ßÊÇÈ كتاب ( التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية
ج 2 ف 3 أثر التصوف في الزكاة و والصيام

في الجمعة ٢٩ - مارس - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

ج 2 ف 3 أثر التصوف في الزكاة و والصيام

 

 الجزء الثانى :  العبادات فى مصر المملوكية  بين الإسلام والتصوف               

 الفصل الثالث: أثر التصوف في الزكاة و والصيام

   مدخل الفصل الثالث : الزكاة في الإسلام نظير التسول عند الصوفية :

1- ارتبط الأمر بالصلاة مع الأمر بإيتاء الزكاة في  الإسلام حتى قبل  البعثة المحمدية ، وإيتاء الزكاء يعنى تعليم النفس التزكية والطهارة من الذنوب والمعاصى ، فهى بمعنى إقامة الصلاة ، أى إقامتها خشوعا أثناء تأديتها وتقوى وترفعا عن المعاصى بين أوقات الصلوات . وهذا هو موجز الاسلام الذى نزلت به الرسالات السماوية ، كما جاء فى كلامه جل وعلا عن الأنبياء السابقين(  الأنبياء 73). وكانت إقامة الصلاة مع إيتاء الزكاة أهم بنود الميثاق الذي أخذه الله على بني اسرائيل ( البقرة 83).( المائدة 12). وكان اسماعيل يأمر أهله بالصلاة والزكاة( مريم 55) وبهما أُوصى عيسى عليهم السلام (مريم31)

والزكاة بمعنى الطهارة تشمل تزكية المال وتطهيره بتقديم الزكاة المالية أى الصدقة والانفاق فى سبيل الله جل وعلا .

 2- وجعل الله من صفات الأولياء الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون _ أنهم ينفقون أموالهم في سبيل الله بلا منة ولا أذى( البقرة 262). بينما جعل من سمات الأولياء المعبودة و المقدسة من دون الله – أنها عالة على معتقديها الذين يقومون بإطعامها (  الأنعام14).. فالمشركون يقدمون لأوليائهم الطعام إما في صورة ذبائح ينحرونها على القبور المقدسة ( الأنصاب )، وقد حرم تعالى الأكل مما ذبح على النصب :(  المائدة3)، وأما أن يقدم حياً باسم الإله أو الولي  حيث يوهب له أو يهلل باسمه ، وهو محرم أكله أيضا ( المائدة3). فقد اعتاد المشركون في العصر الجاهلى أن يجعلوا لأوليائهم نصيبا من الأنعام ويجعلوا لله تعالى نصيبا آخر، ثم يفضلون الأولياء على الله في الاستحقاق فيهبون نصيب الله إليهم على اعتبار أنهم واسطة لهم عند الله ، وقد سجل القرآن الكريم ذلك ( الأنعام 136).. وقد اعتبر الله جل وعلا هذا الفعل منهم افتراءاً على الله ، إذ يتوجهون لآلهتهم المزعزمة بنصيب مفروض من رزق الله الذي يهبه لهم ( النحل 56) . ومعلوم أن سدنة الأنصاب والأضرحة هم المستفيدون من تلك النذور والقرابين..

والعادة أن النُّصّب ( القبر المقدس ) يكون مبنيا على أكاذيب ، تنسب المعجزات والمناقب لصاحب القبر ، وربما لا يكون هناك مقبور اصلا تحت التراب ، وظاهرة الأضرحة المزورة منتشرة لدى المحمديين. وفى كل الأحوال تجد العجب : فأولئك الذى لا يعلمون بالقطع ماهية وكينونة الموجود أسفل التراب تحت القبر يأتون اليه سعيا و ( حجّا ) ليقدموا له ( النذور ) من المال الذى جاءهم رزقا من الرحمن جل وعلا . وهذه حالة من البلاهة والافتراء لا يقع فيها سوى المشركين الذين لا يعقلون . وما أروع قوله جل وعلا فى هذا المعنى : (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) النحل ) . ويتفوق الصوفية فى إفتراء أكبر . فقد حولوا ( زكاة المال ) الفريضة الاسلامية ( الصدقة ) الى إحتراف للتسول . هم لم يؤدوا الزكاة فقط وإنما عاشوا حياتهم عالة على مريديهم ، وبعد موتهم تقام لهم الأضرحة وتنتشر أساطير الكرامات فتنهمر على الأضرحة القرابين والنذور يتعيش منها سدنة الضريح وورثة الولي . ولتبرير التسول كان لا بد من جعل التبطل والتواكل دينا وتشريعا ، ثم يتسولون من الناس .

