عندما كان سوق القزازين ببغداد رمز التآخي بين اليهود والمسلمين

في الجمعة ١٥ - يوليو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً


 

عندما كان سوق القزازين ببغداد رمز التآخي بين اليهود والمسلمين

إبن بغداد  د. نسيم قزاز
 
"يا حادي العيس عرّج كي أودعهم    يا حادي العيس في ترحالك الأجل"
سوق القزازين كان من اقدم الأسواق في بغداد تباع فيه انواع منتجات الحرير. والقزاز هو بائع القز أو خيوط الأبريسم التي تستعمل لمختلف الأغراض، كنسج عباءات سود للنساء من الصوف والحرير وعباءات بألوان مختلفة للرجال وكذلك لنسج الفوط (مفردها فوطة) وهي قطعة منسوجة من خيوط الأبريسم تصبغ بعد نسجها باللون الأسود على الغالب ترتديها االنساء العراقيات المسلمات لتغطية الرأس وستر الصدر والعنقكان سوق القزازين، كما عهدته قي الأربعينات من القرن المنصرم، من الأسواق التي مازالت عامرة في بغداد وأرجو أن تكون اليوم كذلك. موقعها كان امتداداً لسوق الحرير وسوق البزازين، ولم يتعدَّ طولها ال-100 متر، مسقَّفة بأقواس من العقائد (مفردها عقادة أو عڴادة) في وسط كل منها فتحة (سماية) تدخل منها أشعة الشمس وتضيء السوق.
القزّ هو الحرير،وتستخرج خيوطه (خيوط الأبريسم) من دود القزّ المُربات على أشجار التوت التي تتغذى من أوراقها بعد أن يكون اللعاب ألذي أفرزته قد جف وتشرنق.
قديماً كان الحرير وخيوط الأبريسم يأتي إلى العراقً من الصين محمولة علي الأبل والدواب في طريق الحرير ألأسطوري. أم اليوم فتسورد بالات الأبريسم بالجملة عبر اليم الى البصرة من الصين ومن بلاد شرق وجنوب آسيا ثم تباع على القزازين الذين كانوا يمرّروها بعدة مراحل بما في ذلك سلقها وصبغها وفتلها عند أصحاب مهن تخصص كل منهم في مهنته لتصنيعها لمختلف الحاجيات والأغراض، منها:نسج فوط النساء وعباءت الرجال بألوانها أو فتلها لصنع القياطين وتطريز "الچراغد"، و"الچَرغَدْ" هوغطاء نسائي للرأس أسود اللون ينتهي بشراشب من خيوط الأبريسموأحياناً من خيوط "الفنطازي"، تسترسل على جبين المرأة وتزيدها حسناً وجمالاً. وهنا لا بد أن أتوقف على اغنية عراقية شعبية يقول فيها حبيب يخاطب عشيقته صاحبة الچرغد:
يا حليوة يا ام دگات
يا ام چَرغَدْ المايل
غيرچ ما نا حبيت 
والله ما نا عايـل 
و"الفنطازي" غير الأبريسم، فهو خيوط مصنوعة من الأعشاب تتفسخ في الماء عند غسيلها وكانت "رصّاتها"، كما كانت تسمى رُزَمِها، تستورد من إيطاليا ثم تصبغ باللون الأسود فتفتل وتصبح جاهزة وسعرها أرخص من سعر الأبريسم. وكان كل من الأبريسم والفنطازي والخيوط الذهبية والفضية (الكلبدون الأصفر أو الأبيض) يباع بالمثقال الذي يعادل وزنه 4.680 غرام أوما يساوي وزن 65 حبة شعير. وعلى ما أتذكر كان سعر مثقال الفنطازي المفتول في الأربيعينات من القرن المنصرم فلسين بينما كان سعر الأبريسم ضعف ذلك. واعتاد القزّازون من كافة مدن العراق المجيء الى بغداد لشراء مختلف أنواع ومصنوعات الأبريسم والكلبدون بالجملة وحينها يكون البيع ﺑ"الچكي" (مصطلح فارسي) وهومعيار يساوي 100 مثقال.
