العرش

في الخميس ٢٦ - سبتمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 

فى التأصيل القرآنى لمصطلح ( العرش ) نناقش مفهوم الكلمة وقضية الاستواء على العرش و معنى قوله جل وعلا (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء  )

أولا : مفهوم كلمة العرش

1 ـ يأتى لفظ العرش بمعنى عرش السلطة المادى للبشر، أى الأريكة أو الكرسى الذى يتربع عليه الحاكم ، مثل قوله جل وعلا عن يوسف عليه السلام :( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) (يوسف 100 )، وقوله جل وعلا عن عرش بلقيس ملكة سبأ : (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ )( النمل 23 )( قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) ( .. فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ )( النمل 38 : 42 ).

2 ـ ويأتى بمعنى عرش الرحمن جل وعلا ، كقوله سبحانه وتعالى : ( فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ )(التوبة 129 )

3 ـ وقد يجتمع المفهومان فى نفس السياق كقوله جل وعلا عن عرش بلقيس : (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) ( وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ )( النمل 23 : 26  ) . هنا وصف لعرش بلقيس البشرى بصيغة النكرة بدون (أل ): (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ )،أما وصف عرش الرحمن فجاء بألف التعريف والتمجيد  : (  اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ).

3 ـ وفى كل الأحوال فإن لكلمة العرش بالنسبة للبشر معنيين : مادى حسى ،أى الكرسى الذى يجلس عليه الحاكم ، كما فى قصة ملكة سبأ ، وقصة يوسف عليه السلام. ثم هناك مفهوم معنوى للعرش البشرى بمعنى التحكم والسيطرة ، فيقال فى التاريخ إن فلانا من الملوك أو السلاطين ( جلس على العرش عام كذا ) أو ( تولى العرش سنة كذا ) أو( إغتصب العرش ). أما استعمال كلمة العرش بالنسبة لله جل وعلا فلا تأتى بالمعنى المادى من الجلوس والتربع ، ولكن بالمعنى المعنوى ،أى السلطان والتحكم . وإذا كان تحكم السلطان الفلانى يشمل البلد الفلانى أى إن عرشه يعنى تحكمه فى ذلك البلد فإن عرش الرحمن يعنى سيطرته على كل العوالم من السماوات والارض وما بينهما وسائر المخلوقات والموجودات والأشياء. 

ثانيا :ملامح قرآنية عن العرش الالهى

1 ـ العرش هو الكرسى : كما أننا نقول عن الحاكم ( جلس على العرش أو جلس على كرسى الحكم ) فالله جل وعلا يستعمل اسلوب اللغة البشرية لكى يفهم الناس المراد بمدركاتهم ، ولذا فإن عرش الرحمن هو ايضا الكرسى ، وكلاهما بمعنى الملكوت . والله جل وعلا يستعمل الكرسى بمعناه البشرى فى قوله تعالى عن ملك النبى سليمان :  (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ) ( ص 34 )، وهو نفس الاستعمال للعرش فيما يخص بلقيس . ويستعمل رب العزة لفظ الكرسى بمعنى ملكوته فيقول :(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)( البقرة 255 ). هذا عن عرش أو كرسى الدنيا ، لأن هذا الملكوت بكل عوالمه سيفنى ليأتى يوم القيامة بملكوت وعالم جديد يشمل الجنة التى سيكون اتساعها مثل السماوات والأرض الحالية : (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ ) ( آل عمران 133 )( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ ) ( الحديد 21 ). والخطاب هنا لمن يستهلك حياته صراعا من أجل الدنيا الزائلة ، مع أن وقته فيها ضئيل وحركته فيها محدودة ، ومهما حصّل ومهما بلغ فى هذه الأرض فلن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا.وحتى لو استطاع فى عمره القصير أن يملك الكوكب الأرضى فماهو حجم الأرض بالنسبة للمجموعة الشمسية ؟ وماهو حجم المجموعة الشمسية بالنسبة لمجرة درب التبانة ؟ وما هو حجم مجرة التبانة بالنسبة للكون المرئى لنا ؟ ثم تأتى السماوات فيما بعد ذلك الكون . والمؤمن الذى يتخيل هذا يعلم قدر ضآلة هذه الدنيا وكونها بالنسبة لجنة عرضها مساحة الكون الحالى الذى نراه لانهائيا . والمؤسف أننا لا نعمل لهذه الجنة ، مع ان العمل لها ممكن ويسير ، ولكن نفضل طريق الضلال والغواية مع أنه خطير وشاق وعسير .!!