ونتتبع القصة من جذورها من التواكل والتبطل إلى التسول.

أولاً : التواكل والتبطل عند  الصوفية

التواكل والتبطل فى عقيدة الدين الصوفى

1- يقوم اقتصاد الصوفية على أساس التسول..

وأساس التسول عندهم هو عقيدتهم في التواكل وترك الحرفة .. فمنذ بداية التصوف كان الجنيد يقول (أحب للمريد المبتدىء ألا يشغل قلبه بثلاث وإلا يغير حاله : التكسب، وطلب الحديث، والتزويج)[1].

وكان أصحاب الجنيد وتلاميذه أسرع الناس في الطاعة ، فتركوا التكسب واعرضوا عن الحرف التي كانوا يمارسونها وإن ظلت ألقابهم تحمل حرفتهم القديمة ، فهناك أبو حفص عمر بن مسلمة الحداد، وأبو بكر محمد الوراق، وأبو سعيد الخراز وأبو محمد بن الحسين الحريري ، وابراهيم الخواص، وعبد الله الخراز، وبنان الحمال ،وأبو حمزة البزاز، وأبو الحسن الصائغ ، وخير النساج، وأبو بكر الكتاني  وأبو الحسن المزين ، وأبو على بن الكاتب ، وأبو عمر الزجاجي، بالإضافة للحلاج.. وكلهم من أعيان الصوفية في القرنين الثالث والرابع، وكانوا من قبل أصحاب حرف ومهن تركوها وأصبحوا عاطلين ،أى تبطلوا ( من البطالة )..

وفي العصر المملوكي انتشرت الخوانق والربط الصوفية تكفل لهم سبل العيش الميسرة  وكانت تتمتع بكفالة الدولة وكبار الأغنياء، وكثيراً ما تنص على شرط أن يكون الصوفي في داخلها من المتبطلين العاطلين أو حسب تعبير الوثائق ( ويرتب بها مع عشرين من الفقراء المتصفين بالخير والديانة المتخلين عن الاكتساب)[4]. ووضاح الخياط [5]. وبركات الخياط [6]. والغمري [7]. وعمر الوفائي الحائك [8]. والدميري [9]. وقارىء الهداية [10]. وعلى القطاناني[11]..وهذه مجرد أمثلة لحرفة واحدة ( الخياطة ) أصبح أصحابها من مشاهير الصوفية في المراجع الصوفية والتاريخية..

السعي في سبيل الرزق شرك بالله عند الصوفية :

1- وعلى عادة الصوفية قرنوا دعوتهم للتبطل وترك الحرفة بالدين الصوفى. ودين الإسلام من ذلك برىء فالإسلام دين السعي للرزق مع التوكل على الله تعالى خالق الأسباب يقول سبحانه وتعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ )(15) الملك  )..

إلا أن الصوفية في بداية نشر دينهم الجديد اعتبروا السعي في سبيل الرزق شركاً بالله تعالى، وفي إعلان هذه الحقيقة لجأ الجنيد إلى أسلوب التقية و التعمية مع الغرباء حين وفدوا عليه يسألونه الرأي فقد ورد في الاحياء (دخل جماعة على الجنيد وقالوا : نطلب الرزق،فقال: إن علمتم في أى موضع هو فاطلبوه ، قالوا: نسأل الله. قال إن علمتم أنه ينساكم فذكروه، فقالوا :ندخل البيت ونتوكل وننظر ما يكون فقال : التوكل على التجربة شك قالوا: فما الحيلة؟ قال : ترك الحيلة)[12].

