تشريع حرية الرأي في نصوص القرآن
ßÊÇÈ حرية الرأى بين الاسلام والمسلمين
القسم الأول :

في السبت ٢٠ - أبريل - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

تشريع حرية الرأي في نصوص القرآن

( 1 )

يقرر القرآن أن الله تعالى لو شاء لجعل الناس جميعا أمة واحدة ، أي خلقهم بلا اختيار فيهم ، يولدون مهتدين ، كالآلات المبرمجة على الطاعة المطلقة ، ولكن الله تعالى شاء أن يجعلهم أحرارا مختلفي الرأي ، منهم المؤمن ومنهم الكافر، منهم المهتدى ومنهم الضال ، وكل منهم حسب اختياره وحسب مشيئته .

يقول تعالى للنبى محمد حين كان يحزن لعناد قومه المشركين :"وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ : 6 /5 " ويقول "قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ 6/ 149 " . أي أن مشيئة تعالى لم تتدخل لحمل الناس على الإيمان ، ولو شاء لكان الناس جميعا مؤمنين إذ لا يقف أمام مشيئته أحد .والدليل على عدم تدخلها هو اختلاف الناس وحريتهم في الإيمان والكفر ، وسيظلون مختلفين لأنها مشيئته تعالى التي لا يعوقها شيء، يقول تعالى "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ : 11/118: 119 " . وكل ما هنالك أنه أمام البشر خيارات مختلفة، والله تعالى ينزل الكتاب ويبعث الأنبياء لتوضيح الحق من الباطل ، والعدل من الجور ، ويترك للبشر حرية الاختيار بين هذا وذاك ، يقول تعالى "وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ 16/9 " .

والبشر إذا اختاروا طريق الغواية يحاولون أن يجدوا لها سندا دينيا بتحريف الحق الذي جاء في الكتب السماوية ، وبذلك تولد الأديان الأرضية على أنقاض الدين السماوى. ولا تتدخل مشيئة الله في ذلك الافتراء عليه ، بل يسمح بوجوده ليكون المجال مفتوحا أمام الناس للبحث عن الدين السماوى الحق والأديان الأرضية الباطلة، أو الاختيار بين الصحيح والزائف ، يقول تعالى عن الأحاديث الضالة التي تزيف الدين "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ: 6 / 112 . إذن لو شاء الله ما حدث هذا .. ولكنه تعالى شاء أن يعطيهم الحرية في الكذب عليه وعلى رسوله وقال للنبي ( ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ) .

والله تعالى يهددهم بالعقاب يوم القيامة وانه يعلم بمؤامراتهم في التلاعب بالآيات ، ومع أنه يقرر لهم حريتهم في ذلك إلا انه يحملهم المسئولية عليها يوم القيامة، يقول تعالى .( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير )ٌ41/ 40 ). قال لهم اعملوا ما شئتم . والخطاب كما يتضح موجه لأولئك الذين يتلاعبون بدين الله ... أي للكهنوت الذي يرتزق ويعيش على أكاذيب ينسبها لله تعالى ورسوله.

والمهم أن لهم المشيئة التي كفلها الله لهم في حربهم لله . وعليهم وزرها يوم القيامة . والدليل العملي واضح وهو أنهم يمارسون عملهم حتى الآن ، فالأديان الأرضية هى التى تسيطر على معظم العالم ، ويتبعها أغلبية المتدينين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا.وهم بمؤسساتهم الكهنوتية يتلاعبون بحياة البشر الدينية والاجتماعية والعقلية ، بل و السياسية أحيانا.

(2 )

والله تعالى حين يدعو للحق ويذكر الناس به فإنه يقرر حريتهم في الاختيار ويسميها (مشيئة ) أيضا،أي يعلى من قدر هذه الحرية ، يقول تعالى في سورتين في القرآن (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا : 73/ 19، 76/ 29 . أي فالهداية أمام الجميع ومن شاء فليهتد ومن شاء فليكفر . وفى النهاية فكل نفس تهتدي لنفسها أوتضل على نفسها (نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ . لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ : 74/36: 38) .ويتكرر نفس المعنى في الإحتكام إلى مشيئة البشر وحريتهم المطلقة في الإيمان أو الكفر، ومن هذه الآيات "كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ: 74/ 54: 55" ، " ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا " 78-39 " إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ : 81/ 28 ". "كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ : 80/11-12" . هل بعد هذا تأكيد على حرية البشر في الإيمان وحريتهم في الكفر ؟ .وحرية الإعتقاد في الله هي قمة حرية الرأي في الإسلام . وإذا كان للإنسان في نصوص القرآن الحرية في ( أن يكفر بالله ) ، فإن له بالتالي الحرية في أن يكفر بالحاكم أو بأي سلطة دينية أو مدنية .

(3 )

ومن هنا ينبع المبدأ الإسلامي (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ: 2/ 256 ) وقد نزل في سورة مدنية حين كانت للإسلام دولة قوية ، ولكن هذا المبدأ نزل في مكة من قبل وحين أخذت النبي عليه السلام نوبة حماس فكان يبالغ في الإلحاح على الناس كي يؤمنوا فقال له تعالى يذكره بمشيئة الرحمن (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ: 10/99 " .

وأمره الله تعالى بالإعراض عن الذي يتمسك بعقيدته المشركة ، لأن الله تعالى بعثه مجرد نذير يبلغ الرسالة وليس عليهم بمسيطر "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ : 88/ 21: 26 "

وتكرر هذا المعنى في قوله تعالى " اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ : 6/ 106: 107 " وقوله تعالى "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ : 2/119 ". فليس النبى مسئولا عمن اختار الكفر ، وليس وكيلا عن الله متحكما فى الناس ، بل هى مشيئة الناس ، إذا شاءوا الضلال شاء الله لهم الضلال ـ وإذا شاءوا الهداية شاء الله لهم الهداية ، وهم فى نهاية الأمر مسئولون عن إختيارهم.

ونزل القرآن بأقاويل محددة أمر النبي بأن يقولها، وفيها التقرير الكامل لحرية الرأي والعقيدة ، فكما أن للنبي حقه في أن يخلص دينه لله وحده فعليه أن يحترم حق خصومه في أن يعبدوا غير الله ، أمره الله تعالى أن يقول هذا: "قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ :39/14: 15 ". أي جعل الله تعالى لهم مشيئة ، وأوجب على النبى أن يسلّم بها. ونزلت سورة كاملة تقول "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ .." وفى آخرها " لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ " .

