فوازير رمضان : أحدث صيحة فى إغتيال رمضان ( 3 )

آحمد صبحي منصور Ýí 2015-07-03


1 ـ بعد الصحوة التى اسسها أهل القرآن ، وبعد أن ألقينا أحجارا فى بركة التفكير الراكدة الآسنة تجرأ كثيرون على نقد الموروث والمتواتر ، ما كان منه صحيحا أو باطلا . وتجرأ كثيرون على البحث فى القرآن الكريم بلا إستعداد أو تأهيل فكرى ، يدخلون عليه بأهوائهم ، فمن يريد جعل الصلاة ثلاثة أو إثنتين ينتقى من الآيات ما يريد ، ومن لايعجبه تشريع عقوبة السارق يستشهد بآيات قرآنية يرد فيها مصطلح ( قطع ) بإسلوب المجاز جاهلا أن آيات التشريع تأتى بأسلوب علمى محدد لا مجاز فيه ، ومثله من يرفض تشريع ( فاضربوهن )، ومن يريد تعطيل الصيام يشكك فى التقويم القمرى ،. من هنا إستمرت ( فوازير رمضان ) أو( اساطير رمضان ) بفضل الفقهاء الجدد. 

المزيد مثل هذا المقال :

2  ـ إذ ظهرت مقولات حديثة تشكك فى التقويم القمرى والذى على أساسه يتم حساب شهر رمضان والأشهر الحُرُم وما كان يحدث من نسىء . ويصل القارىء المقتنع بهذا ــ الى الشك فى أن رمضان الذى نصومه ليس رمضان الحقيقى . هذه مقولات خاطئة تماما . ولو إفترضنا ــ جدلا ــ صحة هذه المقولات وإنه على سبيل الافتراض أن الناس صاموا شهر رجب على أنه شهر رمضان ، فالمستفاد مما سبق أن الله جل وعلا الغفور الرحيم لن يؤاخذهم ، طالما يصومون إبتغاء وجه الرحمن جل وعلا . ولكن نتوقف فى لمحة للرد على هذه المزاعم : 

ثانيا  :

1 ــ قبل نزول القرآن الكريم بقرون كانت الحضارات القديمة تعرف التقويم الفلكى؛ القمرى والشمسى  ، من الصين شرقا الى حضارة المايا فى أمريكا الجنوبية ، وما بينهما من حضارات الهند والعراق وايران والمصريين القدماء . ولم يكن العرب قبل الاسلام بعيدين عن هذه المعرفة ، بل كانوا يؤدون على أساس التقويم القمرى فريضة الحج  كل عام فى الأشهر الحُرُم الأربعة ، والله جل وعلا عندما تكلم عن فريضة الحج كأحد معالم ملة ابراهيم قال : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ )  البقرة197 ) . قال جل وعلا (أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) ، لم يذكرها جل وعلا لأنها بالنسبة لهم (أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ). كانت معلومة بالنسبة لهم ، ويتجلى هذا فى سؤالهم عن مشروعية القتال فى الشهر الحرام : (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) البقرة 217 ).

2 ـ  وفى تشريع خاص بزمانه ومكانه أعطى رب العزة مُهلة الأشهر الأربعة الحُرُم للمشركين الكافرين المعتدين على البيت الحرام بعد فتح مكة ، وكان أولئك المعتدون قد نقضوا العهود ، وهمُّوا بإخراج الرسول من مكة ، وهى تفصيلات قرآنية تشير لأحداث هائلة أهملتها سيرة ابن اسحق ، وهو أول من كتب السيرة للخليفة المهدى العباسى ، وتناقض فيما كتب مع ما جاء عن سيرة النبى والمؤمنين ومن حوله فى القرآن الكريم ، وتجاهل الكثير من الوقائع تقربا للعباسيين الذين كان جدهم ( العباس ) مشركا قائما بسقاية الحاج ، ونزل فيه قوله جل وعلا : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) التوبة ) . يهمنا هنا الانذار الذى وجهه رب العزة جل وعلا للمشركين المعتدين ، قال جل وعلا : ( فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ)التوبة 2:(فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)التوبة 5). ونفهم منه ـ بعد تلاعب المحمديين بالأشهر الحرم ــ أن الأشهر الحرام تبدأ بإفتتاح موسم الحج فى أول شهر ذى الحجة ثم تتتابع الى نهاية الشهر الرابع : ربيع الأول . صحابة الفتوحات بزعامة ابى بكر وعمر وعثمان إستحلوا الأشهر الحرم وقاموا فيها بفتوحاتهم الظالمة المناقضة للاسلام ، وبعدها صارت سُنّة سيئة للمحمديين نسيان الأشهر الحرم وإستحلال الاقتتال فيها وفى غيرها . العرب فى الجاهلية كانوا أقل سوءا ، مع معرفتهم بالأشهر الحُرُم كان يقومون فقط بالنسىء ، يستحلون شهرا منها ويستبدلونه بشهر آخر من بقية الأشهر ، وهذا هو زيادة فى الكفر كما قال جل وعلا ( التوبة 37 ) ، ولكن نستفيد منه معرفتهم بمطالع الشهور القمرية والتقويم القمرى.