2- ثم جاء الغزالي ياسلوبه الصوفى يجعل السعى للرزق إشراكا بالله جل وعلا ، يقول : ( ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد) [13]. وهو قول يخدع ظاهره الفقيه السّنى غير المتمكن من إشارات ومصطلحات الصوفية . فالفقيه لا يوافق على أن يعتمد المتوكل على غير الله ويعتبر اعتماده على أسباب الرزق وحدها نقيصة يضطر معها  لاعتباره ناقص الإيمان، وذلك حد أدنى من الإتفاق بينه وبين الغزالي الذي بالغ فاعتبر الساعى فى الرزق مشركاً ، وفي نفس الوقت فإن الغزالي قرر عقيدة الصوفية في اعتبار السعى للرزق اشراكا في دينهم، وإن حاول أن يخفف من هذا القول بإلقاء مزيد من التحير والضبابية متابعة منه للجنيد في النص السابق فيقول: (ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد. والتثاقل عنها بالكلية طعن فى السنة وقدح فى الشرع . والإعتماد على الأسباب من غير أن ترى أسباباً تغيير في وجه العقل وانغماس في غمرة الجهل . وتحقيق معنى التوكل على وجه يتوافق فيه مقتضى التوحيد والنقل والشرع في غاية الغموض والعسر . ولا يقوى على كشف هذا الغطاء من شدة الخفاء إلا سماسرة العلماء الذين اكتحلوا من فضل الله تعالى بأنوار الحقائق فأبصروا وتحققوا .).

  . وهى غاية فى البساطة : السعى للرزق فى الاسلام موضوع غاية فى البساطة . هو اتخاذ أسباب الرزق العملية من تجارة وزراعة وصيد وحرف ومهن وصناعة ، مع التوكل على الله جل وعلا . ولكن الغزالى جعل أنها منتهية في نظر الإسلام بالسعي في طلب الرزق ( بأتّخاذ الأسباب ) متوكلا على الله ــ إلا أن الغزالي جعلها مشكلة عويصة، لا يعرفها إلا العارفون المكشوف عنهم الحجاب ، أصحاب العلم اللدنى بزعمه . وهو قد اعتبر الأسباب أولاً شركاً في التوحيد، ويقصد بالتوحيد عقيدة الإتحاد الصوفية التي تجعل الله تعالى الروح المسيطر على الصوفي، وبذلك تنمحي إرادة  العبد في السعي حتى إذا سعى فقد اشرك بالتوحيد أو الاتحاد الصوفي، ثم هاجم التثاقل عن الأسباب بالكلية – وهجومه لا يشمل الصوفية المتبطلين إذ أنهم يعتبرون التصوف والقعود للعبادة في الربط سبباً للرزق ، ثم اعتبر الاعتماد على الأسباب (من غير أن ترى أسباباً) تغييراً في وجه العقل. وكنا ننتظر رأيه في هذه المشكلة التى جعلها أخطر المشاكل وربطها بالتوحيد إلا أنه ضنً علينا بالحل في نفس الوقت الذى أرجع العلم به إلى العلماء الصوفية الذين اختصوا من دون الناس بعلم الله اللدني . وكان الأولى به كأحد مدعي العلم اللدني أن  يعرفنا بالرأى الصحيح في هذه المشكلة التي تمس عقيدة التصوف من أساسها إلا أنه طبقاً لقاعدة (إفشاء سر الربوبية كفر) فقد توقف وتركنا حيارى .!!. وهذا الموقف يتمشى مع أسلوب الغزالي الذي اعتاده في التوفيق بين التصوف والإسلام مع تقرير عقائد التصوف في صورة لا تستوجب إنكاراً عنيفا من حيث الظاهر اللفظي .. ونشهد له بالبراعة في هذا..

على أن للغزالي أساليبه الأخرى في الإفصاح عن غرضه كالاستشهاد بأحاديث موضوعة يؤلفها بنفسه مثل قوله :( أن العبد ليهُمّ من الليل بأمر من أمور التجارة مما لو فعله لكان فيه هلاكه، فينظر الله تعالى من فوق عرشه فيصرفه فيصبح كئيباً حزيناً.. وما هي إلا رحمة رحمه الله بها)[14].  أو يأتي بالأقاصيص الصوفية التي تحقق نفس الغرض، ومن ذلك أن ( بشر ) الصوفي كان يعمل المغازل فتركها لأن كاتبه قال (بلغني أنك استغنيت على رزقك بالمغازل ،أرأيت أن أخذ الله سمعك وبصرك، فالرزق على من ؟ فوقع ذلك في قلبه، فأخرج آلة المغازل وتركها )[15]. ، أو أن فقيها سُنيا قال لأحدالصوفية القاعدين في المسجد بلا عمل (من أين تأكل؟ فقال يا شيخ: اصبر حتى أعيد الصلاة التى صليتها خلفك ثم أجيبك)[16]. ، أى أن الصوفى القاعد العاطل إعتبر الفقيه السّنى كافرا ، وأن الصلاة خلفه باطلة لمجرد هذا السؤال ، لأن السؤال خارج عن التوحيد(الصوفي) لأنه سأله عن حرفته ، وذلك يناقض التوكل الصوفي..

