«الضحك على الذقون» باسم البدعة في الدين

مولود مدي Ýí 2018-02-16


الشاطبي يعد أفضل عالِم تناول مفهوم البدعة وفصّلها في كتابه الشهير (الاعتصام)، وقد ظهر هذا العالِم في ظل الوجود الإسلامي في الأندلس، وبالضبط في ذروة القوّة علميًا وعسكريًا في تلك المنطقة، بحيث كانت الأندلس منارة العلم والفلسفة والحضارة، بينما كان بقية العالم الإسلامي يعيش أحلك عصور الانحطاط والجهل والانغلاق، وبتأثر المسلمين بالثقافة الإسبانية وبانفتاحهم عليها، ساهم ذلك في الكثير من الإبداعات الإسلامية التي لا تزال شواهدها إلى حد الآن، وخاصة التحف العمرانية، كما حقّق المسلمون التعايش بين جميع الطوائف هناك، بل كان من بين خدّام البلاط والخلفاء أطباء على سبيل المثال لا الحصر من اليهود وأشهرهم الطبيب اليهودي حسداي بن شبروط.

الشاطبي – نسبة الى مدينة شاطبة في شرق الأندلس – هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، كان أصوليًا مفسّرًا، فقيهًا محدّثًا، وجدليًّا بارعًا في العلوم. ورغم أن الكثير ينسبه إلى المذهب المالكي، إلا أنه لم يتطرّف لهذا المذاهب كغيره، بل اتخذ طرقًا جديدة مختلفة قليلة في الاستدلال في القضايا الفقهية عن الطرق التقليدية، وهذا بسبب نشأته السليمة واطلاعه على مختلف العلوم، وبيئة الأندلس المنفتحة.

لم يشفع للشاطبي إعلانه الواضح عن انتمائه للمذهب السنّي، من أن يتّهم من نفس أتباع مذهبه بالبدعة لأنه لم يسلك مسلك القطيع، وكالعادة عندما يرون أحدًا يأتي يشيء جديد على تقاليد آبائهم يذهبون إلى التشويه الشخصي أكثر من مناقشة الأفكار، فاتهموه بأنه يقول إنَّ الدعاء لا ينفع، وكل أمره أنه لم يلتزم الدعاء الجماعي في إمامته للناس، ونسب إلى التشيع والرفض وبغض الصحابة، لأنه لم يلتزم ذكر الخلفاء الراشدين في الخطبة، ونسب إليه تجويز الخروج على الأئمة؛ لأنه لم يلتزم ذكرهم في الخطبة، واتهم بالغلو والتشدد لأنه التزم الفتوى بمشهور المذاهب، إلى غيرها من أمور تدل على أن من ميزات الدوغمائي؛ السطحية والجهل المقدّس الذي ينبع عن استعظام ما لديه من معرفة ومحاولة تشويه شخص الأخر المخالف بالمزاودة على إيمانه من أجل إضافة الطهرية على الذات.

ما يميّز الشاطبي هو رؤيته المخالفة للأغلبية لمفهوم البدعة، فهو يرى المبتدع متحزب ومتشيع ومفرق لجماعة المسلمين كما في قوله: اعلموا رحمكم الله أن الآيات الدالة على ذم البدعة وكثيرًا من الأحاديث أشعرت بوصف لأهل البدعة، وهو الفرقة الحاصلة، حتى يكونوا بسببها شيعًا متفرقة، لا ينتظم شملهم بالإسلام، وإن كانوا من أهله، وحكم لهم بحكمه ألا ترى أن قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء) [الأنعام: 159]. وقوله تعالى: (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا) [الروم: 31] الآية، وقوله: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) [الأنعام: 153]. 

يعرّف الشاطبي البدعة بأنها (طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه). ويقول أيضًا (الطرائق في الدين تنقسم الى ما له أصل في الشريعة ومنها ما ليس له أصل فيها). والبدع لا تدخل في العادات حسب الشاطبي. فكل ما اخترع من الطرق في الدين بما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبّد والتديّن فقد خرج من صفة الابتداع. المقصود بما قاله سابقًا، أن الابتداع المذموم هو الذي يكون من أجل التعبّد، لأن الشاطبي فهم أن البدعة تنقسم إلى بدعة دينية وبدعة دنيوية، وهذه الأخيرة سنّة الحياة التي لا يمكن الوقوف أمامها.