ويأمره الله تعالى بأن يعلن أنه يقول الحق من الله ثم لهم المشيئة الكاملة في الإيمان أو في الكفر وعليهم تحمل المسئولية إذا كفروا فالعذاب ينتظرهم يوم القيامة : " وَقُلِ :الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا : 18/21 ".

ويقول لهم عن القرآن " قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا :17/107 " . أي لكم الحرية في أن تؤمنوا بالقرآن أو لا تؤمنوا به.

الحوار دليل حرية الإرادة .

لو تخيلنا حاكما صاحب فضل على شعبه ، ولكن ثار شعبه عليه ، ولم يلجأ الحاكم صاحب الفضل إلى القوة واتبع بدلها طريق الحوار والإقناع بأن منهجه في الحكم هو العدل وهو الأمثل ، وفى نفس الوقت لم يجبرهم على طاعته وترك لهم الحرية ، لو تخيلنا وجود هذا الصنف من الحكام بين البشر لوجدنا أنفسنا في خيالات وأحلام.. ولكن إذا قرأنا القرآن الكريم وجدنا أن الله تعالى . وهو الخالق الرازق ، لم يشأ أن يجبر البشر على الإيمان به وبكتبه ورسله ، ولأنه فطرهم على حرية الإرادة فقد أجرى معهم حوارا كي يؤمنوا عن رغبة واقتناع ، لا عن إكراه وإجبار .

وفى الوقت الذي ترفض فيه المؤسسات الكهنوتية إجراء حوار وتكتفي بإصدار قرارات التكفير والردة والحرمان ضد من يخالفونها في الرأي ، ترى رب العزة وهو قيوم السماوات والأرض يجرى حوارا مع عبيده أبناء آدم ليقنعهم بأنه الله الواحد ألذي لا شريك له .ويطول بنا الأمر لو استعرضنا أسلوب الحوار في القرآن ونكتفي بالإشارة إلى لمحات سريعة :

1ـ فالله تعالى يحتكم إلى العقل الإنساني في إثبات زيف الادعاءات الضالة ، ويتردد في القرآن قوله تعالى" أفلا تعقلون ؟ .. أفلا تبصرون ؟ . أنى تؤفكون ؟".وأن يحتكم رب العزة للعقل البشرى فيه التكريم لهذا العقل الذي هو متبع حرية الإرادة . هذا في الوقت الذي تطالب فيه المؤسسات الكهنوتية بتعطيل العقل . وحجب التفكير ، ومصادرة حق المناقشة لعقائدها وأفكارها

2ـ والله تعالى ينزل في القرآن أدلة عقلية على أنه لا إله إلا الله ، كأن يقول تعالى " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" أي لو كان مع الله آلهة أخرى لاختل نظام الكون. ووحدة الخلق في الكون من جماد وحيوان تقطع بأن الخالق واحد ليس معه شريك ، ولو كان معه شريك لحاول أن ينازع الله تعالى في ملكه،ولأن ذلك لم يحدث إذن فليس هناك شريك مع الله ،يقول تعالى: " قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.. 17/42 :43".ولو كانت هناك آلهة متعددة ، ولكل منهم مخلوقات لحدث بينهم تنافس وشقاق اختلف معه مصير الكون أو كما يقول رب العزة:" مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ" 23/ 91 "

أدلة عقلية يستشهد بها الخالق جل وعلا على أنه الإله الذي لا إله معه، ليرد بهذه الأدلة على آراء بعض مخلوقاته من البشر الذين يعتقدون بوجود آلهة أخرى مع الله .. ولولا أن الله تعالى قرر لهم حرية التفكير وحرية الاعتقاد والرأي ما سمح لهم بأن يعتقدوا تلك الاعتقادات التي تسئ إلى جلال الله ، ولولا أن الله تعالى ضمن لهم هذه الحرية في دينه ما أجرى معهم هذا الحوار وما احتكم إلى عقولهم في إثبات فساد تلك العقائد .

3ـ والله تعالى لم يستنكف أيضا أن ينزل بالحوار إلى مستوى عقلية البشر كي يفهموا ويعقلوا وتقوم عليهم الحجة ، فمثلا كانت لبعض أهل الكتاب تصورات عن إبراهيم ،وأنزل الله تعالى الرد عليها فقال " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ 30/ 65 : 66 ".

وفى رأيي أن ذلك أعظم تقدير لحرية البشر ، أن ينزل الخالق جلا وعلا قرآنا يرد به على آراء لبعض مخلوقاته ليقنعهم في الوقت الذي يستطيع فيه أن يدمر الأرض والسماوات،ولكن بعض المخلوقات أعطت لنفسها امتيازات تتفوق بها على الله جل وعلا ،ولذلك فهم يستنكفون من الرد على خصومهم في الرأي ويكتفون بإعلان كفرهم واستحلال دمائهم . والمقارنة هنا فظيعة : الله تعالى يرد على دعاوى بعض خلقه بالأدلة العقلية ، والكهنوت يستكبر النقاش مع بشر مثلهم مخلوق من تراب .

4 ـ والله تعالى لم يستنكف أن يسجل آراء خصومه مع أن آراءهم لا تستحق أن تكون آراءا ، إنما هي سباب وتطاول وسوء أدب، فاليهود قالوا يد الله مغلولة (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء."5/ 64) وقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء (لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ 3/181) وفرعون قال إنه لا يعلم إلها للمصريين غير فرعون وأنه ربهم الأعلى (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ." 28/38،"..،" فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى." 79/ ـ 24).

كان من الممكن أن يصادر الله سبحانه وتعالى هذه الأقوال فلا نعلم عنها شيئا،. وبعضها قيل في عصور سحيقة قبل نزول القرآن ، ولولا القرآن ما علمنا عنها شيئا . ومصادرة الكتب والمؤلفات هي الهواية المفضلة للكهنوت الديني والسياسي . وكم شهد العالم في العصور الوسطى ـ وفى عالمنا الثالث الذي لا يزال في العصور الوسطى ـ مذابح للكتب والمؤلفات والمؤلفين ، ولكن الله العزيز الحكيم سجل كل آراء خصومه حتى ما كان منها تطاولا على ذاته المقدسة ، فأصبحت من آيات القرآن التي نقرؤها ونتعبد بتلاوتها ، وطبيعي أن الله تعالى رد عليها بما يناسب المقام ، وذكر أنه تعالى خلق الإنسان من نطفة حقيرة فأصبح الإنسان خصما لربه : "خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ : 16/4 " ." أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ : 37/77 " . ولكن الله تعالى اتاح لهذا الخصم ـ المخلوق من نطفة مهينة مستقذرة ـ أن يقول ما يشاء ، ثم يسجل عليه أقواله ويرد عليها ولا يصادرها.