3- وجاء العصر المملوكي فتبلورت عقيدة التصوف في التواكل والتبطل على يد ابن عطاء الله السكندري في كتابه ( التنوير في اسقاط التدبير) الذي قصره على هذا الموضوع.. ونحلل أقواله بإختصار :

أ ) فابن عطاء يقرر قاعدة الجبرية من واقع عقيدة الا تحاد الصوفية ، فالصوفي الذى يسعى للاتحاد بالله لابد أن يتخلى عن دوافعه البشرية وإرادته واختياره ليفنى في الإرادة الإلهية فتتصرف له ، ويسعى ويتحرك طبقاً للروح الإلهية التي حلت فيه – طبقاً لعقيدتهم .!. يقول ابن عطاء في وصف الصوفية  ( تجري عليهم أحكامه وهم لجلاله خامدون ولحكمه مستسلمون)[17].  ، وذلك وصف خادع يحتمل الوجهين. ولا يرى المسلم الساذج فيه بأساً، إلا أن الهدف الصوفي من ذلك الكلام البراق يتضح من الشرح . فابن عطاء يشرح عقيدة الجبرية الإتحادية مفسراً بها تلك العبارة السابقة بقوله: ( أعلم أن الحق سبحانه إذا أراد أن يقوى عبداًعلى ما يريد أن يورده عليه من وجود حكمه، ألبسه من أنوار وصفه، وكساه من وجود نعته، فتنزلت الأقدار، وقد سبقت إليه الأنوار، فكان بربه لا بنفسه)[18]. أى أن الإرادة الإلهية اصطفت واختارت الشخص الصوفى فألبسته الأنوار الإلهية وكسته النعوت الربانية فأصبح الصوفى متحداً بربه غير ناظر إلى نفسه، ومن الطبيعى ألا يختار لنفسه، فالقوة الالهية الجديدة التى اتحدت به واتحد بها هى التى تختار له وتتصرف . وعلى ذلك فالصوفى ينصح أتباعه بعدم التدبير فى شئون المعاش . يقول الشاذلى( إن كان ولابد التدبير فدبروا ألا تدبروا)[19]. ، ويقول( لا تختر من أمرك شيئاً واختر فى ألا تختار، وفرّ من ذلك المختار، ومن فرارك ، ومن كل شئ إلى الله تعالى .)، ويقول: ( لن يصل الولى إلى الله ومعه تدبير من تدبيراته واختيار من اختياراته )[20]..

هنا ( جبرية ) إختيارية ، يزعم بها الصوفى أنه إختار أن يكون مجبورا تحت القوة الالهية ، ثم إن هذا الصوفى لايتبرع بالتخلى عن إرادته البشرية عبثاً، إنه يطمح في اكتساب الإرادة الإلهية الأسمى، وبهذا يزعم أن فى داخله قوة إلاهية وإرادة الاهية يبرر بها تكاسله وقعوده عن طلب الرزق ، ويبرر بها أيضا إنحرافاته و ضلاله وعصيانه طبقا لعقيدة ( وحدة الفاعل ) التى أسهب الغزالى فى شرحها وجعلها ضمن درجات العقيدة الصوفية . وهذا هو الفارق بين الجبرية العادية والجبرية الصوفية. فالجبرية العادية ترى أن الإنسان في حقيقته مسيَر مجْبر كالريشة في الهواء ولا اختيار له في الحقيقة، أم الجبرية الصوفية فهى تخلي عن الإرادة البشرية طوعا لتكتسب الإرادة الإلهية الباقية بزعمهم ، ثم تبرير ما يرتكبون بزعم أنها إرادة الله جل وعلا وفعله ، وليس لهم إرادة فيما تفعله أجسادهم . وقد سئل أبو يزيد البسطامي : ما تريد فقال ( أريد أن لا أريد) .! . وعقّب ابن عطاء على مقالته بقوله: ( وأعلم أنه قد قال بعضهم :إن أبا يزيد رحمه الله لما أراد  أن لا يريد فقد أراد )[21]. ، ففي داخل الجبرية الصوفية إرادة كامنة قاهرة تطمح للألوهية واكتساب الإرادة الإلهية التي لا معقب عليها ، ثم يفعل ما يريد على أنه إله قاهر.