وكان عدد الدكاكين التي مارس أصحابها مهنة القزازة في سوق القزّازين لا يتجاوز إثني عشرة دكاناً نصفها تعود لليهود والنصف الآخرللمسلمين المنتمين للشيعة الجعفرية، أتذكر منهم الحاج حسن وابنه صادق والحاج علي وابنه محمد وجعفر وابنه جلال وهادي وكاظم وكلهم ينتمون إالى أسرة واحدة موسعة (حمولة). وكان لكل قزّاز حجرة في خان مجاور يخزن فيها فائض بضاعات الأبريسم لتُجلب بعد ذلك الى الدكاكين للبيع عند الحاجة. وتعرف هذه السوق عند عامة الناس ﺒ
"سوق القزازين"، أما رسمياً فاسمها"سوق الخرج" نسبة الى القياطين المصنوعة من خيوط الأبريسم أو الكلبدون التي كانت تباع فيها ثم تخاط في صدر عباءات الرجال. وكان على جدار السوق في أولها لوحة قديمة، لعلها من العهد العثماني، مكتوب عليها "سوق الخرج".
لقد كانت العلاقات بين مختلف الطبقات في سوق القزازين متسمة بالتسامح والأحترام المتبادل سواء أكان ذلك بين القزازين أنفسهم أومع أصحاب المهن كالفتالين والصباغين و"الأچيّات" أي العاملات (مفردها إچّـيّـة). فكان هناك فتالان يهوديان وصباغ يدعى سيد نايل كانت له مصبغة في سوق الدهَّانة وكان بارعاً في صبغ الأبريسم بألوان مطابقة تماماً لألون عباءات الرجال، بينما كان صباغ اللون الأسود يهودياً. وكذلك "الأچيّات" كن من الطبقة الفقيرة خليطاً من يهوديات ومسلمات من سكان الكاظمية و"عگد الأكراد".
كان سكان بغداد المسلمون في تلك الأيام وخاصة قبل استفحال قضية فلسطين وتغلغل الدعاية النازية في أوساط واسعة من السكان يكنّون كل الأحترام للجالية اليهودية ولمقدساتها، وكان اليهودي يلقب تحبيباً ﺒ"أبن السبت" او "أبو داوود" وكثيراً ما كنت أسمع النساء المسلمات اللواتي يريدن شراء أبريسم يوجهن سؤالهن لوالدي وينادونه"ابن السبت،عندك أبريسم مال فوًط؟". وكانت هناك أُغنية شعبية يعزّزمضمونها ما أقول، جاء فيها:
لَروحْ لابنْ السَبِتْ واقرا بِقرعانَه 
واجيبْ شدّةْ وَرٍدْ وازرعْ إبستانَه
واشما لٍفها بالحِضِنْ وتگولْ بَرْدانَه
ومنين جاكِ البرٍدْ عيني يا لِبْنَيَّه
ويُلاحظ في البيت الأول من هذه الأغنية الشعبية أن الألف تحولت إلى عين فجاءت "بقرعانه" بينما كان يجب أن تكون "بقرآنه"، وهذا التحول من ألف إلى عين والعكس يطرأ أحياناً على بعض المفردات في اللغة العامية العراقية بتأثير لهجة قبيلة تميم التي كانت تقلب الالف الى عين.