ويأتي القرآن بذلك لنقرأه ونتعرف على منهج القرآن في تقرير حرية الإنسان ومسئوليته أمام ربه يوم القيامة عما نطق به لسانه وما اقترفت جوارحه.

ولنقرأ قوله تعالى "(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء."5/ 64) (لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ 3/181) (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ." 28/38،"..،" فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى." 79/ ـ 24).وهناك عشرات الآيات في نفس الموضوع . بعد هذا البيان القرآني لابد أن نتساءل .. هل مصادرة الكتب والآراء مما يتفق مع منهج الإسلام ؟!!

آداب الحوار في القرآن

1ـ وفى ظلام القرون الوسطى نزلت آيات القرآن الكريم بأسمى آداب للحوار مع الخصوم في الرأي ، وحين نتدبر هذه الآيات وننظر إلى حالنا نتحسر على ما آل إليه بعضنا ممن يرفع لواء الإسلام ولا يرى فيه إلا فرض الرأي ومصادرة حق الآخرين في الإعلان عن رأيهم والتطاول عليهم وإيذائهم بالقول والفعل واستحلال دمائهم ، ويعتقد أن ذلك هو الجهاد .. ولو تدبر أولئك القرآن لرأوا أنهم يكررون أفعال قريش المشركة في عهد النبي (ص) ،ولعلموا أنهم إخترعوا أديانا أرضية تكرر كفر قريش .

2 ـإن المبدأ القرآني في الحوار يقوم على الحكمة والموعظة الحسنة . والرد على إساءة الخصم بالتي هي أحسن وليس بمجرد الحسنى . يقول تعالى ،" ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ."16/125 ". فالله تعالى يأمر رسوله الكريم بأن يدعو للإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأن يجادل خصومه ليس بالحسنى وإنما بالتي هي أحسن . وإذا كان ذلك فرضا على النبي صاحب المقام الرفيع فغيره من المسلمين أولى بأن يتحمل السيئة في الجدال وان يرد عليها بالتي هي أحسن . على أن القرآن الكريم لم يكتف بذلك الأمر للنبي وإنما جعله فرضا عاما على كل من يدعو للحق . وجاء التعبير عن ذلك الأمر بصيغة مؤثرة ومحببة . يقول تعالى: " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ 41/ 33 : 35 ".

فالله تعالى يعتبر أحسن الناس قولا هو الذي يدعو إلى الله ويكون قدوة لغيره في العمل الصالح ويعلن انقياده أو إسلامه لله . وإذا جادله أحد وأساء اليه في دعوته دفع تلك السيئة بالتي هي أحسن من الإحتمال والصبر والصفح والكلام الجميل ، وحينئذ يضطر خصمه للاعتذار ويبدو بعدها كأنه ولى حميم ، وتلك الدرجة من السمو الخلقي في الدعوة لا يصل إليها إلا من عانى الصبر والتحمل في سبيل الله ، وجدير به أن يكون ذا حظ عظيم عند الله تعالى ..!

3ـ هذه هي المبادئ العامة في آداب الحوار: الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ودفع السيئة بالتي هي أحسن .وكان ممكنا أن يكتفي القرآن بذلك ولكن لأهمية الموضوع في عقيدة الإسلام القائمة على حرية الاختيار فإن آيات القرآن الكريم نزلت بتفصيلات آداب الحوار القائم على الحكمة والموعظة الحسنة ودفع السيئة بالتي هي أحسن .

*فالله تعالى ينهى عن الوقوع في سب الخصم وتسفيه معتقداته ومقدساته حتى لا يندفع الخصم في سب الله تعالى يقول، رب العزة " وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ : 6/108 ".

ويبين رب العزة الحكمة في ذلك فذلك الذي وقع في الضلال وقع فيه اختياره وتعصب له فكانت النتيجة أن الله سبحانه وتعالى زين له هذا الضلال ، وفى النهاية مرجعه إلى الله يوم القيامة يوم الاختبار . تقول الآية " وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ : 6/108 ".

والواقع أن الإنسان يبدأ باختيار الطريق الذي يسلكه ويستريح إليه في حياته ، سواء كان ذلك حقا أم باطلا ، وبعد الاختيار الإنسانى تأتى إرادة الله فتزيد المهتدى هدى وتزيد الضال ضلال يقول تعالى عن الضالين ،" فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً " 2 / 10 " ، ويقول تعالى عن المهتدين "وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى"19 76 " وقال عن أهل الكهف :" نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى" 18/13" إذن يبدأ الإنسان بالاختيار ، ثم يزيده الله تعالى إيمانا إذا كان مؤمنا ، وضلالا إذا كان ضالا ، أو بمعنى آخر يزين له اختياره ، يقول تعالى عن تزيين الإيمان للمؤمن " وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ : 49/7 " ويقول عن الصنف الآخر " إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ :27/4 ".



تقرير الحرية الدينية للخصوم .

ومن هنا ينهى القرآن عن الجدال مع ذلك الذي انقلبت أمام عينه المفاهيم فأصبح يرى الحق باطلا والباطل حقا ، يقول تعالى للنبي (ص) " أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ : 35/ 8 " .

وإجراء الحوار يكون بالحكمة والأسلوب العقلي، وقد مرت بنا أمثلة لها في أسلوب الحوار الذي كان يجريه رب العزة مع خلقه ، وإذا رفض الحجج العقلية والأدلة المنطقية فهو يمارس حقا أصيلا كفله له رب العزة وسيكون مسئولا عن ذلك أمام الله تعالى يوم القيامة،وهنا تكون وظيفة الداعية أن يعرض عنه ويهجره هجرا جميلا حتى لو آذوه فبذلك كان أسلوب النبي في الدعوة " وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا :73/ 10 " . ونزل الإعراض عن الجاهلين دستورا للنبي محمد عليه السلام وكل داعية " خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ 7/ 199" .