ب) وتأسيساً على الجبرية الصوفية فإن السعي للرزق والتدبير من أجل المعاش ـ شرك ـ في عقيدة الصوفية . وقد أتاحت السيطرة الصوفية في العصر المملوكي لابن عطاء أن يعلن ذلك بوضوح وتفصيل في كتاب خاص ، وهو ما ألمح إليه الغزالي من قبل ، ودار حوله بالرمز والأقاصيص. يقول ابن عطاء عن التدبير من أجل الرزق ( إن من ادعى الاختيار مع الله تعالى فهو مشرك مدع للربوبية بلسان حاله )[22].. وهذه العبارة تمشي على طريقة الغزالي في إيراد الكلمات التي تحتمل الوجهين، ولا تخلو من مغالطة وتناقض. فمن يدبر للمعاش لا يدعي بأى حال أنه بذلك يتدخل في اختيار الله بل يمتثل لأمره في السعي للرزق بالتفكير والعمل. فالمغالطة تتمثل في اعتباره مشركا مدعيا للربوبية، والتناقض في أن ذلك الوصف ينطبق على الصوفية ومن ادعى الاتحاد بالله صراحة أو ضمنا ، لا على المطيعين لأمر الله تعالى في شأن السعي للمعاش وتعمير الأرض .

ويقول ابن عطاء : ( أن التدبير والاختيار من كبائر القلوب والأسرار، والتوبة هى الرجوع إلى الله تعالى من كل ما لا يرضاه لك، لأنه شرك بالربوبية وكفر لنعمة العقل، ولا يرضى لعباده الكفر)[23].

وقد صدق ابن عطاء حين اعتبر التدبير(من كبائر القلوب والأسرار) أى أنها كبائر عند أصحاب القلوب والأسرار. أى الصوفية.. فذلك شرع الصوفية لا شرع الله تعالى، والمؤمن ليس مطالباً إلا بشرع الله تعالى.

إلا أن ابن عطاء افترى على الله كذباً إذ اعتبر التدبير للرزق- المأمور به شرعاً فى الإسلام- شيئاً لا يرضى به الله تعالى وأن التوبة هى الرجوع إلى الله تعالى من كل ما لا يرضاه.  ويحتمل أنه ألمح إلى الإتحاد بقوله( والتوبة هى الرجوع إلى الله تعالى من كل ما لا يرضاه لك).. ذلك أن الصوفية يفسرون الرجوع إلى الله بالعودة إلى الأصل الإلهى وفق عقيدة الإتحاد ونفخ الروح الإلهية عندهم فى الإنسان (ونفخت فيه من روحى..) وعلى ذلك فالقراءة الصوفية لعبارة ابن عطاء تعنى أن التوبة عن لوازم البشرية معناها أن نرجع إلى الأصل الإلهى الذى لا يرضى لأوليائه المتحدين به أن يختاروا معه غيره من المخلوقين فى شأن الرزق أو غيره. فالصوفى لا يرى الأسباب إذ لا يرى غيره. وإذا فعل كان مشركاً..

وقد كرر ابن عطاء هذا المعنى فى أكثر من موضع. يقول إن التدبير والإختيار من أشد الذنوب والأوزار)[24] . ويقول شعراً[25]:

اتحكم تدبيراً وغيرك حاكماً    أأنت لأحكام الإله تنازع

ويقول( اعلم إن التدبيرمع الله عز وجل عند أولى البصائر إنما هو مخاصمة للربوبية )[26]. ويفصح عن هدف ذلك بقوله: ( واعلم أن التدبير من أشد حجب القلوب عن مطالعة الغيوب)[27]. فالغيب لا يعلمه إلا الله، وأولئك طمحوا للغيب وادعوه افتراءاً على الله تعالى، وفى سبيل ذلك نادوا بالتخلى عن الإرادة البشرية ليكتسبوا الإرادة الإلهية، وينعموا بمعرفة الغيب وسائر ما اختص الله تعالى به نفسه من تصرف فى الكون .