2 ـ الله جل وعلا هو صاحب العرش وهو رب العرش:

2/ 1 : فى تنزيه رب العزة وتمجيده يتكرر وصف رب العزة بأنه (رب العرش) الذى لا ملجأ الا اليه:( فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ )(التوبة 129 ) والذى يستحيل وجود اله معه ، والذى يستحق التنزيه عما يصفه به المشركون ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ )( الانبياء 22 : 23 )، وأنه جل وعلا لم يخلقنا عبثا ، لأن مصيرنا الرجوع اليه يوم الحساب ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ )(المؤمنون 115 ـ 116 ). والغريب أن المشركين يؤمنون برب العرش جل وعلا ولكن يقدسون معه آلهة وأولياء ، وقد اتخذ رب العزة من ذلك حجة عليهم فى الحوار معهم: ( قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ )( المؤمنون 86 ـ )

ونفس الحال فى (ذى العرش) بمعنى صاحب العرش ، فى الرد على المشركين وفى تنزيه رب العزة عن مزاعمهم يقول جل وعلا : ( قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا )( الاسراء 42 : 43 )، ( سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ )( الزخرف 82 )ويقول (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ) ( البروج 12 : 16) . ويقول عن جبريل ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ )(التكوير19 : 20 ).

3 :عرش الرحمن فى الدنيا وفى الآخرة

عرش الرحمن يعنى ملكوته جل وعلا وكل ما خلقه رب العزة من مواد وطاقة وذرات وخلايا و أجرام سماوية وعوالم منظورة لنا أو غير منظورة فى البرزخ ،أو السماوات والأرض وما بينهما . كما يعنى العرش أيضا أن له جل وعلا التحكم فى هذا العرش ، فله جل وعلا الخلق والأمر ، ولكنه لكى يختبر البشر فقد أباح وأتاح لهم حرية الفكر والكفر والايمان والطاعة والمعصية إختبارا لهم ، وسيأتى موعد الاختبار بعد تدمير هذا العرش المؤقت لهذه الدنيا ، ويأتى يوم القيامة بعرش آخر للرحمن تنتهى فيه حرية البشر يوم الحساب ، ثم يتمتع الفائزون منهم بحريتهم ونعيمهم فى الجنة بينما يظل الخاسرون أسرى العذاب الخالد فى الجحيم . إذن هناك معنيان لعرش الرحمن : عرش بمعن الخلق والمخلوقات ، وعرش بمعنى الهيمنة والتحكم . وهناك عرشان للرحمن أولهما هذه المخلوقات فى هذه الدنيا، وبعد تدميرها يأتى عرش جديد خالد أزلى يكون فيه الحساب والثواب والعقاب .ونعطى بعض التفاصيل :

3/1 : العرش الالهى فى الدنيا والملائكة

الدنيا لها يوم بالزمن الالهى قدره خمسون الف سنة ، وبعد تدمير السماوات والأرض يأتى  يوم القيامة . عن تدمير هذا الكون (أو هذا العرش )ومجىء كون بديل (أو عرش جديد ) يقول جل وعلا( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)( ابراهيم 48 ).وقوله جل وعلا عن يوم القيامة (وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) يعنى مجىء رب العزة فى يوم القيامة ، أو بالتعبير القرآنى : (كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ ) ( الفجر 21 ـ ). وبالتالى فإن الذى يقوم بتصريف عرش الرحمن الحالى أو هذا الكون الحالى هم الملائكة التى تحمل الأمر الالهى (كن ) ( فيكون ). ومن الأمر الالهى التشريعات التى نزلت بها الرسالات السماوية ، وكان يحملها جبريل وملائكة معه  لينذروا الناس من مجىء يوم القيامة ولقاء الرحمن : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ )(غافر 15 )، ومنه أقدار البشر الحتمية الى لا مفرّ من مواجهتها ، وهى أربع تختص بالميلاد والموت والرزق والمصائب. وموعد نزول الروح جبريل بها هو ليلة القدر فى شهر رمضان من كل عام .والمدة التى يظل فيها هذا العرش الحالى هى دورة زمنية قدرها بالحساب الالهى خمسون ألف سنة ، تتولى فيها الملائكة ومعهم جبريل أو الروح تصريف هذا الكون أو العرش متنقلين بين السموات والآرض،الى أن تنتهى الدورة وتصعد الرحلة فى نهايتها الى رب العزة،ويتم تدمير هذا العالم أو هذا العرش، وعندها يكون عذاب هائل لمن يرى ويشهد هذه اللحظة ، يقول عنه رب العزة : (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ) ( المعارج 1 ـ  ). إذن فالملائكة هم حملة العرش الحالى ، القائمون بنصريفه بحمل أوامر الله جل وعلا . ولهم أيضا وظيفة أخرى فى هذه الدنيا ، منها الاستغفار للمؤمنين :( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ )(غافر 7  ). ولبعضهم وظائف تخصصية ، منهم ملائكة تسجيل الأعمال ، وملائكة الموت .