والإعراض عن الخصم الجاهل يعنى تركه لما اختاره من طريق ارتضاه لنفسه، ويعنى انتظار الحكم في ذلك الاختلاف معه إلى يوم القيامة ، وهذا يحمل تساويا ضمنيا بين الجانبين مع أن أحدهما مصلح مسالم على الحق ، والآخر معاند ظالم على الباطل ، والله تعالى قال للنبي محمد عليه السلام:" فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ 32/30 "، فساوى بينهم وبين النبى فى الانتظار للحكم الالهى يوم القيامة . ويقول له ربه " فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا 53/ 29 ".

وقد يأتي الأمر بالإعراض عنهم بتقرير حريتهم الدينية ومسئوليتهم عنها أمام الله يوم القيامة ويقول تعالى " وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ َانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ .... 11/121 :122 " قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ : 6/135". قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ 39/39 :40" وذلك الإعراض الذي يؤكد حريتهم في الاختيار ومسئوليتهم عليه يحمل في طياته تخويفا لهم ، ويعكس هذا التخويف أملا لدى الداعية في هداية بعض الخصوم .

فإذا لم يكن يرى فيهم املآ أصبح التركيز على الإعراض عنهم بأرقى أسلوب في التعامل ، وجاء ذلك في قوله تعالى" قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ: 34/ 24: 26". حين اليأس من الهداية وحين يتمسك الخصم بموقفه يقال له أحدنا على هدى والآخر على ضلال ، ( ولا يقال له أنت كافر وأذهب إلى الجحيم) ويقال له لست مسئولا عن إجرامنا ولسنا مسئولين عن أعمالك ، وكان القياس يقتضى المساواة كأن يقال لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تجرمون ، ولكن أدب الحوار في القرآن يأبى ذلك . ويقال إن الله تعالى سيجمع بيننا ثم يقضى بيننا بالحق " و لا يقال نحن أصحاب الجنة وأنتم أصحاب النار ".

وهذا الأدب القولى والسلوكي في الإعراض عن الخصوم في الرأي والعقيدة ليس نفاقا أو أسلوبا شكليا ، وإنما أمر القرآن يكون عاطفة تنبع من القلب تحمل معها العفو عن الخصم والغفران له والصفح عنه ، الصفح الجميل ، ومنبع هذه العاطفة هو الإيمان بأن الخصم قد أخطأ في حق نفسه وأنه سيلقى عذابا شديدا يوم القيامة ، لأنه فشل في الاختيار وأساء استخدام الحرية التي كفلها له ربه ، وحين يتصور المؤمن فظاعة العذاب يوم القيامة لا يملك إلا أن يصفح عن ذلك الخصم ويغفر له .

وليس ذلك استنتاجا عقليا أو اجتهادا شخصيا وإنما هو تدبر لمعاني الآيات القرآنية الواضحة الصريحة ، يقول تعالى عن قيام الساعة " وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ : 15/85". أي ليس مجرد الصفح ، ولكن الصفح الجميل . ويقول تعالى " وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ 43/88: 89 ". فإذا يئسنا من إيمانهم فعلينا أن نصفح عنهم ونقول لهم سلام ، فسوف يعلمون .

ويقول تعالى يأمر المؤمنين "قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ :45/ 14ـ

تشريع الجهاد لتقرير حرية الرأي :

- وعلى خلاف الشائع فإن تشريع الجهاد في الإسلام ليس للإكراه على الدين ، وإنما لتقرير حرية الرأي والعقيدة ، والاختيار بين الإيمان والكفر ، لذا كان الجهاد موجها ضد الكهنوت الذي يضطهد الخصوم ويعتمد الإكراه في الدين وفرض أرائه على الناس ومصادرة حقهم في التفكير وفى الاختيار .

- والدعوة للحق الإسلامي تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة وإذا رفضها بعض الناس فالإسلام يأمر بالإعراض عنهم والغفران لهم والصفح عنهم . ولكن المشكلة أن الكهنوت والمرتزقة بالدين والذين يقوم سلطانهم على الأوضاع السائدة يرفضون دعوة الإسلام الداعية للعبودية لله وحده والعدالة والمساواة وعدم الاستبداد والظلم ، ولأنهم أصحاب سلطان فهم يستخدمون سلطانهم في اضطهاد خصومهم فى الرأى،وكذلك فعلت قريش ، وكذلك تفعل كل سلطة كهنوتية تسير على منوالها .

- والقرآن يأمر بالصبر في مواجهة ذلك الاضطهاد ، ويأتي الأمر بالصبر مقترنا بأسلوب الدعوة وآداب الحوار الذي ينبغي أن يتحلى به المؤمن .فمثلا يقول تعالى " ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ "ثم يقول "وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ : 16/ 125: 127 ".

ويقول يأمر بالصبر والإعراض الجميل عن المشركين وإيذائهم " وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا: 73 /10 ".ويقول تعالى يأمر المؤمنين يعلمهم الإعراض عن المشركين وإيذائهم " وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ 28 /55 ".

ويزداد ذلك الإضطهاد إلى درجة إجلاء المسلمين وطردهم ثم قتالهم ، وهنا يتحتم القتال دفاعا عن النفس ، وذلك حق لا جدال فيه في كل تشريع سماوي أو وضعي ، والقرآن يضع مواصفات القتال في سبيل الله وهى تتلخص في رد العدوان وعدم الاعتداء " وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ".فالله تعالى لا يحب المعتدين ،أى إذا إعتدى المسلمون على من لم يعتد عليهم فقد أصبحوا ممن لا يحبهم الله جل وعلا. ويقول تعالى مؤكدا نفس التشريع :" فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ: 2/190، 194 ". فلم يقل واعلموا إن الله معكم ، وإنما قال " واعلموا إن الله مع المتقين " أي معكم إذا كنتم متقين غير معتدين بالقتال على من لم يعتد عليكم.

- واقتصار القتال على رد العدوان وان يكون رد العدوان بالمثل . يعنى أن الهدف من القتال هو منع المشركين من استمرار اضطهادهم للمسلمين أو بالتعبير القرآني كف المشركين عن فتنة الناس في دينهم،فالصراع بين الفريقين هو الصراع بين مبدأين:مبدأ يقوم علي الإكراه في الدين واضطهاد الخصوم . وذلك مبدأ الأديان الأرضية، ومبدأ آخر يقوم علي ضمان الحرية في الفكر والعقيدة ، وأن يكون الدين لله ،هو الذي يحاسب عليه يوم القيامة أو (يوم الدين)، وهذا هو الدين الالهى السماوى.

