جماعات الفـُـتـوة في الأناضول في العصرين السلجوقي والعثماني في المصادر الفارسية :
لمحة تاريخية عن الفتوة

د. محمد علاء الدين منصور Ýí 2015-07-16


نشر تراث المفكر الراحل د محمد علاء الدين منصور

استاذ والرئيس السابق لقسم اللغات الشرقية بجامعة القاهرة

 

جماعات الفـُـتـوة في الأناضول في العصرين السلجوقي والعثماني في المصادر الفارسية

المزيد مثل هذا المقال :

مقدمة : 1 ـ لمحة تاريخية عن الفتوة

الفتوة موضوع قديم صنف فيه المسلمون قديما واهتم بدراسته المسلمون المحدثون والمستشرقون . والفتوة طوال تاريخها لم تقتصر على فئة واحدة من الناس ولم يتحدد لها تعريف يمكن أن يحدد منهجا لدراستها . فقد وجد المعنيون بدراستها من خلال تعاريفها في المعجمات وورودها في بعض آيات القرآن الكريم وفي كتب الأدب والتاريخ ان معناها ينصرف إلى السخاء والمروءة والشجاعة وسائر الشيم الفاضلة . وبذلك المعنى عرفت الفتوة في العصر الجاهلي وصدر الإسلام ، واستمرت بمعناها هذا أيضا أغلب العصر الأموي.

ولما حدثت الفتن والخلافات بين الصحابة في النصف الثاني من حكم عثمان بن عفان وما كان من مقتله ومبايعة على ابن ابي طالب، ثم قتل على وظهور التشيع وقيام الدولة الأموية وخروج العلويين والناقمين عليها من الموالي والعامة ، ليست الفُتوة ثوبا شيعيا وظهر من الشيعة في الكوفة جماعة من الفتيان لها لباسها المميز..

ثم انقلبت الفتوة عن معاني السخاء والأخلاق إلى المجون واللهو لدى طائفة تسمت أيضا بالفتيان أواخر عصر بني أمية واوائل عصر العباسيين.

وفي خراسان ( تفتّى ) بعض الزهاد مثل سفيان الثوري وصار للزهد بدوره فتوة . وبانفتاح الدولة الإسلامية في العصر العباسي الأول على الثقافات القديمة من يونانية وفارسية وهندية وعلى المناحي المادية في حضارات هذه الأمم وبالأخص الحضارة الفارسية ، تمخض عن الزهد وثورات التشيع فتوتان:.

الفتوة الأولى هي الفتوة الملامتية خاصة في خراسان وهي مزيج ــ كما أرى ــ من زهد خراسان العملي والعيارية التي يتصف أصحابها بسوء المظهر مع صلاح المخبر ، وقد بدت في تعاريف القوم لها مثل أبي حفص النيسابوري (ت ـ 270 هـ) وغيره . ويتصل بفُتوة الزهاد والملامتية فُتوة الصوفية كما وجد عند رويم بن أحمد البغدادي وشاه كرماني (ت قبل 300 هـ) والنصر آبادي والحلاج (مقتول 309 هـ) وأبي الحسن الوراق النيسابوري (ت 320 هـ) ومحمد ابن الفضل البلخي (ت 319 هـ) وأخيرا محيي الدين بن عربي (ت 638 هـ )[1]

والفتوة الثانية هي الفتوة العيارية التي قامت على أكتاف السوقة وأرباب الحرف والشيعة والتي نابذت الدولة العباسية بالثورات وناصروا خليفة وخذلوا آخر ، وبلغوا أقصى نفوذهم عهد استيلاء بني بويه والسلاجقة على بغداد ، وعرفوا بأسماء كثيرة ، فهم الشطار والمطوعة والأتباع والزواقيل . وفي شرق الدولة باسم الرنود وفي الشام بالأحداث ، ولقد كان لهؤلاء العيارين دور لا ينكر في جهاد البيزنطيين والصليبيين في الثغور والشام.