ومع مزيد الأسف لم يكتب الدوام وطول الحياة لأغان من هذا النوع وانمحت من الذاكرة مع تصاعد التطرف والعداء. ومع هذا وفي أشد الظروف وأحلك الفترات عندما تلبدت الأجواء وتفاقمت الأوضاع بقيت روح التعايش والتآخي سائدة في سوق القزاين بين مختلف أصحابه وروّاده. وأليك عزيزي القارئ عدة أمثلة لبيان نوعية ومدى ذلك التعايش والتسامح:
- كان بعض القزازين يعلق في مقدم حانوته لوحة كتب عليها "الدين ممنوع والعتب مرفوع والرزق على الله".ولكن والدي لم يتبع هذا النهج وكان بعض الزبونات المسلمات يشترين منه بضاعة الأبريسم بالدَين ولم يكن والدي يسجل ذلك ويكتفي بكلمتين لا أكثر موّجهتين لضمير المشترية كفيلتين بالتسديد ويقول: "ترى بذمتچ!". وبعد ما قتل الوالد في مذبحة الفرهود عام 1941 حلَّ محله في الدكان أخي ابراهيم ونعيم أخو المرحوم مئير خليف شريك أبي الذي قُتل هو الأخر في تلك الفاجعة الأليمة. وكان الأثنان حديثي العهد في التجارة والبيع والشراء حيث لم يتجاوز سن ابراهيم ال-19 ونعيم كان في أوائل ال-20 من العمر ولم يكن لهما معرفة بتلك الديون ولا بالمستدينات اللواتي أسرعن في رد ما عليهن وهنَّ يعرفن أن أصحاب الدكان الجُدُد لا يعرفون شيئاً عن تللك الديون، وأحياناً كنت اسمع البعض منهن يتمتن بصوت خافت عند دفعها"إحنه ما نبوگ من اليهودي".
- كان الفتالان في سوق القزّازين يهوديين، أحدهما روبين وكان من سكان محلّة أبو سيفين المجاورة لمحلّة أبو شبل الأسلاميّة الواقعة في اقصى الشرق من بغداد ومن باقي الأحياء اليهوديّة ومتاخمة ﻟ"راس الچول". وكان سكان كلتي المحلّتين من الطبقة الفقيرة عُرفوا بخشونتهم وعدم تورعهم. وكان روبين خفيف الدم، ماهراً في مهنته، أحبه القزازون وحاولوا الحفاظ على علاقات طيّبة معه. كان يأتي إلى السوق حافي القدمين وعلى رأسه طاقيّة (عرقچين) وعلى كتفه كوفيّة (يشماغ) مرتدياً في الصيف دشداشة دون ملابس أخرى لا من فوقها ولا من تحتها (بطرگ الدشداشة). وكان أصحاب الدكاكين يتناولون الغذاء داخل دكاكينهم حيث يؤتى به من البيوت محمولاً ﺑالسفرطاسوكنت كثيراً ما أقوم بهذه المهمّة. وأول سؤال من روبين كان "أكو شين بالسفرطاس؟" ثم يجلس ليفرغ ما تبقى فيه. ولكنه لم يكن يكتفي بذلك ويبدأ يحوم في السوق بحثاً وراء ما تبقى من فضلات دون أن يتورع من سؤال بعض القزازين الشيعة أو يراعي مشاعرهم ويخص منهم هادي القزاز الذي كان أكثر ليبيرالياً من الأخرين وكان يسمح له بإشباع بطنه ولكن بالخفاءً. لذا كان يومئ إاليه أن إذهب إلى الحجرة في الخان وانتظرني هناك وسآتيك ﺑ"السفرطاس". وكان الكثير من أصحاب المطاعم يعلقون لوحات كُتب عليها "خاص للمسلمين" احترازاً من دخول اليهود اليها وذلك لأن تعاليم الشيعة تمنع من مشاركة اليهود في الطعام والشراب. وفي هذا الصدد يقول الأديب والشاعر أنور شاؤول،وهو من أعلام يهود العراق في العراق الحديث ومن مواليد الحلّة، في كتابه قصة حياتي في وادي الرافدين: "فعلى شاطئ الفرات الذي يخترق الحلّة الفيحاء تنبث بعض المقاهي البدائيّة، كلُّ ما فيها مقاعد من القصب وأرائك من الخشب البالي يجتمع فيها الناس لارتشاف القهوة وتدخين السكاير والنراكيل وقضاء فترة من السمر تمتد أحياناً إلى ساعات متأخرة من المساء. ولم يكن ممنوعاً أو عسيراً على اليهودي الحلّي أن يرتاد مثل هذه المقاهي، انما كان عليه، مراعاة لمشاعر إخوانه المسلمين، أن يجلب معه فنجانه الخاص تصب فيه القهوة، إن كان من محتسيها، فيشربها ويعيد الفنجان إلى جيبه. وهذه العادة كانت متبعة كذلك في مجالس الفاتحة ومراسيم عقود الزواج". وكان هذا النهج سائدا عند المحافظين من شيعة بغداد نحو أصدقائهم ومعارفهم وكثيراً ما كنت في أيام الصيف أذهب بإناء إلى مقهى قريب من سوق القزازين لجلب الماء فكان صاحب المقهى يمنعني من غمس إنائي في الزير أو "الحب" كما كان يسمى عند البغداديين ويبادر الى غًرْفٍ الماء من الزير ﺑ"الدولكة" التي تعود إلى المقهى وهو إناء من النحاس كبير نسبياً يستخدم لصب الماء في أكواب الشرب التي كانت تسمى آنذاك "ڴلاصات" ثم يفرغه في إنائي دون أن يمس إناؤه إنائي.