ونتيجة الصراع بينهما إذا كانت لصالح المشركين فهى انتصار للاضطهاد الديني أو الفتنة فى الدين ،أوكما يقول تعالى "وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ: 2/ 217 ". أما إذا كانت النتيجة لصالح المسلمين . وهذا ما حدث فهو انتصار لحرية الفكر والعقيدة . أو كما قال تعالى "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ: 2/256 ".

وذلك يعني باختصار، أن هدف الجهاد في سبيل الله ،هو تقرير الحرية الدينية ، أو بالتعبير القرآني (منع الفتنة في الدين أو الاضطهاد )، وأن يكون الدين لله تعالى ،وذلك جاء صريحا في قوله تعالى "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ": 2/193". أي يستمر القتال حتى تمتنع الفتنة ويكون الدين لله ، بالاقتناع وحرية الدعوة والتسامح والصفح الجميل على النحو الذي سبق ،فإن انتهى المشركون من اضطهاد المسلمين و ملاحقتهم فلا عدوان إلا على الظالمين ..

ويقول تعالى "قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ : 8/ 38 : 39 " . فالله تعالى يعرض على المشركين التوبة والكف عن الاضطهاد وان لم يعودوا فعلى المسلمين أن يقاتلوهم حتى يكفوا عن فتنة غيرهم ويكون الدين كله لله وحده دون كهنوت أو أدعياء يتاجرون باسم الله كذبا وبهتانا .

والتطبيق العملي لذلك التشريع القرآني كان في عهد النبي عليه السلام حين كان حاكما على المدينة وتمتعت المعارضة الدينية السياسية في عهده بحرية في الفكر والعقيدة بل وحرية في الفعل والتصرف تفوق ما تحلم به أي معارضة في أعتي الديمقراطيات الحديثة ، وذلك التطبيق العملي للنبي في المدينة هو السنة الحقيقية للنبي .. ومصدرنا فيها هو القرآن الكريم نفسه " وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا ؟4/ 87".



حرية الرأي في سنة الرسول عليه السلام :

ـ دعاة الكهنوت لايستريحون لقوله تعالى (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) 2 / 256 ) ويحرفون معناها بأن الهدف منها أنه لا إكراه على دخول الدين ، أما إذا دخل الدين فقد دخل المصيدة وأصبح مكرها ومجبرا على تنفيذ تشريعات دينهم الأرضى التى ما أنزل الله بها من سلطان .

ومعنى هذا التأويل للآية أن الله تعالى نسى كلمة في الآية ، وأن أصلها ( لا إكراه في دخول الدين ) أي سقطت كلمة (دخول ) واكتشف عباقرة الكهنوت ذلك ، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، والحمد لله الذي حفظ القرآن من أي تحريف ،و إلا كانت أصابع الكهنوت قد حرفت فيه ما شاءت . والمعنى الواضح في الآيات أنه لا إكراه في الدين ؛ أي دين .أي لا يكون هناك إكراه في الإيمان أوفي الكفر ، في إقامة الشعائر أوفي عدم أقامتها ، فالله تعالى يريدك أن تعبده بدافع من اختيارك وضميرك لا أن تصلي له والسياط فوق رأسك، والله تعالى يريدك أن تتطوع بالصدقة حبا في الله ورغبة في إرضائه وليس للرياء وإعجاب الناس أو بالإكراه . والمنافقون كانوا يقدمون الصدقات بهذه الطريقة فمنع الله تعالى النبي من أخذها منهم وقال "وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ : 9/ 54 : 55 " . وفي نفس الوقت قال تعالى عن التائبين من المؤمنين " وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ :9/102 :103 " .

ـ إن الحرية في تشريع القرآن حرية مسئولة ، فأنت حر فيما تعتقد وفيما تفكر ، وحر في الطاعة والمعصية بشرط ألا تضر بالآخرين ، وإذا حدث إضرار منك بالآخرين كان لابد من العقوبة ليستقيم حال المجتمع باقامة حقوق الانسان فى الحياة و المال و الشرف و العرض. ومن هنا جاءت عقوبات للقتل وقطع الطريق والسرقة والزنا والشذوذ وقذف المحصنات . وليست هناك في القرآن لما يخص حقوق الله تعالى ـ أى فى مجال الايمان و العبادات والمعتقدات ، فهى مؤجلة الى يوم القيامة ، ولذلك فليس فى الاسلام عقوبة للردة وترك الصلاة وشرب الخمر فتلك مخترعات العصر العباسي والأديان الأرضية للمسلمين التى نبتت فيه.

- ودعاء الكهنوت يجدون في فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرصة للتنفيس عن رغبتهم في التحكم في الآخرين ،وفى أديانهم الأرضية يضيفون إلى الأمر بالمعروف كثيرا من المحظورات التي ابتدعوها أو ابتدعها أسلافهم ولم يكن لعصر النبي عليه السلام معرفة بها وهم يعتقدون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اقوي حجة لديهم في الإكراة في الدين .

ونحن نرد عليهم بتوضيح معني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه مجرد أمر قولي ونهي قولي يتواصى به كل مسلم ولا تنفرد به طائفة (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) .وهذا الأمر القولي لا يرتب سلطة لأحد كي يرغم الآخرين علي فعل الصالحات ،والدليل الحاسم هوقول الله تعالي للنبي محمد عليه السلام "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ" 26/ 214: 216)

فالله أمره أن يتواضع للمؤمنين .فإن عصوه فيما يأمر به من معروف فيقل لهم إني بريء مما تعملون.لم يقل له فإن عصوك فاضربهم بالسلاسل والجنازير، ولم يقل فإن عصوك فقل إني بريء منكم ،وإنما قال (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ) أي بريء من أعمالكم وليس من أشخاصكم. تلك هي حدود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ مجرد النصائح ، وإذا صمم أحدنا علي ما يفعل فنحن أبرياء من ذنوبه. هذا ما كان النبي عليه السلام يفعله مع أصحابه، ولكن المشكلة فى الدين الأرضى أنه يؤسس لقادته سلطة على الآخرين تفوق السلطة التي كانت للنبي محمد عليه السلام .

ولكن كيف كان النبي يتصرف مع المنافقين ؟. وإلي أي حد كانت حرية المنافقين في دولة الإسلام الأولي في المدينة ؟ هنا تكمن الإجابة الحقيقية التي ترد علي الكهنوت .

