المستشفيات الإسلامية في العصور الوسطى
"البيمارستـــــــــــــان"

في الجمعة ٢٢ - مايو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

"البيمارستان" كلمة فارسية تتكون من كلمتين "بيمار" أي مريض "ستان" أي محل و مكان أي دار المرضى, و قد دخلت هذه الكلمة اللغة العربية بهذا المعنى يقول الجوهري في الصحاح : المارستان بيت المرضى, وكان المراد بالمارستان مكان معالجة كافة الأمراض, ثم أقتصر بعدئذٍ على المكان المخصص لرعاية المجانين .
وأول من بنى المارستان في الإسلام الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك و ذلك سنة 88هـ، وجعل في المارستان الأطباء وأجرى عليهم المرتبات, وأمر بحبس المجذومين حتى لا يخرجوا و أجرى عليهم و على العميان الأرزاق و جعل لهم من يعتني بهم بأجر، وأغنى أولئك المرضى وأصحاب العاهات عن التسول.
ثم بذل عمر بن عبد العزيز رعايته بالمكفوفين ،وقد قال :" انظروا الشيخ المكفوف الذي يغدو بالأسحار فخذوا له ثمن قائد ، لا كبير فيقهره ، و ليس بصغير فيضعف عنه" ثم أصدر أمراً بأن يوزع على كل كفيف غلام من الأسرى الأرقاء يقوم بخدمته .
وانتشر بناء المارستانات في حواضر العالم الإسلامي في العصرين العباسي والمملوكي .

المارستانات في مصـــر
أبرز مارستان أنشيء بمصر الإسلامية بناه ابن طولون سنة 259 هـ , وجعل له الأوقاف واشترط ألا يعالج فيه جندي أو مملوك ، أي جعله للناس خارج الحكم ، وجعل للمارستان اثنين من الحمامات ، أحدها للرجال والآخر للنساء ، ووضع ابن طولون القواعد للإنتفاع بالمارستان ، فإذا جاء المريض تنزع عنه ثيابه وأمواله ويحفظها له أمين المارستان ، ثم تصرف له الأدوية واللباس والأغذية ويراعيه الأطباء حتى يبرأ ، فإذا بريء أكل دجاجاً وخبزاً وأخذ أمواله وثيابه وخرج .
وفي سنة 266 بلغت نفقات ابن طولون على المارستان ستين ألف دينار. وكان ابن طولون يزور المارستان ويتفقده كل يوم جمعة ، وقد آذاه بعض المجانين فرماه برمانة كادت تقضي عليه، فانقطع عن زيارة المارستان ..
وقبل أحمد بن طولون بنى الوزير العباسى الفتح بن خاقان مارستاناًت في عهد الخليفة المتوكل ، وكان أولها في مصر، وقد اندثر ..
وأنشأ كافور فى الدولة الإخشيدية فى مصر مارستاناً آخر سنة 346 وأوقف عليه بعض الحوانيت والمنازل وزوده بالآلات والأدوات وألحق به اثنتين من دورات المياة إحداهما لتغسيل الموتى, وأنشأ به اثنين من الحمامات .
واندثرت تلك المارستانات فلم تدرك العصر المملوكي الذى بدأ عام 648 هجرية / 1250 ميلادية.
في العصر المملوكــي
المارستان المؤيدى
وفي العصر المملوكي أنشأ السلطان المؤيد شيخ المارستان المؤيدي وافتتحه في رجب 823 واستقبل المرضى في الشهر التالي , وكانت مصاريفه من جملة أوقاف الجامع المؤيدي المجاور لباب زويلة , وكان موضع المارستان بجوار القلعة .
ثم تحول المارستان إلى جامع بعد موت السلطان المؤيد شيخ وأقيمت به صلاة الجمعة سنة 825 هـ .. حيث كان المارستان المنصوري يقوم بوظيفته باعتباره أشهر مارستان في العصر المملوكي .

المارستان المنصورى : أول وأشهر مارستان فى العصر المملوكى
ومن الطريف أن كان الأمير قلاوون يغزو الروم في سلطنة الظاهر بيرس سنة 675 فأصابه مرض شديد وهو في دمشق فعولج في المارستان الذي أنشأه نور الدين زنكي حتى بريء من مرضه ، وأعجبه نظام المارستان ونذر إن جعله الله تعالى سلطاناً أن يبني مارستاناً بالقاهرة .
فلما أصبح قلاوون سلطاناً وتلقب بالمنصور قلاوون أوفى بنذره ، وأنشأ المارستان المنصوري أشهر مارستان في العصور الوسطى.
وقد اختار مقرا له الدار القطبية، وكانت تملكها مؤنسة خاتون من ذرية الملك العادل الأيوبي ، فعوضها عنه بقصر الزمرد. وقام الأمير سنجر الشجاعي بتحويل الدار القطبية إلى مارستان ، فأبقى القاعة الأساسية وجعلها أساس المارستان ، وبدأ في بنائه. وحدث أن عثر العمال أثناء الحفر على قمقم نحاس مختوم برصاص ففتحه الشجاعي فوجد فيه فصوص ماس و ياقوت و لؤلؤ وذهب فذهب به للسلطان فساعدت في بناء المارستان .
وأتم الشجاعي عمارة المارستان في أسرع مدة وهىّ أحد عشر شهراً وأيام ، وكان قد شرع في البناء في أول ربيع الآخر سنة 683 هـ . وأوقف السلطان قلاوون على المارستان أملاكاً أوقافاً تدر ريعاً سنوياً قدره مليون درهم.
وكانت مجموعة عمارات قلاوون الخيرية تضم المارستان والقبة والمدرسة ومكتب تعليم الأيتام .
وجعل السلطان في المارستان فراشين من الرجال والنساء لخدمة المرضى وقرر لهم المرتبات ، وأقام لكل مريض سريراً وفرشة بكل ما يحتاج إليه ، وقسم المارستان إلى أقسام حسب المرض ، فهناك قسم للحميات وآخر للرمد وثالث للجروح ورابع للإسهال والأمراض الباطنة وقسم للنساء ، وآخر لأمراض التخمة يضم جناحاً للنساء وآخر للرجال .
وأوصل الماء إلى كل الأقسام ، وأفرد أماكن لإعداد الطعام وإعداد الدواء وتركيب الأشربة والمعاجين ، وأماكن أخرى للتخزين والحواصل ، ومواضع لتفريق الدواء وأخرى لإلقاء الدروس الطبية.
والرحالة ابن بطوطة يقول عن المارستان المنصوري " وأما المارستان الذي بين القصرين عند تربة الملك المنصور قلاوون فيعجز الواصف عن محاسنه, وقد أعد فيه من المرافق والأدوية ما لا يحصر , ويذكر أن مجباه - أي مصاريفه - ألف دينار كل يوم " .

