لمحة عن العطور فى تاريخ المسلمين

في الثلاثاء ٢٣ - يونيو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

يذكر ابن الجوزي في تاريخ " المنتظم " أن الخليفة العباسي المقتدر بالله كان مسرفا أضاع ما ادخره أسلافه الخلفاء من الجواهر والنفائس . ويحدد ابن الجوزي أنواع الجواهر التي فرقها المقتدر ، ثم ذكر أنواع النفائس الأخرى التي أضاعها ونفاجأ بأن تلك النفائس التي تقترب قيمتها من الجواهر هي " الغالية ".
2 ـ و" الغالية " اشهر أنواع الطيب المستخلص من العنبر .. ويروى ابن الجوزي أن الخليفة العباسي المعتضد استدعي خازن الطيب والعطور وسأله : كم عندك من الغالية؟ فقال : نيف وستون حبا صينيا مما عمله عدد من الخلفاء ، فقاله له : فأيها أطيب ؟ فقال الخازن : ماعمله الخليفة الواثق ، فأمره المعتضد بإحضارها، فأحضر الخازن جملة عظيمة يحملها عدد من الخدم ، وفتحوها بين يديه فوجد أجود أنواع الغالية وقد ابيضت من طول المدة وجمدت من التعتيق ، فأعجبت المعتضد وأخذ منها شيئا بأصابعه ومسح بها لحيته واكتفى بذلك وقال للخازن : ما تسمح نفسي بأكثر من ذلك ، وأمر بإرجاعه إلى خزائنه حرصا عليه".
وتولى المكتفي الخلافة فاشتاق إلى رؤية ما ادخره أسلافه من عطور الغالية فاستدعى الخازن ، فأخبره بأن الغالية التي ادخرها الواثق أثمن الأنواع وأجودها ، فطلب منها شيئا فأحضر له ثلاثين أو أربعين درهما استبقاها لاستعماله ، وأمر بختم الخزائن على ما فيها وتركها على حالها كما فعل أبوه المعتضد.
ثم تولى المقتدر الخلافة فجلس يوما مع جواريه فتذكر خزائن الغالية، فاستدعى الخازن وسأله عن أطيبها فأخبره الخازن بما سبق أن أخبر به أباه " المعتضد" وأخاه "المكتفي"، فقال له المقتدر: هاتها كلها ، فأحضرها كلها بين يديه ففرقها على الجواري.
وحضر ذلك الموقف القائد صافي الحرمي الذي كان مولى للخليفة المعتضد من قبل والذي شهد حرص المعتضد والمكتفي على الخزائن والنفائس ، وهاله ما يراه من المقتدر وهو يوزع الغالية أرطالا على الجواري فقال له (يا مولاي هذه الغالية أطيب الغوالي وأعتقها ولا يمكن تعويضها ، فلو تركت ما بقي منها لنفسك وفرقت من غيرها كان أولى) وبكى صافى فاستحى منه المقتدر وكف عن توزيع ما بقي من الغالية .. ويقول صافي " فما مضت إلا سنين من خلافته حتى فنيت تلك الغوالي واحتاج إلي عجن غالية بمال عظيم "!
ومن القصة السابقة تعرف حرص الخلفاء العباسيين على الاستحواذ على أجود أنواع الغالية ، أو عطر العنبر ، وحرصهم على الاحتفاظ به معتقا كي يزداد تركز الرائحة الطيبة فيه وتزداد قيمته ونفاسته ولذلك كانت الغالية مقرونة بالجواهر ونفائس الكنوز .
وقد عرف رجال الحاشية ولع الخلفاء العباسيين بالغالية فكانوا يهدونهم منها ويروي ابن كثير في تاريخه أن العباس بن محمد أهدى هارون الرشيد برنية من فضة فيها غالية من أحسن الطيب ، فقبلها منه ..
الغالية وأنواع العنبر
والغالية كانوا يستخلصونها من عنبر السلاهطي أزرق اللون ، ويمتاز بأنه كثير الدهن والدسم واشتهر في العصر العباسي . وهناك أنواع أخرى للعنبر وهى الشحري ويحصلون عليه من سواحل الهند والبحر العربي ، واشتهر هذا النوع بأنه الأجود والأفضل والأغلى في العصور اللاحقة.
والزنجي ويؤخذ من سواحل شرق أفريقيا ، وكانت عدن موطن الحصول عليه ويميل لونه للبياض .
القاقلي: نسبة إلي ميناء كلكتا بالهند ، وكانوا ينطقونها " قلقتا" وراجت أسواقه في اليمن وعدن ولونه أشهب حسن المنظر خفيف وفيه يبوسة ، وهو أقل جودة من السلاهطي ولذلك لا يصلح لصناعة الغالية.