حرية الرأي في حكومة الرسول

لم يكن النبي محمد عليه السلام مجرد حاكم وإنما كان رسولا نبيا يأتيه وحي السماء. وكان المنافقون هم عنصر المعارضة ضد حكومة النبي ، وكانوا يعارضون الإسلام دينا ويعارضون سلطة النبي وسياسته،وقد منعهم خوفهم من التمرد المسلح ضد الدولة وكانو اضعف جندا من القيام بثورة فاكتفوا بالكيد والتآمر ثم يقسموا بأغلظ الإيمان ببراءتهم مما يفعلون .وتمتعوا في مسيرة التآمر تلك بالحرية الهائلة التي كفلها لهم القرآن في القول والفعل ضد الدولة التي يعشون في كنفها ويعملون ضدها،واكتفى القرآن الكريم بالرد علي مكائدهم وادعاءاتهم وفضح تآمرهم ، مع التنبيه المستمر علي النبي والمسلمين بالإعراض عنهم والاكتفاء بما ينتظرهم من عذاب يوم القيامة.

ومن خلال القرآن نرصد إلي أي حد كانوا يتمتعون بحرية الرأي

كانت حرية الرأي تصل بالمنافقين إلي سب المؤمنين ووصفهم بالسفهاء ولا يرد عليهم إلا القرآن "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ 2/13 )

وكان يحلو لهم الإستهزاء بالمؤمنين خصوصا في أوقات الاستعداد للحرب فمن يتطوع بالصدقة يصفونه بالرياء إذا كان غنيا ويتندرون عليه إذا كان فقيرا ،بينما هم يمسكون أيديهم عن التطوع بالمال والتطوع للقتال ،( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) وكان النبي مع ذلك يستغفر لهم ويطلب لهم الهداية فنزل قوله تعالي "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ: 9/ 79 :80".

وكانو يعبرون عن رأيهم بصراحة فيما يخص القرآن الكريم .إذ كانوا يستهزئون به علنا، واتخذ ذلك صورا شتى :

- كانوا يتندرون علي نزول آيات القرآن الكريم التي تحكي حالهم "يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ: 9/64 ".

-وكانوا إذا نزلت سورة يتساءلون في سخرية عمن ازداد إيمانا بهذه الآية "وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ: 9/124".

ومنهم من كان يدخل علي النبي ويسمع القرآن ثم يخرج من عنده يتساءل باستخفاف عما سمع "وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ :47/16".

وكانوا إذا سئلوا عن هذا الاستهزاء بالقرآن أجابوا باستخفاف إنهم يلعبون ،ولا يتخذ معهم النبي ـ وهو الحاكم ـ أي إجراء . ويأتي الوحي يثبت كفرهم ولكن يجعل عقوبتهم من لدن الله تعالى إن شاء "وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ : 9/65 :66".

وكانوا يقيمون مجالس علنية للاستهزاء بالقرآن ،وكان يحضرها بعض المسلمين بحسن نية،ونزل القرآن يحذر المسلمين من حضورهم تلك المجالس .ومع ذلك كان بعضهم يحضرها ،فنزل قوله تعالي "وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا 4/140 "

-واختصوا النبي بكثير من الأذى القولي مع أنه الحاكم السياسي والرسول صاحب الوحي . كان النبي مأمورا بإقامة الشورى فكان يستشير الناس جميعا ومن بينهم المنافقون الذين كانوا سادة يثرب من قبل وقد حاولوا من خلال الشورى أن يكيدوا للنبي ، فحذر الله تعالى رسوله من طاعتهم وقال له "أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ :33/ 1 ".

ولما رأوا النبي محمدا عليه السلام قد أوسع صدره لجميع الناس ، ولم يقتصر عليهم ليسمع مشورة الجميع اتهموا النبي بأنه (أذن ) أي يعطي إذنه لكل من هب ودب ، وأشاعوا هذا القول الساخر عن النبي فنزل قوله تعالى يدافع عن النبي "وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ :9/ 61 ".

فالله تعالى هو الذي يدافع عن النبي ويصفه بأنه يثق بالمؤمنين ورحمة لهم ويتوعد من يؤذي النبي بعذاب أليم ، أما سلطة النبي كحاكم فلا مجال لها هنا في ذلك المجتمع الحر الذي يكفل للمعارضة الكافرة المتسترة بالايمان كل الحرية في أن تقول ما تشاء ،والله تعالى أمر النبي بأن يتغاضى عن أذى المنافقين ونهاه عن طاعتهم "وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا : 33 /48 ".

وفي غير الشورى كانوا يلمزون النبي إذا حرمهم من الصدقة وهم غير مستحقين لها لكونهم أغنياء وكانوا يحتجون علية ويطاردونه بأقوالهم "وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ :9/58 " . والخلاصة أن المنافقين في حكومة النبي عليه السلام تمتعوا بحرية الرأي التي عبروا من خلالها عن رأيهم في الإسلام و القرآن والرسول عليه السلام ،وكان الضمان الوحيد لهذه الحرية هي تعاليم القرآن نفسه ،وكانت سنة الرسول هي التسامح بل كان يستغفر لهم وينزل الوحي يخبرنا بذلك.

ولقد أثبت الله تعالى ذلك فى القرآن الكريم ليكون نبراسا لأى حكم اسلامى حقيقى فى تعامله مع المعارضة الدينية و السياسية ، ولكى يكون حجة أيضا على كل كهنوت آت بعد الاسلام. ومن الاعجاز الخفى للقرآن الكريم أن تتأسس أديان أرضية للمسلمين تتستر بلاسلام ، وهنا ياتى القرآن الكريم ليرد عليهم مقدما.

مدي حرية المعارضة في حكومة النبي

وحرية الرأي للمنافقين لم تقتصر على التصريح العلني والإعلان ألقولي ، وإنما تعدى ذلك إلى التصرفات الفعلية العملية وتدبير الخطط بل والتآمر في أحلك الظروف ، ولم يتدخل التشريع القرآني بالتحذير إلا عندما جاوزوا الضوء الأحمر ووصل تآمرهم إلى درجة الإضرار بالدولة في وقت كان الأعداء يحاصرونها من جميع الاتجاهات ، وذلك في غزوة الأحزاب .

ونرصد خطواتهم التآمرية في إعلان رأيهم، من خلال تسجيل القرآن لها .