 

المبتدع عند الشاطبي هو من يقول إن الشريعة لم تتم – مثلما يردد البعض أن السنّة مكمّلة للكتاب – وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها، فلو كان حقا مؤمنا بكمالها وتمامها من كل وجه، لم يبتدع ولا استدرك عليها وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم. ويستدل الشاطبي بقول ابن الماجشون (سمعت مالكًا يقول :من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة لأن الله يقول: اليوم أكملت لكم دينكم. فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا).

فلماذا وقع المسلمون في أسر شيوخ اليوم واللذين من قبلهم خدعوهم لقرون وحرّموا وكفّروا باسم البدعة، وقال السلف كذا وكذا؟ الجواب هو لأن الدين تحوّل إلى ظاهرة طبقية، لم يصبح يراعي مصالح المسلم ولا مصالح الدين نفسه الذي أصبح عنوانًا للتسلط على الناس وطلب الرياسة والحكم فكل خلافات المسلمين المذهبية هي خلافات لا علاقة للدين بها وساد فيها الظلم الاجتماعي والسياسي، فاحتكر الشيوخ أدبيات وسلوكيات، خاصة بهم وضعتهم على رأس هذا المجتمع بفعل جهله واستسلامه لثنائية (الاستبداد والكهنة). والأكثر من هذا أنهم سيّجوا المعرفة الدينية ووضعوا شروطًا للخوض في الدين لم يضعها لا الرسول ولا الصحابة، بل حتى إنهم وضعوا شروطًا لم يستطيعوا هم أن يلتزموا بها، وجعلوا الدين ونصوصه كتركة ورثوها عن آبائهم.

ولهذا شاعت المقولات التي تبيّن الى أي مدى وصل الفساد السياسي عندنا كـ(لا خروج عن الحاكم) و(من اشتدت وطأته وجبت طاعته) التي هي أكبر بدع الفقه الإسلامي التي قصمت ظهر مجتمعاتنا. وتم تحصين الجهل الذي دفع بالمسلم بخضوعه للدهاقنة لكي يقول: (من أنت لتعارض الفقيه الفلاني) و(لست من أهل العلم) رغم أن أغلبية (أهل العلم) هؤلاء عبارة عن حفظة وحاملي أسفار أكثر من أشخاص قدّموا الجديد والمفيد للبشرية.. لقد صدّعوا رؤوسنا بألفاظ البدعة وأخواتها لا لأنهم يخافون على الدين، وإنما يخافون على تقاليد آبائهم ومن (الجدل المنهي عنه شرعًا).

المؤسف أن العالم الإسلامي الذي عاش قرونا في الظلم والقهر من الطبيعي أن يرى أن الآراء الوسطية في الدين والتي تتوافق مع تحولات المجتمع وضرورات الوقت لا تمثل (الدين الصحيح) كالتي جاء بها الشاطبي في الاعتصام وكتاب (الموافقات) الذي تناول موضوع فقه المقاصد وأن التشريع هو غاية وليس وسيلة، وهذا لأنه ثبت في قرارة نفوس المسلمين بأن الدين عبارة عن أحادية وغلظة وقسوة وصرامة عسكرية وأن التجديد والعياذ بالله، هو بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة صاحبها في النار.

الطريف أن هؤلاء المتحذلقين لا يفعلون شيئًا حيال موروثهم الفقهي ويكتفون بترديده واجتراره غير مبالين بالتحدّيات المعاصرة، وعندما يأتي باحث غربي مهتم بالشأن الإسلامي لينشر شيئًا جديدًا حوله يتّهمونه بالمؤامرة على الإسلام والمسلمين؛ لأنهم يؤمنون بما نسبوه للرسول من حديث قال إن الله يبعث لهذه الأمة من يجدد لها دينها، ومع ذلك لا يزال يرى أن البدعة التي هي أس التجديد أعاذنا الله من شرها ليست في استحلال الحرام أو تحريم الحلال أو الفتاوى التي تسيء إلى الدين وتتسبب في بحور من الدماء، وإنما البدعة هي في الخروج على أقوال فلان بن فلان أو قال الشيخ واتفق (أهل العلم).

اجمالي القراءات 4922

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2017-04-13
مقالات منشورة : 59
اجمالي القراءات : 520,062
تعليقات له : 23
تعليقات عليه : 39
بلد الميلاد : Algeria
بلد الاقامة : Algeria