3 ـ وفى التأكيد على معرفتهم بالتقويم القمرى نذكر أن من تشريعات االقرآن الكريم ما جاء منها مرتبطا بالشهر القمرى المتعارف عليه ، مثل  الايلاء ( البقرة 226 ) وعدة الأرملة ( البقرة 234 ) وعدة المطلقة ( الطلاق 4 )  وكفارة الظهار ( المجادلة 4 ) . ونفس الحال فى شهر رمضان بقوله جل وعلا : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) البقرة 185 ) . هنا خطاب لأناس يعرفون ما هو شهر رمضان وما هو الصيام .

4 ــ ولقد سألوا النبى محمدا عليه السلام عن الأهلة ( جمع هلال ) وكالعادة لم يبادر عليه السلام بالاجابة ، بل إنتظر حتى تأتى الاجابة من رب العزة ، ونزل قوله جل وعلا : ( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ )(189) البقرة )، جاءت الاجابة بما هو معروف للعرب الذين يتبعون التقويم القمرى ويتعرفون على مقدم الشهر القمرى من رؤية الهلال فى سماء صحرائهم الصافية. جاءت الاجابة بأن ( الأهلة ) هى ( مواقيت للناس) أى فى تحديد الأشهر وفى تحديد بداية شهور ( الحج ).

5 ــ فى القرآن الكريم إشارات للتقويمين الشمسى والقمرى ، فالله جل وعلا يقول : ( فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) الانعام ). الشمس والقمر ( حسبانا ) أى بدوار القمر حول الأرض وبطواف الأرض حول الشمس يكون الحساب للشهور والسنين ، بالتقويم القمرى وبالتقويم الشمسى .

هذا خطاب خوطب به العرب وقت نزول القرآن الكريم ، وهم الذين كانوا يعلمون الاهتداء بالنجوم فى أسفارهم وصحرائهم وسمائهم الصافية ، يقول جل وعلا يخاطبهم بما يعلمون فى الآية التالية : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) الانعام  ) ويكرر ذلك ويؤكده (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) النحل ). بل يقول رب العزة يخاطب خاتم النبيين عليهم جميعا السلام : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) الطور ) أى يأمره بالتسبيح بالليل وحين تدبر اى تختفى النجوم ، أى يخاطبه بثقافة معروفة فى عصره ، ثقافة تتعامل ـ ليس فقط مع التقويم القمرى ـ بل مع النجوم . وفى هذا السياق نقرأ قوله جل وعلا فى توقيتات فريضة التسبيح  المنسية : (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)  طه ) ( فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)  الروم ) (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)  ق )

فى التأكيد على أنهم  كانوا ( يعلمون ) هذه الايات الالهية فيما خلق الله جل وعلا نستشهد بالمزيد :  يقول جل وعلا : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) يونس ). هنا تفصيل ( لقوم يعلمون) أن الله جل وعلا قد ( قدّر القمر منازل) ليعلموا وليتعلموا من خلاله عدد السنين والحساب بالتقويم القمرى. ويقول جل وعلا أيضا عن منازل القمر من المحاق الى الهلال الى البدر : ( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) يس )، والعرب هم الذين إبتدعوا أسماء لمنازل القمر تدل على علمهم الدقيق بها .   كما يقول عن التقويم الشمسى والقمرى : ( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) الرحمن )  ، ويقول رب العزة : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12) الاسراء ). هذه آيات خوطب بها العرب الذين يعرفون التقويم القمرى وبه يتعاملون ويؤدون الحج والصيام . والشعر الجاهلى يتجلى فيه هذا العلم . وهناك إشارة للفارق الزمنى بين السنة القمرية والسنة الشمسية فى قوله جل وعلا : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25)الكهف )، أى 300 سنة بالتقويم الشمسى أو 309 بالتقويم القمرى .

