كتاب : أثر التصوف  المعمارى والثقافى والاجتماعى فى مصر المملوكية

الفصل الأول : أثر التصوف في ازدهار العمارة الدينية والتعمير

 أهم المؤسسات الصوفية في مصر المملوكية : الخوانق والزوايا  

( الخوانـــــق )

1 ـ إن كان الفضل للأيوبيين في إنشاء الخانقاه الأولى ( خانقاه سعيد السعداء) إلا أن دولة المماليك البحرية أكثرت من بناء الخوانق وقد وضع لها المماليك تخطيطا ونظاماً معيناً وقد تركت كثرة من الخوانق منها : البندقدارية  والجاولية والبيبرسية والقوصونية والناصرية والمهندارية والنظامية والشيخونية والجمالية واليونسية ..

2 ـ   ويلاحظ أن معظم خوانق الدولة المملوكية البحرية أقامها الأمراء وخاصة أمراء الناصر محمد مثل بكتمر وطوسون والجمالي . كما أسهم في البناء طبقة من أثرياء التجار، فالشرابيشي أقام خانقاه بالدرب الأصفر. وشارك مشايخ الصوفية في البناء فنظام الدين شيخ الناصرية بسرياقوس يقيم خانقاه على سفح المقطم من ماله الخاص.

وفي عهد المماليك البرجية كان معظم بناة الخوانق من عظماء السلاطين، وقد بلغوا شأواً في عمارتها وفنونها . وتطورت الخانقاه في البرجية لتضم إلى جانب التدريس صلاة الجمعة ، وقضى ذلك على التقليد الذي اتبعه صوفية سعيد السعداء بتأدية صلاة الجمعة في الجامع الحاكمي[1] .

3 ــ وصار في مصر إلى أول القرن التاسع اثنتان وعشرون خانقاه[2]  ، وضمت الخوانق حمامات ومطابخ وحظائر للدواب والمقاعد والأحواش[3] .

4 ــ وأهم الخوانق[4] المقامة في العصر كانت خانقاه سرياقوس ، وقبلها خانقاه بيبرس الجاشنكير التي عمرها وأوقف عليها أوقافاً جليلة ثم مات قبل افتتاحها فأغلقها الناصر محمد مدة ثم فتحها ورتب فيها جماعة من الصوفية بلغوا الأربعمائة " وبالرباط فيها مائة من الجند وأبناء الناس الذين قعد بهم الوقت" ومما أعانه على عمارتها عثوره على الرخام الأبيض[5] .

5 ــ   ثم افتتح الناصر محمد خانقاته في سرياقوس 726  وحضرها أكابر الصوفية والقضاة.. وأكابر الدولة والأمراء، وفرقت على الصوفية الخلع، وقرر الأقصرائي شيخاً بها " مع جماعة قاطنين بها ليس لهم حرفة " [6].

مشيخة الشيوخ :

1 ـ ولقب بذلك شيخ خانقاه سعيد السعداء ويقول ابن الفرات "من عادة من يتولى وزارة الديار ـ المصرية من المتعلمين أن تفرش له سجادة بخانقاه سعيد السعداء، ويكون الشيوخ بها شركاء لشيخها .ولما ولى قاضي القضاة ابن بنت الأعز أرسل إلى الخانقاه سجادة لتفرش له على جاري العادة)[7] .

2 ــ  وعندما أقيمت خانقاه سرياقوس حازت على مشيخة الشيوخ من خانقاه سعيد السعداء.  وبعد وفاة المجد الأقصرائي عين الناصر محمد خادمه الركن الملطي في مشيخة الشيوخ في خانقاة سرياقوس [8] , وهى التي نافست سعيد السعداء  .

3 ــ  يقول السبكي عن هذا المنصب مشيخة الشيوخ  :"ربما سمي كبير هذه الطائفة( الصوفية ) شيخ الشيوخ ، وربما قيل : شيخ شيوخ العارفين "وجعل من وظائفه : تربية المريدين وحمل الأذى والضيم على نفسه .. الخ[9] ،  وهى أقرب إلى الآداب العامة .

وورد في وثيقة تقليد الأيكي مشيخة الشيوخ لخانقاه سعيد السعداء : ( أن يكون هذا الشيخ شمس الدين شيخ المشايخ الصوفية والناظر عليهم وعلى جميع أوقافهم بالخانقاه الصلاحية المعروفة بسعيد السعداء )[10] أي شيخاً لعموم المتصوفة " ..

4 ـ هذا، ويحدث أن يدفن شيخ الخانقاه فيها[11] .

الزوايــــــا  :

1ــ  الزاوية تُقام لشيخ صوفى واحد فى الأغلب ، يقيمها له السلطان أو الأمير المملوكى ، أو اتباعه أو هو بنفسه. وهى أصغر من الخانقاة ، ولكن قد تضم أنشطة تعليمية وطقوسا صوفية . وقد ابتنى السلاطين المماليك الكثير من الزوايا للمتصوفة كما فعل الظاهر بيبرس مع شيخه خضر العدوى [12]  . ولما تسلطن لاجين أتقن عمارة زاوية للشيخ ابن عبود[13] ، وعمّر الناصر محمد بن قلاوون زاوية الشيخ رجب التي تحت القلعة [14] ، وأنشأ الظاهر جقمق زاوية لشمس الدين الحنفي[15]  ، وبنوا زاوية لحسن السقا العريان[16]  ، وأقام برسباي زاوية للصوفية وشيخهم حسن بن ساطلمش الرفاعي وأوقف عليها الأوقاف[17] .