ثم تحولت الفتوة عن سوقيتها إلى الأرستقراطية وعن همجيتها إلى النظام والفروسية بتفتّي الخليفة العباسي الناصر لدين الله (ت 622هـ) ، ونشر فتوته بتقاليدها من لباس السروال وشرب الماء بالملح وضرب البندق على بقية حكام المسلمين في الأناضول السلجوقي والشام الأيوبي والأقاليم الشرقية من البلاد الإسلامية ، ومن حين تفتى الناصر بدأت المؤلفات تتناول الفتوة كعلم مستقل ، وقُدّم بعضها إلى الخليفة الناصر. وقبل عصر الناصر العباسى لم يرد عند الطبري أو في مروج الذهب للمسعودى ــ فى القرن الرابع الهجرى ــ بشأن الفتوة إلا إشارات بسيطة ربما لأنها كانت صفة العامة يومئذ ،والتاريخ يواكب القادة. ولكن لما صنف ابن المعمار (ت 642هـ) " كتاب الفتوة " باسم الناصر وألف السهروردي (ت 632هـ) كتابيه ( رسالة الفتوة ) و ( كتاب في الفتوة) ، كما أوجز النقاش كتاب ابنه أبي الحسن بن الناصر المسمى (عمدة الوسيلة) في كتابه (تحفة الوصايا) ، صار سنة متبعة أن يؤلف المسلمون في الفتوة كعلم له موضوعه ومنهجه ، لكن بعد أن اندرس كثير من سماتها واتجاهاتها لتأخر هذا التأليف إلى القرن السابع الهجري .

وقد انتقلت الفتوة بمفاهيمها المختلفة إلى الأناضول مع السلاجقة بعد سقوط بغداد (656 هـ) وانتهاء دورها في بغداد ، وعرفت هناك باسم (الآخِيّة). وقد قابل الرحالة ابن بطوطة جماعات هؤلاء الآخِيّة واستضافوه في زواياهم لما زار الأناضول عام 734هــ عهد تشكل الإمارات التركية ومن بينها إمارة العثمانيين على حدوده الغربية ) [2].

ولما قامت الدولة العثمانية بمساعدة جماعات الفتوة استمرت الفتوة بهذه المفاهيم جميعا ، غير أنها بعد أن ضعفت الدولة عسكريا في أواخر القرن السادس عشر تركزت على طوائف أرباب الحرف ونقاباتهم ، فانتشرت تقاليدهم أكثر من ذي قبل في البلاد التي خضعت للعثمانيين في آسيا وأفريقية وعرفت في البلقان وشرق أوربا ) [3].

ولا يخفى ما لدراسة الفتوة من أهمية بالغة كتنظيم ديني سياسي اجتماعي اقتصادي ساد المجتمعات الإسلامية وما تزال بعض آثارها واضحة إلى اليوم، كما أن قيمتها لا تقدر في تفسير كثير من النواحي الغامضة في التاريخ والأدب والتصوف والحياة الاجتماعية الإسلامية وفي إيضاح العلاقات بين الجماعات التي خضعت لنظام الفتوة والتصوف وجماعات الفروسية المسيحية في القرون الوسطى ) [4].