وألوان العنبر مختلفة منها الأبيض وهو الأشهب والأزرق والرمادي والجزاري وهو الأبرش والصفايح وهو الأحمر. وأفضل العنبر وأجوده ما جمع رائحة زكية مركزة . ويستخرج العنبر من الحوت وكانوا يتبعون حوت العنبر وتجمعاتها ويجمعون ما يطفو من العنبر على سطح الماء أو على السواحل أو يصطادون الحوت ويستخرجونه منها .
والعنبر لم يكن أشهر أنواع الطيب الذي عرفه المسلمون فالقرآن الكريم ذكر المسك يقول تعالى عن شراب أهل الجنة " يسقون من رحيق مختوم ، ختامه مسك : 83/25: 26"
فالعرب عرفوا المسك ولذلك استعمل القرآن الكريم كلمة " المسك" ليقرب للأذهان نعيم الجنة الذي ما رأته عين ولا خطر على قلب بشر.
2 ـ المسك
والمسك هو أفضل أنواع الطيب وأشهرها ، ويستخلص من غزال صغير له قرن واحد أو قرنان غير أن له نابين في فكه الأسفل كما يحكي المقدسي في كتابه " طيب العروس ".
وكانوا يصيدون غزال المسك ويذبحونها ويصفون " النوافج" وهى الدم الذي يحوي المسك ، ثم يوضع فيه الرصاص المذاب ويحاط بالخوص ،وتعلق في حلق أربعين يوما ثم تعلق في موضع آخر حتى يتم جفافها وتشتد رائحتها ، ثم تخاط في مزاود صغيرة وتعد للتصدير والبيع .
وبعضهم كان يستأنس غزال المسك ويحيطها بأسوار فإذا أحكت جلدها في الأسوار تساقطت منها النوافج ثم يجمعونها جامدة ورطبة .. وبعضهم كان يتتبع الغزال ويجمع ما تساقط منه من نوافج المسك .
ويختلف نوع المسك باختلاف أنواع الغزال المنتجة له ، لذا فأجوده ما طاب مرعى الغزال وطاب نباته وأجود أنواع المسك ماكان يشبه في الرائحة التفاح اللبناني وكان يغلب على لونه الصفرة وقالوا إنه كلما اشتد سواده صار أدني قيمة.
وقد رتب المقدسي أفضل أنواع المسك كالأتي :
التبتي : وهو ما حمله التجار من التبت إلي خراسان، وهو أفضل لطيب مرعاه وحمله في البر دون البحر
والصفدي : وهو ما حمله التجار من الصفد في التركستان إلي خراسان .
الصيني : وهو أقل رتبة بسبب نقله في البحر وطول مكثه على ظهور السفن .
وأفضل أنواع المسك الصيني ما يأتي من مدينة خانفو التي ترسو بها مراكب التجار المسلمين وتحمله إلي الخليج العربي ، فإذا خرج من المركب جادت رائحته وذهبت عنه رائحة البحر .
3 ـ العود
والعود من أنواع الطيب الفاخر وكانوا يحصلون عليه من أشجار معينة في الهند في كشمير وسرنديب وقمار ، وبعد أن يعتق ويقشر تصير له رائحة طيبة بعد أن يجف ، ويحملونه حينئذ إلى التجار لتصديره.
وقيل إنه يستخلص من لب الشجرة ولذلك يقشرون غلاف الشجرة إلي أن يصلوا إلي قلب الساق ثم يدفنونه في التراب حتى تأكل الأرض ما بقى من القشرة الخشبية ولا يبقى إلا العود الذي لا تؤثر فيه الأرض.
وأحيانا تكون أشجاره في أودية جبال شاهقة يصعب الوصول إليها ، ويحدث أن تتكسر تلك الأشجار وتحملها السيول إلى حيث يتيسر للناس الحصول عليها ، وتقوم السيول وعوامل التعرية بمهمة نزع الخشب والقشر من الشجر ، ويتبقى الساق الذي يحوي العود في داخله ، فيحصل عليه الناس جاهزا .
وأجود العود ما كان صلبا رزينا ظاهر الرطوبة كثير الماء والدهن وله صبر على النار ويبقى أكثر في الثياب .
وأفضل ألوانه الأسود والأزرق الذي لا بياض فيه ، ومنهم من يفضل الأسود على الأزرق ومنهم من يفضل الأزرق على الأسود.
وأنواع العود ثمانية عشر نوعا أهمها :
المندلي : نسبة إلي المندل في الهند ، وهو أجودها وأبقاها على النار وأكثرها عبقا في الثياب ، ولم يكن هذا النوع معروفا حتى نهاية الدولة الأموية .
ولما قامت دولة العباسيين وارتفع شأن آل برمك أدخلوا التطيب بالعود في البلاط العباسي ، فقد كانت للحسين بن برمك معرفة بالعود المندلي الهندي حين هرب للهند من اضطهاد الأمويين ، ثم دخل على الخليفة المنصور العباسي وفي ثيابه العود الهندي فأعجب الخليفة برائحته ، وأمر باستيراده من الهند فاشتهر بين الناس من يومها ، خصوصا وأن مرارة رائحته تقتل القمل وتنظف الثياب من الحشرات .