3/ 2 : العرش الالهى والملائكة فى الآخرة

عرش الرحمن فى الآخرة تكون السلطة المطلقة فيه لله جل وعلا ، إذ تنتهى حرية البشر فى الحركة وفى العمل ، ويتعين عليهم مواجهة نتيجة أعمالهم فى الدنيا ، وبعد الحساب يدخل الخاسرون الى جهنم لا يستطيعون منها فرارا : ( وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) ( الحج19 : 22) . فى هذا اليوم يؤتى بجهنم:(كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) ( الفجر 21 : 23 )، ويكون وقودها أصحابها ، ويتم خلق ملائكة جدد من نوعية مختلفة تناسب التعذيب ، اى غلاظ شداد لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( التحريم 6 ). وهنا يختلف الوضع عن ملائكة عرش الرحمن فى الدنيا الذين سيتعرضون للمساءلة لوجود قدر من الحرية أعطاه الله جل وعلا لهم :( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( الزمر 75 ). كما يتم خلق ملائكة لنعيم أهل الجنة كالولدان المخلدين والحور العين. أى إن عرش الرحمن فى الآخرة يستلزم ملائكة أكثر ووظائف جديدة ليتم فيها التحكم المطلق لرب العزة فى البعث والحشر والعرض والحساب ونعيم الجنة و عذا جهنم . من هنا نفهم قوله جل وعلا :( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ) (الحاقة 13 : 18 ). لا نعرف عدد من يحمل عرش الرحمن الحالى من الملائكة المتصرفين فى هذا الكون ، ولكن هنا نعرف أن من سيقوم بحمل مسئولية عرش الرحمن فى اليوم الآخرسيكونون ثمانية . وتعطى الآيات التالية تفصيلات أكثر عن عرش الرحمن يوم القيامة:(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ) ( الزمر 67 ـ  )

ثالثا :استوى على العرش

اختلف علماء المسلمين فى معنى الاستواء على العرش ، منهم من يراه تعبيرا مجازيا كالمعتزلة ، ومنهم من يراه تعبيرا ماديا كالسنيين الذين تطرف بعضهم فقام بتجسيد الرحمن وتخيلوه ملكا يجلس على الكرسى والعرش. والواقع أن كلا الفريقين كان يدخل على القرآن الكريم برأى مسبق يحاول أن ينتقى له الآيات . مع إنهم لو إتبعوا المنهج العلمى الموضوع وبحثوا فى القرآن وفهموا مصطلحاته والسياق العام والخاص فى آياته لوصلوا الى الحق بكل سهوله . إن الله جل وعلا جعل القرآن يفسر بعضه بعضا ويبين بعضه بعضا ، فتفسير القرآن من داخل القرآن وليس خارجا عنه ، كشرح المصطلحات البسيطة مثل (الحاقة) و(القارعة )،    أو فى مصطلحات مركبة مثل ( الاستواء على العرش ) والذى تترى فيه الآيات تشرح وتؤكد انه يعنى التحكم والسيطرة والهيمنة .ولنقرا الآيات الكريمة التالية :

1 ـ يقول جل وعلا :( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا )( الفرقان 59 ). أى لا نستطيع أن نعرف عن رب العزة واستوائه على العرش إلا من خلال كتابه الكريم ، فهو جل وعلا الخبير بذاته وبخلقه أيضا .

