الحكربين الاحتكار والاعمار
خفايا التاريخ

في السبت ٣٠ - يونيو - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

د. أحمد صبحى منصور

خفايا التاريخ

الحكر بين الاحتكار والإعمار

1 ـ الاحتكار مذموم ، وكان يطلق علي جمع الطعام واحتكاره واحتباسه حتي وقت الغلاء ، ولذلك ارتبط الاحتكار بالظلم والمنع والتسلط علي الغير . وانتشر مدلول الاحتكار ليشمل الأنواع الأخرى من التجارة في السلع .
أما الحكر فهو مصطلح تاريخى قريب من معني الاحتكار إلا أنه بعيد عن الاتصاف بالذم . فالحكر هو تملك الأرض واحتكارها ومنع الغير من استغلالها لأن صاحبها يقوم باستصلاحها واستغلالها واستزراعها ، وهو بالتالي لا يحتكر المحصول الناتج من الأرض بل يبادر ببيعه والتخلص منه ليفي بحق الأرض والعناية بها ، ومن هنا يبتعد الحكر عن المعني المذموم لاحتكار الطعام والسلع ، لأن من يحكر أرضا تكون في الأغلب مواتا تحتاج الاستصلاح ، ومن حقه شرعا أن يمتلكها لنفسه وأن يرثها أولاده ، فالاستصلاح في حد ذاته يبرر الملكية والحكر .

2 ـ إذن فالحكر في الأرض قرين الاستصلاح والتعمير ، خصوصا وقد ارتبط بإنشاء المساكن والمساجد مع البساتين والزروع ، إلا أنه يختلف عن التعمير المعتاد في أنه لا يتجه إلي الصحراء والأماكن البعيدة ، وإنما يتركز أساسا في أطراف المدن ومناطق الخرابات والأراضي المهجورة داخل المدن أو بين مدينة وأخري ، فتتحول إلي جنات من البساتين والمساكن والعمار .
ولأن من يقوم بإحياء هذه المناطق حريص علي ألا ينازعه فيها أحد بعد أن أنفق فيها ماله وعرقه فإنه يأخذ من الحاكم أو السلطان عقدا بحكر الأرض له ولذريته ، وتظل تلك الأرض حكرا عليه وتحمل اسمه قرونا ، بعد اندثار الذرية .
ولذلك فإن توسع الفسطاط والقاهرة قام علي هذه الاحكار ، فالفسطاط توسعت ، ثم أقيمت عاصمة أخري قريبة منها هي العسكر ، وملئت الفجوات بينهما بالمساكن والبساتين طبقا لنظام الحكر ، أو التعمير ، ثم أضيفت عاصمة أخري هي القطائع وملئت الفوارغ بينها وبين الفسطاط والعسكر بالاحكار وأصبحت جميعها مدينة واحدة هي مصر الفسطاط ، ثم أقيمت القاهرة عاصمة جديدة وقامت الاحكار بالوصل بين القاهرة والعواصم السابقة حتي صارت مدينة واحدة هي مصر القاهرة ..

3 ـ وحكر الزهري هو أقدم حكر في القاهرة وقد أقامه الزهري واسمه عبد الوهاب ابن موسي الذي ينتهي نسبه إلي عبد الرحمن بن عوف الزهري ،كما أن أمه من ذرية عبد الملك بن مروان ، وقد جاء عبد الوهاب الزهري من المدينة إلي مصر وتولي الشرطة في الفسطاط ، وقد أخذ من الوالي تصريحا بحكر أو تحكير منطقة واسعة بجانب الفسطاط ، وقام بتحويل المنطقة إلي بساتين متصلة حملت اسم " جنان الزهري " أو بستان الزهري ، وورثتها ذريته من بعده فأصبحت " حكر الزهري " ومات عبد الوهاب الزهري سنة 210هـ.
ومرت السنون وضعفت ذرية الزهري وضاع نفوذها فتشجع وكيل بيت المال واستولي علي بعض الحكر ، وباع منه وأجر بعضه .. والواقع أن حكر الزهري كان غاية في الاتساع ، حتي أنه حين طال عليه الأمد تحول إلي عدة بساتين وعدة أحكار .

4 ـ وجاء ابن التبان في خلافة الخليفة الفاطمى الآمر بأحكام الله فاستولي علي أغلب أحكار الزهري وأعاد استصلاحها واستثمارها فأصبح معظم حكر الزهري يحمل اسم تبان نسبة لابن التبان ..
وفى العصر المملوكى استولي آخرون في عصور مختلفة علي أجزاء أخري من حكر الزهري فتحولت إلي أحكار مختلفة تحمل أسماء شق الثعبان وبطن البقرة وسويقة القيمري وسويقة صفية وبركة الشقاف وبركة السباعين وقنطرة الخرق وحكر الحلبي والبواشقي وكرجي وميدان المهاري والميدان السلطاني . أي أن التعمير في العصر المملوكي اتخذ من بعض مناطق حكر الزهري ميدانا للقصر السلطاني .

5 ـ والملاحظ أن النفوذ السياسي كان بالغ التأثير في الحصول علي الحكر وفي الاحتفاظ به أو الاستيلاء عليه .. ولم يكن النفوذ السياسي مقصورا علي الرجال بل تمتعت به بعض النساء فحصلن علي أحكار ومنهن الست حدق والست مسكة ..
وحكر الست حدق اندثر بعدها وأصبح يعرف بالمريس ، واحتفظ بعمارته وبساتينه حتي حدث الخراب سنة 806هـ.
وقد عمرته الست حدق وأنشأت به جامعا عرف باسمها ..
وكان إلي جانبه حكر الست مسكة ، وهي الأخرى أنشأت به جامعا .. وكلها ـ كما أسلفنا ـ من جملة حكر الزهري القديم . الذي تقاسمه كثيرون ، وتناوب عليه كثيرون ، إلي أن قامت السيدتان حدق ومسكة بإعادة تعميره ، وتشجع الناس فأعادوا إلي المنطقة البهجة واستوطنوها وأنشأوا بها الحمامات والأسواق ..
وكانت حدق ومسكة من جواري السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون نشأتا في داره وصارتا قهرماتين ( القهرمانة هي المشرفة علي الدار ) وتخصصتا في عمل الأعراس والأفراح والإشراف علي شئون الحريم السلطاني وتربية أولاد السلطان ، وطال عمرهما وأصبح لهما نفوذ كبير استخدمتاه في أعمال الخير وبناء المساجد وتعمير الاحكار المندثرة .

6 ـ لقد أصبح مصطلح الحكر تراثيا قلما نستعمله في حياتنا ، إلا أن معناه في التعمير والتملك قائم ومستمر .. وحتى مساويء استغلال النفوذ في الاستيلاء علي أحكار الآخرين نجدها في حياتنا الاقتصادية ، حيث يستغل بعضهم نفوذه في الاستيلاء علي بعض الأراضي المستصلحة التي تعب الآخرون في إحيائها وتنميتها ، والحكر بمفهوم التعمير والاستصلاح قضية أكثر إلحاحا في ضوء احتياجاتنا الاقتصادية والسكانية والاجتماعية ..
وإذا كان الحكر قديما قد جعل القاهرة تتضخم فقد آن لمفهوم الحكر التعميري أن يساعد في إنشاء مدن ومجتمعات جديدة تخفف العبء عن المدن التي ضاقت بأهلها ، وأن تصدر التشريعات التي تؤيد أحقية من يستصلح الأرض ويستغلها في أن يكون ما استصلحه حكرا له ولأولاده من بعده ..