جولة داخل المارستان المنصوري
وندخل داخل أروقة المارستان المنصوري من خلال ما كتبه قلاوون في وثيقة الوقف على ذلك المارستان , والعادة أن عقد الوقف ينص على كل النشاطات التي تقوم بها المؤسسة وكيفية توزيع مخصصات الوقف على كل نشاط .
فقد جعل السلطان الانتفاع بالمارستان من حق كل المرضى المسلمين من الرجال و النساء و الأغنياء و الفقراء من داخل القاهرة وخارجها مهما اختلفت أمراضهم ومذاهبهم, والإقامة فيه للمريض إلى أن يتم شفاؤه والإقامة مع كل التكاليف مجاناً لا يدفع فيها المريض شيئاَ .
وتعطينا وثيقة الوقف فكرة عن الخدمات التي تؤدى للمرضى مثل توفير الأِسرَّة ( جمع سرير) والفراش والأدوية والعقاقير المختلفة والطعام المناسب لكل مريض حسب حالته الصحية ، وتوفير الإضاءة والماء العذب وترتيب الفراشين والقيام بنظافة المكان وغسل ملابس المريض وعمل حوائجه ومصالحه، أي رعاية كاملة يتمناها المريض في أحدث المستشفيات المعاصرة .
وتتحدث الوثيقة عن تحضير الدواء داخل المارستان وتخزينها لحين الحاجة وصرف الدواء لكل مريض ما يحتاج إليه دون زيادة أو نقصان .واهتمت الوثيقة بحالة الجو في صيف القاهرة الحار فاشترط ضرورة صرف مراوح من الخوص لكي يستخدمها المريض أثناء الصيف. وحرص الواقف على تغطية غذاء المرضى حتى لا يتلوث ، وأن يتناول كل مريض غذاءه على حدة حتى لا تنتقل العدوى ،وكل ذلك لزيادة الحيطة ورعاية المرضى .
وعينت الوثيقة رجلين يقوم أحدهما بوظيفة الصيدلي والآخر بوظيفة الممرض ؛ يتولى الأول حفظ الأدوية والعقاقير ويصرفها حسب أوامر الأطباء ، ويسلمها للرجل الثاني ليوزعها بنفسه على المرضى ، وعليه أن يتأكد أن كل مريض قد تناول الدواء المخصص له،ومسئولية الممرض أيضاً الإشراف على طعام المرضى ..
وقسمت الوثيقة الأطباء في المارستان إلى ثلاث فئات: فئة تتخصص في الأمراض الباطنية ، وفئة للعمليات الجراحية ، والثالثة لأمراض العيون. وترتب الوثيقة كيفية فحص الطبيب للمرضى ، وضرورة تعاون الأطباء في التخصصات الثلاث في الكشف على المريض ، وحرصت الوثيقة على وجود الأطباء في المارستان ليلاً مجتمعين أو متناوبين للاحتياط .
وانتقل اهتمام المارستان المنصوري إلى المرضى الفقراء في بيوتهم ؛ فنصت وثيقة الوقف على رعايتهم وإمدادهم بالدواء والغذاء , ويذكر النويري صاحب موسوعة " نهاية الأرب" أن أولئك المرضى - من الخارج- قد بلغ عددهم أحياناً أكثر من مائتين, وجدير بالذكر أن النويري كان ناظراً للمارستان المنصوري ما بين سنة 703 , 707 هـ .
وبالإضافة إلى ذلك كان للمارستان المنصوري عيادة خارجية تستقبل المرضى الذين يترددون عليه للعلاج ثم يعودون إلى بيوتهم ، وقد بلغ عددهم في بعض الأوقات أربعة آلاف شخص يومياً حسبما يذكر البلوي في رحلته "تاج المفرق .."
والتفتت وثيقة الوقف على المارستان المنصورى إلى تدريس علم الطب والنهوض بالمعارف الطبية، وذلك يشبه ما يحدث الآن من إلحاق كليات الطب بالمستشفيات الكبرى لتقترن الدراسة النظرية بالبحث العلمي الإكلينكي ، وكان رئيس الأطباء يجلس "بالمصطبة الكبرى" بالمارستان ليشتغل بعلم الطب ويحضر معه أطباء المارستان للبحث والدراسة .
واهتمت الوثيقة بالرعاية الاجتماعية للمريض بعد خروجه من المارستان ، فكانت تصرف لهم الكسوة والإعانة ، أما إذا مات المريض في المارستان فعلى المارستان تجهيزه ودفنه حتى لو كان بين أهله .
كانت تلك لمحة سريعة عن النواحى الحضارية فى الدولة المملوكية ، التى لم تكن تخلو من حسنات ..