وقد راعيت في دراستي للفتوة أن أحدد لها تعريفا يفسر تطوراتها من خلال عرض ما كتب فيها من غير أهلها ودرس دارسيها أولا ، ثم من خلال مصادرها الأولى التي وضعها اهل الفتوة أنفسهم ثانيا . واعتمدت في تحديد تعريفها على أساس معناها في الشعر الجاهلي ثم في القرآن الكريم واتضح انها هي الغزو او الجهاد. وعرضت هذا التعريف القرآني في الخاتمة بعد عرض للفتوة تاريخا وطريقة من خلال ما كتب فيها أهلها وغيرهم ليصدر حكما موضوعيا. وحسب الباحث أن يحاول قدر وسعه تقديم حل فإن أصاب فبفضل من الله تعالى وإن أخطأ فيشفع له أنه لم يقعد عن المحاولة. أما عرض تاريخ الفتوة وهو من خلال ما ورد فى كتب التاريخ والأدب والتصوف والرحلات ودارسات المختصين وما اقتضاه تحديد الفتوة على انها غزو وجهاد ومن إشارات للجهاد الإسلامي عبر تاريخها فقد استغرق القسم الأول من البحث ، وروعي في عرضه الإيجاز وعدم التكرار او الرد على أحكام بعض الدارسين إلا بقدر.

وقد انصب القسم الثاني من البحث على عرض ما كتبه اهل الفتوة في مصادرها الأولى لأن الفتوة ظاهرة تنتقل من مكان إلى آخر ومن زمان إلى زمان ومن لغة إلى أخرى ويتعين على دارسها أن يتتبعها في أكثر من بلد إسلامي من نشأتها إلى نهايتها من خلال المصادر العربية والفارسية والتركية ليحيط بكل ما يتصل بها . وقد رؤي تناول جماعاتها في الأناضول [5] (ـ في العصرين السلجوقي والعثماني) في مصادرها الفارسية. ذلك لأن الأناضول قد تعرف إلى الفتوة ــ بعد تأسسها في الكوفة وانتشارها في بغداد وبعض المدن الإسلامية الأخرى ــ على انها جهاد في شماله وجنوبه الشرقيين. ولما دخله السلاجقة بمشاركة غزاة الثغور المسلمين حملوا الفتوة جهادا وتقاليد من خراسان وبغداد والشام حتى غربه ، ولما سقطت بغداد وانتهت الفتوة الناصرية العباسية انتقلت الفتوة إلى الأناضول لاستمرار الغزو في اطرافه الغربية ولبعده عن سيطرة المغول في إيران نسبيا ، ولاستكماله مقومات الحياة السهلة عن أي بلد إسلامي غيره. وقامت الدولة العثمانية بتأييد من جماعات الفتوة فمكّن لهم وبعثت كجهاد في غزوات العثمانيين في الأناضول والبلقان وشرق أوروبا ، وقويت تقاليدها بانتقال الخلافة العباسية من مصر المملوكية إليهم. ولم تنته الفتوة إلا بانتهاء الخلافة والدولة العثمانية فى أوائل هذا القرن العشرين.

كان الترك من حيث الدم إيرانيين إلى حد ما وشكل الفرس كثافة سكانية في الأناضول )[6] وغلبت المدنية الإسلامية على الاناضول بعد (تتركه) بعنصريها العربي والفارسي خاصة الأخير الذي قوي بعد سقوط بغداد وظهر علماء وأدباء كتبوا بالفارسية أشهرهم الشاعر جلال الدين الرومي (ت 672هــ) ، وكان من السلاطين السلاجقة من يقرض الشعر بالفارسية مثل غياث الدين كيخسرو وابنه كيكاوس الأول وقد ظلّ التأثير الفارسي في الأدب التركي بعد ظهوره إلى ان قضى عليه الكماليون في عهد قريب ) [7].

ولا يعني ايثار المصادر الفارسية اهمال المصادر العربية الأصل او التركية بل يتقاضانا وهي واسطة العقد عرض ما تيسر منها ، ويترتب على هذا أن بحث جماعات الفتوة في مبادئهم ورسومهم من خلال المصادر الفارسية سوف يكون حاكيا لها في البلاد الإسلامية بعامة والأناضول بخاصة.



[1]
ــ طبقات السلمي .. تحقيق نور الدين شريبة (مصر 1953) 117 ــ 8 ، 183 ، 301 ، 216 .. والرسالة القشيرية (مصر 1304هـ) 134 ـ 7 والفتوحات المكية لابن عربي (مصر 1293هـ) 1/312 ـ 18 ، 2/306 ــ 11..