2ــ ودخل ابن بطوطة مصر في أيام الناصر محمد بن قلاوون وقال عن أمراء مصر ( إنهم يتنافسون في بناء الزوايا وكل زاوية بمصر معينة لطائفة من الفقراء[18]).

3 ـ  وقد بنى الأمراء زاوية لابى زكريا الصنافيري فلم يلتفت اليها [19] .  

بل حمل الأمراء التراب في بناء زاوية الشيخ أبي السعود الجارحى [20]  ، وأنشأ الأمير عز الدين أيبك زاوية الدمياطي خارج مصر [21] , وعمر الأمير القبرصي زاوية شهاب الدين الحنبلي[22] ...

3ــ وأقام بعض الصوفية ـ والأعاجم خاصة ـ زوايا خاصة بهم وبمريديهم خارجة عن تدخل الدولة،  وحيث يمارسون طقوسهم بحرية.  فالشيخ حسن الجواليقي قدم القاهرة وبنى زاوية لأتباعه [23] القلندرية ، وأنشأ بدر الدين الأصبهاني زاوية لأتباعه في النحرارية أصبحت زاوية [24] للأعاجم .. أما الشيخ عبد الله القاسمي نزيل مصر  فقد أنشأ لأتباعه في بلاد متفرقة مائة وعشرين زاوية[25] ..

4ــ والمتصوفة المصريون أقاموا لهم زاوية خاصة بهم تقليداً للأعاجم مثل الشاب التائب[26] والمتبولي[27] والوفائية الشاذلية  [28] ويوسف الإمبابي[29] والإبناسي[30].

5 ــ  وبعد هذا،  لا نسلم بذلك التعميم الذي اتجه إليه باحث حين قال (دلتني كثرة مباحثي على أن جميع الزوايا التي اتخذها مشايخ الصوفية للسكن والعبادة لم تكن من إنشائهم بل أصلها من الجوامع التي أهملت وتعطلت[31] ..) وقد يفهم  عن بعض المراجع أن بعض صوفية العجم نزلوا بأحد الأبنية وجعلوه زاوية ، فابن أشيراك التركماني العجمي ( اتخذ لنفسه زاوية تحت القلعة وصار لزاويته فقراء يقيمون بها)[32] ، وسكن بهاء الدين الكازروني العجمي في زاوية المنتهى[33]  ، ونزل بدر الدين الكردي بزاوية أخرى[34] ، وزاوية الشيخ نصر الله نزلها الشيخ النجاري[35] ، وكان حسن العجمي[36] شيخاً لزاوية , وعمّر عجمي آخر زاوية في مسجد وزاد فيه زاوية[37] أخرى ، وبنيت زاوية لابن القلانس[38] عدا زوايا لأعاجم آخرين ..[39] .

إلا أن التعميم أمر غير وارد في عصر كالعصر المملوكي الذي شهد ازدهار بناء المؤسسات الصوفية على يد الصوفية أنفسهم ومعقيدتهم ..

 هذا ... ويصعب تصنيف الزوايا بسبب كثرتها ، حتى أن القارئ لبعض الصفحات الخاصة بها في المصادر المملوكية يتخيل الزوايا في كل مكان بمصر المملوكية[40] ، وأعترف أنها تستحق بحثاً مفصلاً مستقلاً ــ أرجو أن أنجزه فيما بعد- ولكن أشير هنا إلى أن بعضها قد خصص للنساء[41] مثل زاوية حليمة ، المبرقعة في باب الشعرية،  وزاوية الست زينب خارج باب النصر ... وعرفت زوايا للقادمين من غير الأعاجم من الشام والمغرب[42] ... ويقول السبكي (وغالب الزوايا في البراري )[43] وهذا وضع طبيعي تفرضه العزلة الصوفية ولكن باتساع العمران اتصلت بعض الزوايا بالمدن ، والقرافة أقرب مثال لذلك  حيث احتوت على الكثير من الزوايا[44] وما لبثت أن اتصلت بالمدينة باتصال القرافة بها مع عدم إغفال اختلاط مفهومي الزاوية بالتربة, ووصفت المرجع كثيراً من الزوايا بأنها (ظاهر القاهرة)[45] ولن تبقى ظاهرها إلى الأبد فقد امتد العمران ليصل القاهرة بمصر ...

   وعرفت المدن الأخرى بل القرى إقامة الزوايا[46] مثل الجيزة[47] وفرجوط[48] ونواحي المنزلة[49] ومنية مرشد[50] ومنية السيرج[51] وشبرا بسيون [52] وصنافير[53] وميت جبرين[54] ويونين[55] وأقام جد الشعراني زاوية في بلده[56] ..

  وفي داخل القاهرة استحوذت منطقة الأزهر على كثير من الزوايا كالجامع الأزهر[57] والحسين[58] والحسنية [59] والموسكي[60].....