العراق:"التشظي السياسي" والمعارك الانتخابية القادمة

في الثلاثاء ٢٤ - يونيو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

تبدو ملامح المشهد السياسي العراقي اليوم مختلفة، بصورة كبيرة، عن المراحل السابقة. وإذا كانت بوصلة المجتمع السني تتجه نحو مشاركة أوسع وأكبر في العملية السياسية وتراجع وانحسار في المقاومة المسلحة، مع أفول للقاعدة يتوازى مع تحولها نحو العمل الأمني بعيداً عن مفهوم الدولة..
.. فإنّ الحراك في المشهد الشيعي، أيضاً، يتطور بصورة سريعة، بخاصة بعد مواجهات مدينتي البصرة والثورة بين الجيش العراقي وجيش المهدي، وبعد علامات الاستفهام التي بدأت تصيب العلاقة بين القوى الشيعية وطهران.

المخرجات الرئيسة لهذه المتغيرات تتمثل بحالة من "التشظي السياسي" تستغرق المجتمعين السني والشيعي، مقابل حالة من السكون والاستقرار في المشهد الكردي. أما المفارقة فهي تكمن في أنّ قيادات عراقية ترى، في تصريحات خاصة بسويس أنفو، أنّ حالة التشظي (هذه) يمكن أن تشكل مخرجاً من الطائفية السياسية التي ضربت المجتمع العراقي خلال السنوات السابقة!

تحولات المشهد السني: من الصحوات إلى العمل السياسي
تتمثل أبرز ملامح التحول في المشهد السني بانحسار المقاومة المسلحة وانتقال أعداد كبيرة من القيادات الميدانية إلى العمل السياسي، بعد تراجع فكرة الصحوات السنية أيضاً. أبرز الكيانات السياسية الجديدة في الساحة تتمثل بكيان "الاستقلال" (تمركزه الرئيس في جنوب بغداد) ويقف وراءه محمود الجنابي (أبو أطياف) أحد أبرز القادة الميدانيين في الجيش الإسلامي، فيما يقف أبو عزام التميمي (وهو قائد ميداني سابق في الجيش الإسلامي) مع عدد من الشخصيات وراء تأسيس كيان "الكرامة الوطنية" (تمركزه في بغداد، بصورة خاصة في منطقة أبو غريب)، وهنالك كيان "الحركة الوطنية للتنمية والإصلاح" ويقف وراءه أثرياء عراقيون معهم قادة سابقون في المقاومة وشخصيات تكنوقراطية، ويلعب جمال الكربولي (الشخص الثاني سابقاً في الهلال الأحمر العراقي) دوراً بارزاً في تشكل هذا الكيان، وهنالك كيان "مؤتمر صحوة العراق" يقوده أحمد أبو ريشة، ويتمركز في مناطق الأنبار.

وتبرز الكيانات السنية الجديدة لتقف على الأرضية السياسية نفسها التي تقف عليها "جبهة التوافق السنية"، ويقودها الحزب الإسلامي العراقي، وتتشكل كذلك من مؤتمر أهل العراق، وتجمع المستقبل الوطني، والتجمع الوطني العشائري. ومن الواضح أنّ الكيانات السنية الجديدة تهدد هيمنة هذه الجبهة على التمثيل السني في العملية السياسية، وتؤذن بتشظي التمثيل السني وتراجعه.

في حديث خاص بسويس أنفو، لا ينكر أسامة التكريتي، النائب في البرلمان العراقي وأحد أبرز قادة الحزب الإسلامي، إمكانية تأثر الحزب الإسلامي بهذه الخارطة الجديدة على الساحة السنية، لكنه في المقابل يرى أنّ أغلبها انبثقت عن الصحوات، ولا تحمل مشروعات سياسية ذات ثقل حقيقي.

يختلف أبو عزام التميمي، في تصريحات خص بها سويس انفو، مع التكريتي ويرى أنّ الكيانات الجديدة ستؤثر بصورة جذرية على تمثيل الحزب الإسلامي، وستحقق مكاسب ملحوظة في الانتخابات المحلية القادمة المتوقعة في نوفمبر من هذا العام، وكذلك في الانتخابات البرلمانية القادمة.