4 ــ التقويم الشمسى تتبعه الفصول الأربعة . ومن رحمة الله جل وعلا أنه لو كان الصيام بالتوقيت الشمسى لظل الصيام فى الشتاء فقط أو فى الصيف فقط أو الربيع فقط أو الخريف فقط ، وبدون تغيير . التقويم القمرى يجعل رمضان يحلُّ بتتابع زمنى دقيق فى كل فصول العام ، بما يُضاف الى التيسير الذى يصاحب تشريع الاسلام وتشريع الصيام على وجه الخصوص .

5 ـ ولا يقولنّ أحد أنه حدث مثل هذا الخلل فى تحديد بداية رمضان ونهايته فى الحضارة العربية . شهر رمضان كان يمثل مناسبة هامة ، يسجلها المؤرخون ، وتقام فيها الاحتفالات ، وإستحدثوا فى نهايته عيد الفطر . أى ليس شهرا منسيا . أضف الى ذلك معرفة العرب والأمم المفتوحة بالحساب الفلكى ، ثم شهرة علماء العرب والمسلمين فى هذا المجال بحيث أخذ عنهم الغرب.وذلك موضوع يطول شرحه لو دخلنا فى إسهام المسلمين والعرب فى علم الفلك ، وهو موضوع معترف به من الغربيين ، إذ كان العلماء العرب والمسلمون منارة للعالم وقتها ، هذا قبل أن يقضى الحنابلة على تلك الحركة العلمية ، وكل ما أسهم الحنابلة فى علم الفلك خرافاتهم بأن الشمس عندما تغرب تذهب لتسجد للرحمن و.. الحديث الملعون ( صوما لرؤيته )، الذى قام بتغييب الحساب الفلكى عن تحديد بداية ونهاية شهر رمضان . وقد أفردنا له مقالا بهذا العنوان .

أخيرا

نعيد تأكيد ما سبق :  ظهرت مقولات حديثة تشكك فى التقويم القمرى والذى على أساسه يتم حساب شهر رمضان والأشهر الحُرُم وما كان يحدث من نسىء . ويصل القارىء المقتنع بهذا ــ الى الشك فى أن رمضان الذى نصومه ليس رمضان الحقيقى . هذه مقولات خاطئة تماما . ولو إفترضنا ــ جدلا ــ صحة هذه المقولات وإنه على سبيل الافتراض أن الناس صاموا شهر رجب على أنه شهر رمضان ، فالمستفاد مما سبق أن الله جل وعلا الغفور الرحيم لن يؤاخذهم ، طالما يصومون إبتغاء وجه الرحمن جل وعلا .

كل عام وأنتم بخير .

اجمالي القراءات 10950

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (1)
1   تعليق بواسطة   سعيد علي     في   السبت ٠٤ - يوليو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً
[78632]

أحسنتم الدكتور أحمد فقد أغلقتم بابا ضيقا بدء يتوسع كلما حل رمضان !!


مقال رائع .. كالعادة و فوق العادة .. أستوقفتني هذه الفقرة :



ثم شهرة علماء العرب والمسلمين فى هذا المجال بحيث أخذ عنهم الغرب.وذلك موضوع يطول شرحه لو دخلنا فى إسهام المسلمين والعرب فى علم الفلك ، وهو موضوع معترف به من الغربيين ، إذ كان العلماء العرب والمسلمون منارة للعالم وقتها ، هذا قبل أن يقضى الحنابلة على تلك الحركة العلمية .



حفظكم الله جل و علا .



أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 4982
اجمالي القراءات : 53,380,967
تعليقات له : 5,324
تعليقات عليه : 14,623
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي