هاجروا تنالوا إحدي الحسنيين

في الأربعاء ٢١ - نوفمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

لم يكن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- خائناً لوطنه أو جاحداً له حين شرع في الهجرة من مكة إلي يثرب، ورغم كل ما لاقاه من جحود ونكران وتكذيب بين أهله، وقف قبل رحيله مخاطباً مكة: (والذي نفس محمد بيده لأنت خير بلاد الله وأقربها إلي قلبي.. ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت).
بالطبع كان الرسول الكريم -صلي الله عليه وسلم- يدرك تماماً أنه مدعوم إلهياً وأن الله تعالي لم يضيع رسالة التوحيد وسينتصر لها عاجلاً أو آجلاً، وكان يمكن أن يفضل البقاء بين أهله وعشيرته، مفضلاً تحمل الإيذاء والتضييق اليومي مستنداً إلي ثقة لا حدود لها في الدعم الإلهي. ولكن إرادة الله شاءت أن يهاجر وأن يلبي نداء من آمنوا به ونصروه وقدروه حق قدره، وأن يخطط للبقاء بينهم وتأسيس دولته من هناك، غير مكترث بأولئك الذين كفروا به وجحدوه وأرادوا وأد دعوته وكتم صوته وتآمروا عليه للتخلص منه، رغم كل ما كان يربطهم به من أرحام وأنساب.
وضعت الهجرة النبوية قاعدة أساسية عبر عنها القول الحكيم: (ألم تكن أرضي واسعة) للرد علي كل من يشكو ضيق الحال وصعوبة العيش، وحتي الإحساس بعدم الاكتفاء المادي أو التحقق المهني، وحرض الإسلام المؤمنين به علي السعي في مناكب الأرض سواء لتحقيق كسب مادي، أو تحصيل علم، أو البحث عن فرصة مهنية أفضل وحياة أكرم وأوفر.
أنت إذن لست جاحداً أو خائناً لوطنك إذا ما قررت الرحيل عنه، ولست (طماعاً) كان يمكن أن تأكل خبزاً وجبناً في بيت أمك فغادرت أملاً في السمن والعسل، فالأصل أن تسعي وتطلب الفردوس، والاستثناء أن تغلب قلة الحيلة وترضي بمرارة العيش وبحياة ضيقة مع السلامة والأمن علي حياة أفضل مرهونة بمغامرة محفوفة بالمخاطر أو بغربة أشد مرارة وألماً.
ولكن كما حرضك الإسلام علي الهجرة دعاك في الوقت نفسه إلي الأخذ بالأسباب، ولعلك تدرك ذلك حين نستعرض قصة الرسول الكريم وتري كيف تم الإعداد لها وتنفيذها بخطوات محسوبة سلفاً حتي تمت بنجاح.
هذا هو القول الذي أفهمه وأتبناه وأروج له وأحرضك عليه: لا تأس علي وطن يرفضك ويضيق عليك ويكتم أنفاسك ويحاصر أحلامك ويطارد طموحك ويسجن إبداعك ويستغلك ويمص دمك دون ثمن.. لا تصدق من يقولون: (بلدك بيك أولي) فأحلامك المشروعة هي الأولي من أي شيء وكل شيء، والسعي الجاد لتحقيقها في أي بقعة من أرض الله أوجب من التعلق بأساطير حول وطنية مجانية دون عطاء متبادل، وأبرك من الجلوس علي مقهي لسماع الراديو الرسمي يبث في الناس روحاً لم يعد لها معني ولا ترجمة تقول: (ماتقولش إيه اديتنا مصر وقول هندي إيه لمصر)! عليك أن تفهم أن الأصل في الأشياء أن تعطيك مصر أولاً حتي تصبح مؤهلاً لرد عطائها بما هو أكبر، الأصل أن تمنح ثم تحصل علي الثمن، لا أن تحصل علي ثمن بضاعة لم توفرها أو وفرتها فاسدة ورديئة، الأصل أن تمنحك تعليماً جيداً وتكافؤ فرص حقيقياً في شغل الوظائف، وإنصافاً في توزيعها دون محسوبيات علي من يستحق، إلي جانب مناخ حر يسمح بالإبداع والابتكار والتطوير.
عندها فقط يمكن لمصر أن تنتظر منك شيئاً، أما أن يتقلص عطاؤها إلي الحد الأدني ثم تفتح ذراعيها لتستقبل منك الثمن -الذي لن يخرج وقتها عن مزيد من الصمت والإذعان لوكلائها والمتحدثين باسمها في قصور الحكم- فذلك هو الضياع بعينه.
الأفضل لك أن تغامر بالخروج علي أن تظل أسيراً لوهم اسمه (الأمان)، ففي جميع الأحوال أنت في غير مأمن، سواء كنت في بحر تسير مصارعاً الأمواج المفترسة في اتجاه حلم شديد الصعوبة، أو كنت في حضن أمك تربت بذراعيها عليك في حسرة وتبكي أنت علي صدرها مرارة الدوران حول نقطة الصفر.
إذا كنت من المتشائمين فلابد أن تدرك أنها (خسرانة.. خسرانة) جلوسك في مكانك بخسارة، وخروجك لتطارد أحلامك بخسارة أيضاً، ولكنك لو نظرت إليها بواقعية لتأكدت أنه لا جدوي من الجلوس بينما يمكن أن يكون هناك بصيص أمل في الخروج يستحق المطاردة والسعي.
اخرج إذن في سبيل أحلامك المشروعة واركب البحر ولا تنظر خلفك، فالعدو الحقيقي من ورائك، ولا تستمع إليهم حين يقولون إن خروجك انتحار، هم لا يدركون أن الموت بفعل الحسرة أشد قسوة وألماً من الانتحار، فأصحاب الفتاوي الجاهزة -التي تذهب إلي السلطان دليفري وجاهزة بنار الفرن فور طلبها- لم يجربوا ما أنت فيه، ولم يذق أبناؤهم ما ذقته من حرمان وضياع وموت بطيء.
هاجر تنل إحدي الحسنيين.. إما بلوغ أحلامك، أو الموت علي أبوابها، فإذا بلغتها فبها نعمت.. وإذا فشلت فيكفيك شرف المحاولة والسعي، وقتها سيختلفون في أمرك: هل هو خير أم إثم؟! خطأ أم صواب؟! شهادة أم كفر وانتحار؟!
وساعتها لن يضيرك اختلافهم.. وسيكفيك أنك شهيد أمام نفسك وأمام قلب أمك الثكلي التي تعرف حقيقة ألمك، وتدرك دوافعك، وتعرف أنك ما خرجت إلا (مهاجراً) لتسعي وراء رزق حلال وحياة آدمية وحلم مشروع، وتلك هي الشهادة بعينها.. والله تعالي أعلي وأعلم.