وتؤكد معلومات موثوقة أن هنالك تحالفاً قيد الاتمام بين كيان الكرامة الوطنية (بقيادة أبو عزام) وكيان الحركة الوطنية للتنمية والإصلاح (بقيادة الكربولي) ويسعى هذان الكيان للالتقاء بكيان الاستقلال (أبو أطياف)، وإذا ما حدث ذلك فإنّ الوزن السياسي لهذه القوى سيأخذ حجماً كبيراً في المرحلة القريبة القادمة.

في المقابل لا تزال قوى سنية أخرى متمسكة بموقفها الرافض لـ"العملية السياسية تحت الاحتلال" وتتخذ موقف المقاومة السلمية أو العسكرية، وفي مقدمة هذه القوى والهيئات تقف هيئة العلماء المسلمين بزعامة الشيخ حارث الضاري، فيما تشكل "جبهة الجهاد والتغيير" (أبرز فصائلها كتائب ثورة العشرين وجيش الراشدين) العمود الفقري للمقاومة المسلحة، وإن كان نفوذها وتأثيرها تراجع بصورة كبيرة خلال الشهور السابقة، في مرحلة الصحوات، وقد عادت للنشاط مع المرحلة الحالية في تحول الصحوات نحو العمل السياسي.

وتشير مصادر عديدة إلى مرحلة متقدمة من تشكل جبهة جديدة رافضة للعملية السياسية تنطلق من سورية، بعنوان "جبهة إنقاذ العراق"، وتتالف من شخصيات سياسية ومثقفة في العراق، وتعلن رفضها العملية السياسية تحت الاحتلال، وتؤمن بالمقاومة السلمية. وأبرز شخصياتها مشعان الجبوري. وتشير المعلومات ذاتها إلى نية إطلاق فضائية تعبر عن هذه الجبهة، ومنابر إعلامية أخرى.

المشهد الشيعي: صورة جديدة وتساؤلات عن العلاقة بإيران
على الطرف الآخر؛ فإنّ القوى الشيعية تشهد أيضاً مخاضاً مختلفاً يدور في أغلبه حول العلاقة مع إيران والاتفاقية الأمنية التي يجري التفاوض حولها مع الاحتلال الأمريكي.

وتبدو أبرز ملامح هذا المخاض في المواجهات القاسية والخطرة التي دخل بها الجيش العراقي مع جيش المهدي والتيار الصدري. وقد أدت هذه المواجهات إلى تعزيز الانشطار والاستقطاب داخل المجتمع الشيعي، وكذلك إلى طرح التساؤلات حول علاقة رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، ومعه حزب الدعوة وإلى درجة أقل المجلس الأعلى الإسلامي العراقي (بقيادة عبد العزيز الحكيم) مع إيران ومع التيار الصدري.

زيارة المالكي إلى طهران قبل عمّان، شابها غموض كبير، مع وجود مؤشرات على اتساع شقة الخلاف بين الطرفين، برز ذلك من خلال تصريحات لبعض المسؤولين الإيرانيين، وهنالك خشية إيرانية حقيقية من الطابع البراغماتي للأحزاب الشيعية، الذي قد يؤدي إلى أن تتجه نحو الولايات المتحدة منقلبة على التحالف الاستراتيجي مع طهران.

بالتأكيد النفوذ الإيراني ليس من السهولة بمكان، لكن موقف الأحزاب الشيعية العراقية يقع تحت خيارات أحلاها مر، بين مطرقة الولايات المتحدة والسندان الإيراني، في ظل أيضاً استحضار الخلافات العقدية والفكرية والسياسية بين شيعة طهران وتيار كبير من شيعة العراق.