هذه المقالة تمت قرائتها 546 مرة

التعليقات (4)
[40208] تعليق بواسطة عبدالمجيد سالم - 2009-06-20

اللافت للنظر أنه في هذا العصر مع صعوبة المواصلات والإتصالات إلا أن العالم كله كان وحدة واحدة حيث أن هذه المنتجات المذكورة في المقال كانت تأتي من الهند والصين وهي بلاد بعيدة عن بلاد العرب ، مما يدل أن الكتابات التاريخية لم تعطنا صورة كاملة عن الحياة في هذه العصور ، ولهذا فإن المصادر التاريخية تحتاج إلى عقليات فذة تستطيع أن تستشف ما بين سطور التاريخ وتخرج مثل هذه الموضوعات الشيقة .




[40317] تعليق بواسطة عائشة حسين - 2009-06-22
مصر القديمة وصناعة العطور
كان لمصر الدور الأكبر في تأسيس صناعة العطور وكانت توجد طريقتان لصناعته : الأولى وهى وضع الأزهار في لوحة كبيرة من ورق البردي له طرفان تمسك به سيداتان ويوضع الورود مع قليل من الماء في داخل اللوح ثم تدور كل سيدة الطرف الذى تمسك به عكس اتجاه السيدة الأخرى فيتم عصر الورود وكان يوضع تحتهما إناء كبيرة ليسع الكمية المعصورة ثم بعد ذلك تحفظ في أواني خزفية وفخارية كان يصنع وخزفية وفخارية كان يصنع للملكات وزوجات الأمراء والكهنة للتزين به عند الاحتفالات وكان للطبقات الغنية لا لباقي الشعب، الطريقة الثانية وهى وضع الورود في إناء فخاري صغير وحرقه لأعطاء رائحة عطرة للجو وكان هذا النوع من العطور جزء من القرابين المقدمة للآلهة أو لتوديع المتوفي ولم يكن لأغراض الزينة




[40322] تعليق بواسطة ايناس عثمان - 2009-06-22
السودان قديما موطن الابنوس والعطور والبخور
شكرا دكتور أحمد على هذه الموضوعات المتجددة والمفيدة لنا ثقافيا ولقد قرأت عن هذا الموضوع معلومة أرجو أن يستفيد منها باقي القراء :



وفي عهدي الدولة الوسطي بمصر و الدولة الحديثة احتل المصريون جزءاً من السودان كان يطلقون عليه كوش. و أصبحت اللغة الفرعونية هي اللغة الرسمية. ولاسيما بعدما طرد "أحمس مؤسس الأسرة الثامنة عشر الهكسوس من مصر. فاتجه إلي بلاد النوبة نحو السودان. وتم الإخضاع التام للسودان في عهد "تحتمس الثالث" عندما احتله حتي الشلال الرابع. وإستمر الاحتلال لمدة ستة قرون . اعتنق السودانيون خلالها الديانة المصرية وعبدوا ألهتها وتثقفوا بثقافاتها حتي اصبح السودان جزءاً لا يتجزأ من مصر . وكان ملوك الدولة الحديثة يعينون نوابـاً عنهم لإدارة السودان، لإستفادة مصر من موارده وثرواته كالذهب وخشب الأبنوس و سن الفيل و العطور و البخور و ريش النعام و الفهود وجلودها و الزراف و كلاب الصيد والماشية . ولكن بعد انقطاع الصلة بينهما تلاشت معرفة السودانيين باللغة المصرية ولاسيما أثناء مملكة كوش النوبية حيث ظهرت اللغة الكوشية .




[40337] تعليق بواسطة نورا الحسيني - 2009-06-22
إسهام العرب في مجال العطور.
موضوع العطور من الموضوعات الشيقة في القراءة ، فبعد قراءة المقال والتعليقات فقلت واذا عن العرب ، ألم يكن لهم إسهامات، فبحثت ووجدت هذه المعلومات، يحدثنا التاريخ أن الإنسان منذ زمن موغل في القدم يستخدم نوعا من العطور، فقد قام بحرق أنواع من النباتات ذات الروائح الفواحة بمثابة بخور تاج الزهرة لاستخراج ماء الزهور منذ 1300 عام.ولم يستعمل العرب تاج الأزهار كعطرٍ فقط بل استعملوها كدواء أيضاً. ولعل أقدم أنواع العطور في العالم يدعي "عطر الورد" وقد كان رائجاً جداً لدي القبائل العربية. يستخدم أثناء القيام بالطقوس الدينية. وقد استخدم الفراعنة العطر منذ خمسة آلاف سنة, إلا أن العرب هم أول من استخدم



تعتبر الأزهار مثل الياسمين والبنفسج وزهر الليمون والورد وغيرها, من المصادر المهمة لاستخراج العطور. ولكن جوهر العطر يستخرج من مصادر أخرى غير الأزهار, كالخشب ولاسيما خشب الأرز وخشب الصندل, ومن الأوراق مثل النعناع والغرنوق والخزامي, ومن جذور معينة مثل الزنجبيل والسوسن.