المسؤولية في مراجعة المسلسلات التاريخية

في الثلاثاء ٣٠ - أكتوبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

سبق لكاتب هذه السطور أن قام بمراجعة عدد من المسلسلات التاريخية التليفزيونية قاربت في عددها أصابع اليدين وكان يحكمه في هذه المراجعة اعتباران‏,‏ أن مهمته الأصيلة تقوم علي التحقق من صحة الوقائع التي أتي بها كاتب الدراما‏,‏ هذا من ناحية‏,‏ وأن الجو العام الذي رسمه الكاتب يتسق مع الظرف التاريخي التي جرت الأحداث في ظله‏,‏ من ناحية أخري‏.‏

وكان من أهم ما راجعه من هذه المسلسلات التي لقيت قبولا كبيرا لدي جمهور المشاهدين المصريين والعرب‏,‏ قاسم أمين وهدي شعراوي‏,‏ وكان ذلك مفهوما علي ضوء أن هاتين الشخصيتين وغيرهما‏,‏ كانتا محل قبول إجماعي من جانب هؤلاء‏.‏

غير أن التجربة التي خضناها بالنسبة لمراجعة مسلسل الملك فاروق كانت مختلفة‏,‏ فالمسلسل عالج حياة شخصية خلافية‏,‏ ومن درس تاريخ الرجل يكاد يصل الي نتيجة مفادها أنه كان هناك ملك بهذا الإسم قبل عام‏1946,‏ وآخر مختلف حمل الاسم نفسه بعدئذ‏,‏ وذلك بعد ما حدث في تلك السنة من غياب كابحين من أهم الكوابح التي حدت من حركة الرجل‏,‏ السفير البريطاني في العاصمة المصرية‏(‏ اللورد كيلرن وهو نفسه السير مايلز لامبسون بعد حصوله علي لقب اللوردية‏),‏ والذي خرج من منصبه في ذلك العام‏,‏ وأحمد حسنين باشا رائد الملك ورئيس الديوان خلال السنوات الست السابقة علي وفاته‏,‏ والذي توفي في حادث سيارة بعد فترة قصيرة من رحيل كيلرن‏,‏ وكان هذا الغياب من أهم أسباب الانقلاب في الشخصية التي عالجها المسلسل‏.‏

والقول أن صاحبة التصور الدرامي‏,‏ الدكتورة لميس جابر‏,‏ كانت متعاطفة مع الشخصية التي كتبت عنها أول أعمالها الدرامية‏,‏ قد يكون جائزا علي ضوء ما اعترفت به لبعض أجهزة الإعلام‏,‏ ففي أثناء مراجعة المسلسل‏,‏ كتبت لها ملاحظة جاء فيها بالنص تم الانتهاء من الحلقة‏18‏ ولم يتبق سوي إثنتي عشرة حلقة ولم يعالج المسلسل من تاريخ فاروق بعد أن تولي الملكية‏(1937)‏ سوي أقل من خمس سنوات‏(‏ فبراير‏1942),‏ والذي حكم لمدة‏15‏ سنة‏.‏ أخشي أن تؤدي الإطالة في الفترة الأولي الي عدم إعطاء السنوات المتبقية حقها في المسلسل‏,‏ مما يدعوني الي التنبيه الي ذلك‏,‏ وكانت تلك السنوات الأولي ضمن سني الزهو الملكي‏!‏