بالإضافة إلى الخلاف المتفاقم بين التيار الصدري وحزب الدعوة والحكومة الحالية، قام رئيس الوزراء السابق، إبراهيم الجعفري، بتدشين تيار جديد منافس للمالكي بعنوان "التيار الوطني للإصلاح"، ويضاف هذا الخلاف داخل حزب الدعوة (مع انقسام الحزب في الأصل إلى كيانات؛ كحزب الدعوة فرع العراق) إلى الخلافات الكبيرة القائمة داخل التيار الصدري بين النواب ورجال الدين وقادة جيش المهدي.

ثمة قوى شيعية أخرى تحتل مساحة جيدة من المشهد السياسي، وتشكل جزءاً من الفسيفسائية الجديدة، وفي مقدمتها حزب الفضيلة (جابر خليفة جابر بطي) وأيضاً المؤتمر الوطني بقيادة أحمد الجلبي، وحركة الوفاق الوطني بقيادة رئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي.

الانتخابات القادمة هل تشهد تحالفات "فوق طائفية"؟
المشهد الجديد مختلف عن الخارطة السابقة للقوى والأحزاب العراقية. وفيما تشير المفوضية العراقية المسؤولة عن الكيانات السياسية إلى تسجيل (503) كيانات، تحضر وتعد للانتخابات المحلية والنيابية، فإنّ مراقبين للساحة العراقية يؤكدون أنّ من هذه الكيانات أكثر من مائتي كيان يمثلون أشخاصاً ولا يحظون بوجود واقعي كبير، وأنّ التنافس الكبير سيكون هذه المرة من خلال التحالفات العابرة للطوائف، سعياً من القوى المختلفة لتجاوز الأزمات والعقد داخل "الطائفة" التي تنتمي إليها.

وتشير مصادر مقربة من الحزب الإسلامي إلى وجود توجه وحوارات تستكشف إمكانية التحالف مع حزب الدعوة، بخاصة بعد التوجهات الأخيرة للمالكي لترتيب البيت العراقي، ومحاولة وضع حد للميليشيات المسلحة، وإعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية بإبعادها عن الطائفية.

ويشير أسامة التكريتي لسويس إنفو إلى أنّ حزب الدعوة يمكن إذا تجاوز المرحلة السابقة وخرج من شرنقة التفكير الطائفي أن يكون حليفاً قوياً للحزب الإسلامي، لظروف تاريخية ولأسباب فكرية وسياسية على السواء.

في المقابل؛ تشير مصادر مقربة من الكتلة الوطنية للتنمية والإصلاح وكيان الكرامة الوطنية إلى التفكير جدياً بالتحالف مع إياد علاوي، ومحاولة الوصول به رئيساً للوزراء في المرحلة القادمة. وترى شخصيات مقربة من الكتلة الوطنية أنّ علاوي أقرب إلى الطابع الوطني منه إلى الطائفي، وأن علاقته بإيران ليست جيدة، ما يتيح تحجيم النفوذ الإيراني والحد منه داخل العراق.

وتشير مصادر أخرى إلى أنّ هنالك احتمالا للتحالف بين أحمد الجلبي وبين قوى سنية، بصورة خاصة الجبهة الوطنية لإنقاذ العراق بقيادة علي حاتم وكذلك الكيان الذي يقوده حميد الهايس.

على العموم؛ يؤمل العديد من المراقبين للمشهد السياسي العراقي أن تكون حالة التشظي السياسي الحالية إيذاناً بالخروج من الطائفية والبدء بتشكيل أنوية (أو نواتات) لكيانات وقوى وطنية تستطيع مستقبلاً أن تشكل روافع لحياة سياسية وثقافية مختلفة، بخاصة مع تحسن الأوضاع الأمنية في بغداد وأغلب المناطق السنية.

.. لكن السؤال يبقى أين تقف القوى الإقليمية والخارجية من هذا المشهد السياسي؛ فيما إذا كان يخدم مصالحها أم أنها ستعمل مرة أخرى لإعادة الجميع إلى المربع الأول، أي الطائفية والعنف والتحضير لمعارك دموية تستنزف العراق سنوات أخرى؟!