كانت للمنافقين حرية الفساد والدعوة إليه دون عقاب أو مساءلة جنائية ،وإذا سئلوا عن ذلك أجابوا بكل حرية أن ذلك هو الإصلاح من وجهة نظرهم "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ : 2/ 11 : 12 " .

وبينما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ،كان المنافقون في المدينة يفعلون العكس ، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويرفضون إعطاء الصدقات في جو من الحرية لا نتخيل حدوثه الآن ،والقرآن يسجل ذلك يقول عن المنافقين :" الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ :9 /67 ".

وكان المؤمنون في المقابل كما وصفهم رب العزة "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ": 9/71 ".

وكانت حدود الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في داخل المجتمع الإسلامي لا تتعدى حد النصيحة القولبة دون إكراه أو إيذاء ودون تبرأ من الشخص الواقع في المنكر بل من فعله المنكر " وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ."الشعراء/215 : 216 "

وكانوا يرفضون الاحتكام للرسول وهو الحاكم الرسمي للمدينة تعبيرا منهم على عدم اعترافهم بسلطته ،ويسكت عنهم النبي وينزل القرآن ينعى عليهم تحاكمهم للطاغوت مع أنهم يزعمون الإيمان "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا : 4/ 60-61 "

وحتى في أمريكا قمة الديمقراطية الحديثة ، لا يمكن أن نجد جماعة ترفض المثول أمام القاضي الرسمي ،وترفض القانون الذي يسرى على كل فرد فيها. المنافقون كانوا يرضون الحكم الإسلامي إذا كان في مصلحتهم، يقول الله تعالى " وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ " والله تعالى يجعل طاعة التشريع القرآني اختيار من المؤمن ، ويقول ما يفيد بأنه ينبغي للمؤمنين أن يسمعوه ويطيعوه "إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: 24 /48 :51 ".

وحتى في أوقات الحرب والطوارىء كانت لهم حريتهم الكاملة في القول والعمل ضد الدولة التي يعيشون فيها،مع أن الديمقراطيات الحديثة تلجأ للأحكام العرفية ، والقوانين الاستثنائية في تلك الظروف ، ولكن تشريع القرآن كان مع الحرية إلى درجة تستعصي على المقارنة ، ونأخذ أمثلة على ذلك من القرآن الكريم ..

ففي غزوة أحد كانت لهم حرية التقاعس عن القتال ، ثم يحملون المسئولية في الهزيمة للمسلمين لأنهم لم يطيعوهم فى البقاء في المدينة ،وينزل القرآن يرد عليهم "وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ : 3/167-168 ". فالله تعالى يعطى النبي الإجابة في الرد عليهم " قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ".

وفى غزوة الأحزاب ، تجمع المشركون حول المدينة ، ولم يكن باستطاعة المنافقين الخروج عنها فأصابهم الذعر وأصبحوا طابورا خامسا للعدو في الداخل ، يستهزئون بوعد النبي بالنصرة ، ويدعون لقعود المسلمين عن الجهاد ويتخلفون عن مواقعهم في الحراسة ، وقد كان المسلمون في وقت عصيب لا تجد أروع من وصف القرآن له " إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا 33/10: 13 ".ويقول تعالى يتحدث عن دورهم في تحريض المؤمنين على عدم القتال والدفاع عن أنفسهم "قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا :33/18 ".

وفى ذلك الموقف العصيب ظهرت ثلاث جماعات من المنافقين لكل منها دور تخريبي أستدعى أن ينزل القرآن يهددهم ويضع لهم خطا أحمر ليتوقفوا عنده يقول تعالى لهم " لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا 33/60 ". أي هددهم الله إن لم يتوقفوا عن اللعب بالنار بأن سيعطى النبي الأمر بالتصرف معهم بما يستحقون .

وفى غزوة ذات العسرة تثاقلوا عن الخروج للقتال بحجة الحرارة الشديدة ، وكانت العقوبة أن حرمهم الله من شرف الجهاد مستقبلا . وهذا هو كل ما في الأمر ، يقول تعالى "فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ." 9/ 81: 84".

ومن الآيات نعرف أن الجيش الإسلامي لم يكن فيه تجنيد إجباري وذلك تبعا للدستور القرآني الذي ينص على أنه" لا إكراه في الدين " ومن هذا المبدأ كان التطوع بالنفس والمال هو الطريق الوحيد لتعبئة الجيش المسلم ، وعن طريق نفس المبدأ " لا إكراه في الدين " تمتع المنافقون بحريتهم في رفض التجنيد والخروج للقتال سواء كان للدفاع عن المدينة في غزوة الأحزاب أو في الخروج مع المسلمين في حروبهم الوقائية في الجزيرة العربية وكانت العقوبات ضدهم سلمية تتلخص في معنى واحد هو الإعراض عنهم ، بعد أن أخبر رب العزة بكفرهم ، والله وحده هو الذي يعلم السرائر ولم يعط علمه بالغيب وبما في القلوب لأحد وقد قال تعالى " وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ : 4/25 ".

وتاسيسا على علمه تعالى وحده بغيب القلوب والسرائر فقد تحدث الله تعالى عن ارتداد المنافقين بعد إسلامهم بالقول وبالفعل ، وجعل عقوبتهم على هذه الردة في الدنيا وفى الآخرة بيد الله وحده ، يقول تعالى " يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ 9/ 74 ".

ووصلت معارضة المنافقين إلى حد التآمر على الدولة ، واتخذ هذا التآمر صورا شتى ، منها : إطلاق الإشاعات خصوصا في أوقات الحرب ، وقد مر تآمرهم على المسلمين في محنة الأحزاب في وقت كان الخطر يشمل الجميع والله تعالى قال يهددهم:" لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا 33/60 " أي كان بينهم مرجفون تخصصوا في بث الدعاية السوداء بين المسلمين ، ولم تتوقف تلك الإشاعات على وقت الحرب بل كانت في أوقات السلم أيضا، فى وقت كان المسلمون فى المدينة جزيرة محاصرة بالأعداء من كل جانب ، والله تعالى ذكر بعض وسائلهم في التشنيع فقال " وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ 4/83 ". أي كانوا يذيعون الأسرار وينشرون الأقاويل والتكهنات دون الرجوع إلى الجهات المختصة.