[2]ــ رحلة ابن بطوطة .. تهذيب احمد العوامرى بك وأحمد جاد المولى (مصر 1934) 1 / 225 ــ 66

[3]ــ دعا اختلاف مفاهيم الفتوة وعدم تحديد تعريف جامع لها إلى ان يحكم المحدثون من العرب والمستشرقين بصعوبة دراستها ، كما اعلن الدكتور أبو العلا عفيفي في كتابه (الملامتية والصوفية وأهل الفتوة ، الذي يقدم فيه لرسالة السلمى (ت412هـ) في الملامتية (مصر 1945 ، 11 ــ 12 ) ، وقال مثل ذلك كلود كهين في أول مقالته عن الفتوة في دائرة المعارف الإسلامية الحديثة (1/961 ـ 8) كما دعا إلى أن ينازع د . عفيفي (ثورننج) و ( هورتن) في مبلغ صلة الفتوة بأرباب الحرف والملامة إذ ينكر المستشرق الأول الذى درس فتوة أرباب الحرف صلتها بالتصوف ينكر الثاني صلتها بالملامة (الملامتية والصوفية وأهل الفتوة 26 ، 27 ) .. كما أدى هذا الاختلاف أيضا إلى أن تقل الدراسات العربية المعاصرة للفتوة من ناحية وأن يتناولها كل من تناولها من مفهوم واحد من مفاهيمها من ناحية أخرى ، فقد بحث د . عفيفي الفتوة في كتابه من ناحية اتصالها بالتصوف والملامة واستند إلى ما كتبه الأقدمون فيها كأبي عبد الرحمن السلمي الذي ألف للفتوة الملامة والتصوف معا (المقدمة 11ــ 48). وقدم في د . مصطفى جواد لكتاب ابن المعمار (كتاب الفتوة) فأرخ للفتوة وركز على الناحية اللغوية والشعرية (مقدمته لكتاب الفتوة. بغداد 1958 ، هـ ــ 99). ودرس الأستاذ عمر الدسوقي الفتوة على أنها فروسية ليدلل على أن الفروسية العربية أساس الفروسية المسيحية في العصور الوسطى( كتابه ، ، الفتوة عند العرب  مصر 1951) . وأفرد د. كامل مصطفى الشيبي فصلا للفتوة في كتابه (الصلة بين التصوف والتشييع ، 485 ــ 514 ) ليخلص إلى انها من معالم الصلة بينهما مستشهدا لذلك بقباسات من كتاب الكاشفي ( ت 910هـ) فتوتنامه سلطاني) 

[4]ــ الملامتية و الصوفية وأهل الفتوة 12 .

 

[5]ــ خضعت الدولة البيزنطية منذ عهد جستنيان العظيم لنظام البنود أو الأقاليم الحربية ، وقد أبقى المسلمون على هذا النظام وسمّوا البنود الأجناد ، وكان من بين هذه البنود (أناتوليا) أي البند الشرقي او المشرق في اللغة الرومية ، ثم عرف بالأناضول .. (انظر دائرة المعارف الإسلامية الحديثة في مادة الأناضول والإمبراطورية البيزنطية والدولة الإسلامية . د . إبراهيم العدوى  . مصر 1951 ص 73 ).

[6]ــ للتفصيل أنظر مقدمة أستاذنا الدكتور أحمد السعيد سليمان لكتاب (قيام الدولة العثمانية) لمحمد فؤاد كوبريلى (مصر 1967) ى ــ ك ..

[7]ــ نفس المرجع السابق ع ــ ف .

اجمالي القراءات 12452

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2015-03-29
مقالات منشورة : 0
اجمالي القراءات : 0
تعليقات له : 0
تعليقات عليه : 8
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt

احدث مقالات د. محمد علاء الدين منصور
more