وتخصيص كل هذه الحلقات للفترة الأولي من عهد الملك‏,‏ ترك بصمته علي المسلسل‏,‏ علي عكس الحال بعد أن فقد صاحبنا البوصلة وانطلقت سيارة عابدين بدون كوابح‏,‏ الأمر الذي بدا مقصودا‏,‏ وكأن المطلوب إثارة الحنين للعصر الملكي‏,‏ وهو ماحدث بالفعل وأدي إلي عقد المقارنات بينه وبين الفترة الناصرية التي أعقبته‏,‏ وهي مقارنة ظالمة بكل المقاييس‏,‏ ولا أعتقد للحظة واحدة أنها كانت في ذهن المؤلفة أو في ذهن المراجع‏,‏ أما جهة الإنتاج التي زادت الشكوك حولها باعتبارها من دولة‏(‏ ملكية‏)‏ محافظة تسعي الي الترويج للنظام الملكي‏,‏ فهو ما لانستطيع أن ننفيه أو نثبته‏,‏ ولكنا لا نوافق علي الحكم علي الأعمال الفنية بنوايا القائمين عليها‏.‏ بيد أن ذلك لايمنع من الاعتراف أننا بعد الانتهاء من مراجعة النص التاريخي للمسلسل‏,‏ وخشية من أن يتصور البعض أننا نشارك في مباركة عمل عن الملك فاروق من إنسان عاش حياته شابا يهتف بسقوط ملك النساء‏,‏ وعايش في رجولته وكهولته ثورة يوليو بكل انتصاراتها ومكاسبها‏,‏ أنه قد تخلي عن موقفه الثابت من مناصرة الثورة التي يري أنها عبرت بكل شجاعة عن الطبقة الوسطي الصغيرة من أبناء الأفندية التي ينتمي إليها‏.‏

ولعل من بدأوا في رجمنا بالحجارة متهمين إيانا بالانحياز للعهد الملكي لم يطالعوا كفاية ما كتبناه في الصحف والمجلات السيارة خلال الفترة الأخيرة‏,‏ ففي أثناء عرض المسلسل كنت من المحتفين برحيل عبدالناصر بالمقال الرئيسي الذي نشرته جريدة العربي الناصرية الصادرة يوم‏30‏ سبتمبر الماضي‏,‏ وقبيل نهايته نشرت لي مجلة المصور الصادرة في‏19‏ أكتوبر‏,‏ دراسة مباشرة هذه المرة‏,‏ وكانت موضوعا للغلاف‏,‏ تحت عنوان عودة الملكية مستحيلة ـ فاروق آخر ملوك مصر‏.‏

وكما سبق التنويه فحسب فهمنا لمسئولية المراجع التاريخية فهي تتوقف عند التثبت من الوقائع‏,‏ أما ما حدث من الدكتورة لميس جابر في فاروق فإنها صاغت هذا الواقع الدرامي بشكل يناسب رؤيتها التي لانعرف دواعيها‏,‏ ربما لأنها أرادت أن تقدم وجها آخر للملك المخلوع غير الوجه الذي اعتادت أن تقدمه أجهزة الإعلام طوال نصف القرن الماضي‏,‏ وربما تعاطفا منها مع شخصية تاريخية لعبت دورا في حياة هذا الوطن‏,‏ ولكن مانعلمه أن هذا حق صاحب الدراما التاريخية أن يختار من الوقائع ما يناسب رؤيته‏,‏ وليس من حق المراجع التاريخي أن يتدخل في هذا‏(‏ الاختيار‏),‏ وهو ما لم يفهمه بدرجة كفاية المنتقدون‏,‏ الذين عابوا علي المراجع عدم تدخله في تلك الاختيارات‏,‏ ولو أنه قد فعل ذلك لتحولت الدراما الي‏(‏ فيلم تسجيلي‏)‏ عن حياة الملك الراحل‏!‏

صحيح أن هناك صيغة أخري كان يمكن أن تقدم حلا وسطا‏,‏ وهي الصيغة التي استقرت عليها الدول المتقدمة في أعمالها التاريخية‏,‏ سينمائية كانت أو تليفزيونية‏,‏ ألا وهي صيغة المستشار التاريخي والذي يبدأ عمله في أثناء كتابه السيناريو‏,‏ ويدخل عليه من التعديلات ما يتفق عليه مع واضعه‏,‏ وانتهاء بتصوير آخر مشهد من العمل علي أن يكون راضيا عن مجمله‏,‏ غير أنه لسوء الحظ فمثل هذا الحل بعيد جدا عن ذهن العاملين في حقل الدراما المصرية أو العربية لما قد يسببه من ضياع وقت يرون أنهم في حاجة إليه‏,‏ أو ضياع مال هم حريصون علي توفيره‏,‏ وربما لأنهم لايؤمنون كفاية بدور المؤرخين في التدخل في طبيعة الأعمال الدرامية التاريخية‏!‏