- وإن أنس فلا أنسى موقف القزازين الشيعة النبيل مٍنَّا يعد مقتل الوالد وشريكه في مذبحة الفرهود عندما وضع "القيٍّم على أموال الغائبين" يده على محتويات الدكان والحجرة من إبريسم وكلبدون وكل شيئ آخر وجد فيهما ومهرهما بالشمع الى حين بيعها بالمزاد العلني. واتُخذت هذه الأجراءات لأن ورثة المرحوم مئير خليف شريك الوالد كانوا قُصَّر وكذلك خمسة من ورثة والدي، وأنا من بينهم، كنا قاصرين لم نبلغ سن الرشد وتحتم بيع الأرث وإعطاء البالغين حصتهم منه وأتٍمان وصي من أفراد العائلة تودع عنده حصص القاصرين حتى بلوغهم سن الرشد. وكلُّ هذه الأجرءات كانت تجريها "دائرة القيٍّم على أموال الغائبين" التي بادرت بالأعلان على المزاد العلني وأشرفت على تنفيذه. وذاع خبر المزاد العلني عند القزازين في جميع أنحاء العراق وتوافدوا الى بغداد في اليوم المعيَّن أملاً لنيل حصة من الغنيمة وشراء البضاعة بأبخس الأسعار تقل عن نصف سعرها. ولكن سرعان ما انهارت تلك الأحلام عندما انبرى لهم القزازون الشيعة النبلاء زملاء الوالد في سوق القزازين وكل منهم يحمل خنجراً أو هراوة أو توثية أوچماغأً يهدد فيه كل من تسول له نفسه الأقدام على الشراء في المزاد، معلنين"هذا مال حلال ويجب أن يعود إلى أهله". ثم ابتاعوا المال من المزاد بأرخص الأسعار وأعادوه الينا كما سددنا لهم المبلغ الذي بذلوه لشرائه في المزاد العلني. نعم، ان نصرتهم لنا في أصعب مراحل العمر وفي محنة اليتم التي عانينا منها والتي ما زلت أتذكرها وارويها ما هي إلا شهادة نبل وشهامة ومرؤة قل نظيرها في تلك الايام العصيبة، أسجٍّلها لذكراهم هنا مع خالص الشكر والأمتنان رحمهم الله ورحم موتاهم.

 لقد مضت تلك الأيام من دون رجعة ولم يبق في العراق من يجدد ذاك العهد وتلك الأخلاق النبيلة، بعد ان صار الاخ يقتل أخاه، حين خانت حكومات العراق يهودها وتخلّت عنهمَ وجمدت اموالهم ثم فرهدتها مرة اخرى، واليوم يبكي العراق على يهوده بعد ان "ضيع في الصيف اللبن"، أقول هذا والذكريات تجيش في قلبي وتعصف في خاطري وتزيدني حزناً وألماً. واليوم اتساءل يا اخي يا عراقي: "وهل لك بالحرّ الذي يحفظ اليدا؟"
"إني على العهد لم انكث مودتهم  يا ليت شعري لطول العهد ما فعلوا"
إبن بغداد  د. نسيم قزاز