- وبسب كثرة إشاعتهم في كل وقت ، فقد جعلوا المدينة خلية نحل تدوي فيها الأقاويل والتناجي بالأسرار مع كون المدينة مجتمعا مفتوحا يتمتع بأقصى درجة من الصراحة والحرية السياسية والدينية ، ولكن التآمر هو الذي أظهر عادة التقول بالإشاعات والتناجي ، للإيحاء بأن هناك أسرارا وخفايا ومؤامرات ، وقد نهاهم الله عن عادة التناجي تلك ، ولكنهم لم يطيعوا واستمروا فيها عنادا ، بل كانوا يدخلون على النبي يحيونه في الظاهر ويسيئون إليه في الباطن ، ونزل القرآن يقول فيهم " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ 58/8 ".

وبسبب شيوع عادة التناجي فقد انتقلت إلى بعض المسلمين في المدينة فقال تعالى للمؤمنين " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 58/9 " ثم يبين الله الهدف من ذلك التناجي الذي أشاعه المنافقون "إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ :58/ 10 ".

- ثم كانوا يتآمرون على النبي نفسه ، يدخلون عليه يقدمون فروض الطاعة ثم يخرجون يكذبون عليه ويتآمرون عليه ، وينزل القرآن يفضحهم ولكن يأمر النبي بالإعراض عنهم "وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً : 4/81 ".

وكان من نتيجة تآمرهم على المسلمين إيقاع الفرقة والفتنة بينهم ولذلك اعتبر القرآن تخلفهم عن الخروج إلى غزوة ذات العسرة خيرا للمسلمين فقال "لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ :9/47: 48 ".

ووصل تآمرهم إلى حد الإتصال بأعداء المسلمين من المشركين واليهود وعقد محالفات سرية معهم ضد حكومة النبي.وفضح القرآن ذلك التحالف بين المنافقين واليهود في أكثر من موضع .وهذا الاتصال بحكومات معادية خصوصا وقت الحروب يعنى الخيانة العظمى في اعتى الديمقراطيات الحديثة .ولكن حرية الرأي في تشريع الإسلام أباحت هذا وأبطلت مفعولة التآمري طالما كان المؤمنون مؤمنين فعلا . يقول تعالى عن اتصالهم بالمشركين وقت الحروب " الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً :4/141".

أي كانوا يلعبون على (السلم) بين الطائفتين؛ وتلك طبيعة النفاق . وعن تحالفهم السري مع اليهود يقول تعالى "فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ : 5/52".ويقول عن تحالفهم مع يهود بنى النضير " أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ 59/11". ويقول تعالى عن عقوبتهم الأخروية بسبب ذلك التحالف مع أعداء الإسلام:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 58/14: 15".

وتآمروا على طرد النبي والمسلمين من المدينة والإمتناع عن الإنفاق على المؤمنين ، وكشف القرآن هذا التآمر فقال تعالى "هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ :3/7: 8 ".

وحكى القرآن تفصيلا حيا لبعض أحداث تآمرهم مثل التجسس " وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ.. 9/127 " ومثل أوكارهم التي يجتمعون فيها للتآمر "وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ :2/14: 15".اى أن الله يترك لهم الحرية للوصول في طريق الفساد إلى منتهاه .

ثم تمكنوا بالحرية التي يتمتعون بها من إقامة مسجد جعلوه وكرا للتآمر وللإضرار بالمسلمين؛ والتفريق بينهم .وجعلوه ملجأ لكل متآمر على حكومة النبي والإسلام . فقال تعالى فيهم "وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ :9/107 ".

وكان المسلمون يذهبون إلى ذلك المسجد بحسن نية ،ويبدو أن النبي كان يذهب إليه أيضا وهو لا يعرف ما يدور فيه . نفهم هذا من الآية التالية التي نزلت تنهى النبي عن الإقامة فيه " لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ". وعلى خلاف ما ترويه بعض الروايات من أن النبي أحرق ذلك المسجد ، وهذا يخالف منطق التشريع القرآني_فان الآية بعد التالية تفيد ببقاء المسجد كما هو "لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ : 9/107: 110 ".

اكتفى النبي والمؤمنون بمقاطعة ذلك الوكر تنفيذا لقوله تعالى (لا تقم فيه أبدا ) .وتلك هي السياسة التي كان يتبعها النبي في سنته مع خصومه داخل الدولة .الإعراض عنهم وتركهم يتمتعون بحريتهم في إبداء الرأى بالقول وبالفعل .حتى لو وصل ذلك إلى درجة التآمر.

الأمن يتحقق بمزيد من الحرية و ليس بالتضييق على الحرية:

وقد يقال أن تلك السياسة لا تجدي في عالم اليوم .إذا لابد من اتخاذ تدابير وقائية. أو تشريعات استثنائية لمواجهة التآمر على الحرية .ولكن القرآن يضع العلاج الأمثل للوقاية من ذلك التآمر وهو المزيد من الحرية مع التوكل على الله الذي خلق الإنسان حرا، والله تعالى لا يريد لأحد أن يتحكم في حريته أو يصادرها على مراحل بسبب التخوف من أشياء محتملة قد تكون مجرد شكوك لدى أولى الأمر وفتح باب الاستثناء والاعتداء على الحرية ينتهي بالاستبداد المقنع ثم بالاستبداد المكشوف .

ـ يقول تعالى للنبي"وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً :4/81" فالعلاج هو الإعراض عنهم والتوكل على الله تعالى وكفى به مدافعا وكفى به نصيرا .

ثم أن نفسية المنافق تمتلىء بالشك والخوف وعدم الثقة في أحد وعدم الولاء لأحد وذلك يحكم على تآمرهم بالفشل عند نقطة معينة لا يجرؤن بعدها على استكمال الخطط . يقول تعالى عن خوف المنافقين الهائل من المؤمنين "وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ :9/56: 57 ".

وقد تحالفوا مع بنى النضير أن ينصروهم في القتال ضد المسلمين . وإذا انهزموا وخرجوا فسيخرجون معهم،ونزل القرآن يخبر بذلك التحالف السري وينبأ بأن المنافقين سيتقاعسون عن نصرة اليهود لأنهم يخافون المؤمنين "لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ :59/12: 13"

أي كانوا يخشون المؤمنين أكثر من خشيتهم من الله .

والمؤمنون كانوا أقوى بالله وبتطبيق شرعه القائم على انه لا إكراه في الدين .. ولذلك نصرهم الله .ومن الممكن أن ينصر الله المؤمنين اليوم إذا فهموا الإسلام على حقيقته.