الآية 74 ( وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ ) أي هذا الحدث لم يتحقق , لذا فهو لا يرمز لخروجه عليه السلام من مكة يوم الهجرة .

( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) 14-15 التوبة :

الحث مرةً أخرى على قتال هؤلاء القتلة , و لأن القتل في الإسلام ليس هو الهدف بحد ذاته و إنما الهدف هو الردع و الصد و الجزاء , فهنا نلاحظ عَظمة هذا الدين في قوله بأن هذا القتل يشفي غليل من فقد أحبته و أصدقائه على يد هؤلاء القتلة المجرمون و يذهب غيظ قلوبهم , فنلاحظ بأن مجرد الاستشفاء أو الشعور بالسعادة حين قتلهم ليس بالأمر المحمود أو الجيد , و إن حدث هذا فإن الله جل وعلا يتوب و يغفر لمن شعر بهذا الشعور و استشفى بهم . فأين نحن من كل هذه التعاليم و لم لا يوضحون هذا الحكم للناس بأن مجرد هذا الشعور بالسعادة تجاه قتل القاتل بأنه ذنبٌ يستوجب التوبة عنه ! ( فما أعظم الله و ما أعظم حكمته ) .  

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) 16 التوبة :

هنا بيان لنتيجة الاختبار و ما يترتب عليه من التزام بأمر الله جل وعلا و التقيد بتعاليم و قواعد الجهاد و تحدثنا سابقاً عنها في مقال ( ملامح القتال و تشريعاته ) بجزئية .  

اجمالي القراءات 4686

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2014-04-09
مقالات منشورة : 196
اجمالي القراءات : 1,414,114
تعليقات له : 223
تعليقات عليه : 421
بلد الميلاد : فلسطين
بلد الاقامة : فلسطين