2 ـ ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ )( السجدة  4 :  5 ). ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) ( يونس 3 ). الاستواء عل العرش هنا يعنى أنه وحده المهيمن لذا فليس لنا غيره من ولىّ ولا نصير. ثم إنه يدير عن طريق الملائكة أمور هذا العرش ما بين السماء والأرض فى زمن يختلف عن زمننا يكون فيه اليوم بألف سنة من زمننا .

3 ـ ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (الاعراف 54 ) (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ )( الرعد 2). الاستواء على العرش هنا يعنى تحكمه جل وعلا فى حركة الأجرام السماوية وأنه له الخلق وله أيضا الأمر ، فهو وحده الخالق للكون وهو وحده صاحب الأمر فيه.

4 ـ ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )( الحديد  4  : 6 ).الاستواء على العرش هنا يركّز على علمه التام بكل ما يحدث فى عرشه وملكوته بحيث يكون حاضرا وشهيدا علينا أينما كنا ، واليه مرجع الأمور، وهو عليم بذات الصدور ، فهو الذى يعلم السّر وأخفى من السّر ، كما جاء فى قوله جل وعلا : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى )( طه 5 ـ )

رابعا :الماء وعرش الرحمن

1 ـ يقول جل وعلا :(وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ) (هود 7 ).قلنا إن عرش الرحمن الحالى هو السماوات والأرض وما بينهما. وسبق رب العزة فى كتابه الكريم الى الاشارة الى الانفجار الهائل الذى أنتج هذا الكون من نقطة للبداية مكدسة فيها المادة والطاقة فانفجرت وواصلت انفجارها ممتدة فى اتجاهين منفصلين لينشأ كونان نقيضان كل منهما يسبح فى قوس ، وفى وقت محدد سيلتقى الكونان فيحدث انفجار هائل يتم فيه تدميرهما والوصول الى نقطة الصفر الأولى ، وينتهى هذا العرش وتقوم القيامة بعرش جديد أزلى خالد يصلح لتجلى رب العزة . ونفهم هذا من الآيات الكريمة التالية :

1/ 1 : عن الانفجار الكونى يقول جل وعلا:(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)( الأنبياء 30)وعن تمدد الكون وتوسعه:(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)   وعن انقسامه الى نقيضين (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) ( الذاريات 47 ، 49)، وعن الانفجار القادم وتدمير العالم بالتقاء طرفيه والعودة الى نقطة الصفر وقيام الساعة يقول جل وعلا :(يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ  ) ( الأنبياء 104 ). الجديد هنا أن الله جل وعلا لا يتحدث فقط عن كوننا المادى وحده بل عن السماوات والأرض وما بينهما .

2 ـ ويتضمن خلق العوالم المادية من السماوات والأرض خلق احياء ، منها ما نراه ومنها ما يرانا ولا نراه ، وكل هذه الأحياء من إنس وجنّ وملائكة ومختلف الدواب مخلوقة من ماء ، وهوما جاء فى الآية التى تتكلم عن الانفجار العظيم : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ) ( الأنبياء 30)، ويؤكد ربنا جل وعلا هذه الحقيقة فى قوله :(وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء ) ( النور 45 ) .

نحن نعرف صورة واحدة من الماء بأحواله الثلاثة سائل وبخار وثلج . وفى العوالم الأخرى توجد أنواع من الماء ، منها ماء نارى يدخل فى خلق الجان يختلف عن الماء العادى المخلوق منه الانسان : (خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ  ) ( الرحمن 14 : 15 ) (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ   ) ( الحجر 27 ). وهناك ماء مخلوقة منه الملائكة . وهناك ماء فى الآخرة على نوعين ، نوع يتمتع به أهل الجنة ونوع من الحميم يتعذب به أهل النار :(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) ( محمد 15 )،  . ويقول العلماء إن الكون مادته الأولى هى عنصر الايدروجين ، وهو عنصر أساس فى الماء بجانب الاوكسجين . والمفهوم أن الله جل وعلا حين يقول:( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء )  أى إن الماء هو أصل الحياة ، ما نعرفه منها وما لانعرفه . وطالما أن العرش هو هذه المخلوقات فإن الماء هو أصل العرش.