آحزان مضحكة أو.. تلك الابتسامة الساحرة على وجه ميت!

في الإثنين ١٠ - مارس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

غبت الأسبوع الماضى فى سفر سريع واكتشفت وأنا أتجول بين عناوين أخبار الصحف فى الطائرة التى أعادتنى للوطن أن التشهير بنظام الرئيس مبارك ونجله جمال بمقولة إن البلد فى عهد سيادته تجمدت واستقرت فى جوف ثلاجة محكمة الإغلاق لمدة 82 عاماً كاملة، قول فيه افتراء وظلم شديد للنظام والبلد والثلاجة معاً، ومن ثم رتبت على هذا الاكتشاف أن الشعب المصرى فى أمس الحاجة الآن لطلب المغفرة والرحمة من المولى تعالى لعل وعسى أن يًَّمن عليه بنعمة الجمود والثبات (ولو قليلاً) على الوضع الشنيع الراهن قبل أن يتطور غداً أو بعد ساعة إلى ما هو أشنع وأفظع.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد سافرت ولا قضية تشغل بال المصريين وتدق رءوسهم فى الصباح والمساء إلا خيانة “الحضرى” وهروبه (بالليل والدنيا ضلمة) من البلد ليشارك فى صنع المجد الكروى لسويسرا على حساب المشروع الكروى المصرى الطموح مقابل بضع مئات كثيرة من آلاف اليورهات (جمع يورو)، غير أنى عدت بعد أيام ثلاثة فقط لأفاجأ بأن الحضرى الهارب عاد وكف (مؤقتاً) عن الشرب من بئر الخيانة اللذيذ، أكثر من ذلك فالرئيس شخصياً استقبله ( تاني) وكرمه مع باقى زملائه أعضاء الفريق القومى، كما وجد سيادته متسعاً من الوقت والاهتمام للتدخل فى القضية مطالباً بحل المشكلة بسرعة بما يضمن استمرار واستقرار العلاقات الأخوية الكروية بين مصر وسويسرا.
ويوم سفرى أيضاً كان سعر طن الحديد يدور حول منتصف الألف جنيه السادسة، لكنى لما رجعت وجدت الأخ أحمد عز، على رقته وقصر قامته استغل على ما يبدو غيابى ورفع سعر طن الحديد إلى عتبات الألف السابعة!!.
وكانت السيدة حرمى المصون ودعتنى بالنواح والشكوى من العيشة المرة مستدلة على مرارتها بأن كيس الأرز بالذات تجاوز الجنيهات الأربعة، لكنها استقبلتنى فى المطار بنواح أشد بعدما زفت لى خبر زيادة سعر كيس الأرز نفسه إلى خمسة جنيهات بالتمام والكمال.
وعلى الوتيرة السريعة نفسها تطور سلوك المصريين، فقد تركتهم وهم يقتلون بعضهم بعضاً على رغيف عيش، فلما عدت وجدتهم فى حرب ضروس يقتتلون على صفيحة جاز.
أما التطور المرورى الذى شهدته العاصمة فى هاتيك الأيام الثلاثة، فقد لاحظته بسهولة حينما قطعت المسافة بين مطار القاهرة وبيتى الذى فى قلب القاهرة فى ثلاث ساعات مع أن زمن الرحلة ذاتها يوم السفر لم يستهلك من عمرى سوى ساعتين لا غير..
هذه مجرد عينة من أخبار تطورنا وصعودنا السريع نحو الهاوية، وأتوقف عن ذكر المزيد منها فقط لأسأل حضرتك سؤالاً.. هل المواطن الغلبان محمد فتحى محمود الذى نشرت يوم الجمعة الماضى صحيفة “المصرى اليوم” قصة انتحاره يعرف أو سمع أو عرف طوال حياته كلها (بدأت وانتهت فى 93 سنة) شخصاً يعرف كاتب المسرح الأمريكى ذائع الصيت أرثر ميللر..؟!! وهل عرف محمد أن واحدة من أهم إبداعات هذا الأخير مسرحية اسمها “وفاة بائع متجول”؟!
طبعاً (ورغم ما قد تظنه سيادتك فى العبد لله) أنا لست مجنوناً جداً حتى أتوقع الإجابة على السؤال السابق بـ”نعم” وأن محمداً، ذلك البائع المتجول فى شوارع المنيا، كان يعرف فعلا أرثر ميللر، وأنه سمع بمسرحية “وفاة بائع متجول”، كل ما فى الأمر أن الملخص المنشور لقصة انتحار محمد والذى يؤكد أنه اضطر للخلاص من حياته بسبب الفقر والبؤس تاركاً خلفه ابنة صغيرة وزوجة مريضة، عجز عن علاجها، بدا لى هذا الملخص متطابقاً مع ملخص وقائع مسرحية ميللر إذ يمتهن بطلها ويلى لومان مهنة محمد نفسها، كما أن كل منهما ينهى حياته بيديه تحت وطأة الشعور بالعوز واليأس، الفارق الوحيد (الذى ربما هو نفسه الفرق بين مصر الآن وأمريكا فى نهاية أربعينيات القرن الماضي) أن بطل المسرحية انتحر على أمل أن يوفر لعائلته بالموت ما عجز عن تحقيقه وهو على قيد الحياة، إذ تخلص من حياته طمعاً فى حصولهم على قيمة بوليصة التأمين التى أنفق 63 عاماً من عمره وهو يدفع أقساطها، لكن محمد بائع المنيا المتجول قتل نفسه وهو محروم من أى أمل أن تحيا أسرته بعد مماته أفضل مما عاشت وكابدت وهو حى يرزق..
وبعد..
ولأن لا أحد يستطيع أن يخمن ماذا قال بائع المنيا المتجول لأسرته أو ماذا قالوا له قبل أن يودع الحياة، فالتشابه بين قصة انتحاره ومسرحية أرثر ميللر أغرانى أن أنقل من نهاية المسرحية ذلك المقطع من كلام بف ويلى لأبيه فى غمرة القنوط واليأس وقبل أن يذهب هذا الأخير مختاراً إلى الموت:
يا أبى.. لابد أن تعرف أن أمثالى وأمثالك يباعون العشرة منهم (بقرش).. ولا مفر أمامك من الاعتراف أنك أمضيت حياتك كلها على هامش الحياة وستنتهى جثة ملقاة فى سلة قمامة لا تثير اهتمام أحد تماماً كما عشت عمرك..
ولا حول ولا إلا بالله.