ج) وابن عطاء ينهج نهج الغزالى فى ربط التصوف بالإسلام. ودفعه ذلك للوقوع فى المغالطة والتناقض والتجاهل. ففى شرحه للآيات التى تدل فى ظاهرها على الجبرية يتناسى الآيات القرآنية التى تصرح بمسئولية البشر على ما يفعلون وينوون. ثم بالغ وغالط فاعتبر تدبير الرزق خروجاًعن إرادة الله تعالى ومنازعة له فى ملكه، مع أن الساعى فى أسباب الرزق مهما بلغ كفره – لا يتصور أن سعيه للرزق فيه خروج على إرادة الله ومنازعة للمالك تعالى. بل إن ذلك الساعي للرزق قد يكون مشركا  يتقرب إلى الله تعالى بعبادة الوسائط ظناً منه أنه  بذلك يحسن صنعاً وأنه بذلك يستجلب رضى الله ونعمائه وخيره.

  وذلك التغالي في التفسير والتأويل لا نجد فيها توسطاً أبداً . فإما تواكل وقعود وتبطل وإما إساءة الظن بالسعي والتسبب واعتباره شركاً أو على الأقل عملاً دنيوياً بلا دين.. وقد تناسوا أمر الإسلام لأتباعه بالتوكل على الله تعالى مع السعي في أرضه بالتعمير الحلال والرضى بما يقدره الله تعالى وما يتنزل من رزقه ونعمائه ..

  يقول ابن عطاء داعياً للتواكل متناسياً لأمر الله تعالى بالسعي في تحصيل الرزق ( شيء ضمنه الله لك فلا تتبعه، وشيء طلب منك فلا تهمله، فمن اشتغل بما ضمن له عما طلب منه فقدم عظيم جهله واتسعت غفلته، وقل ما يتنبه لمن يوقظه، بل حقيق على العبد أن يشتغل بما طلب منه عما ضمن له)[28].  هنا يغالط ابن عطاء ، حين اعتبر أمر الرزق وضمان الله يعني القعود والانتظار حتي يدخل الرزق إلى فم الصوفي دون عناء.وغالط ابن عطاء حين فرق بين أمر الله تعالى بالعبادة وأمره  بطلب الرزق. فالمسلم مأمور بالإثنين معاً ، وكما هو في انتظار ضمان الرزق في الدنيا نظير السعي لأجله فهو أيضاً ينتظر المثوبة في الآخرة على العبادة . فالله تعالى تفضل برزقه على الساعين في الدنيا كما تفضل بجنته على العباد المطيعين . وطاعة الله تعالى لا تتجزأ في رزق أو صلاة . وإذا كان ثمة تسامح مع المتبطلين والكسالى فقد لا يكون مجال للتسامح مع من يعتقد ان دينه في التبطل ويدعي ان الله تعالى لا يرضيه إلا ذلك ، لأن ذلك سبب تخلفنا وعجزنا ، هى ثقافة الفقر والخمول والتبلد التى نشرها التصوف.

د) وقد أتت دعوة ابن عطاء أكلها في المجتمع المصري ،وما أسرع الاستجابة  للتواكل والقعود إذا كان يعني  الإرتزاق الرغيد بلا تعب أو نصب. وساعد على نشر دعوته ما اتسمت به عباراته من بلاغة التعبير وموسيقى في اللفظ، فتناقل الناس عباراته وحفظوها خاصة الشاذلية، وهم يرددون حتى الآن أقواله في الحكم العطائية، ومنها : ( إرادتك التجريد مع إقامة الله تعالى إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية ، أرح نفسك من التدبير فما قام به غيرك لا تقم به لنفسك . اجتهادك فيما ضمن لك وتقصيرك مما طلب منك دليل على انطماس البصيرة منك)..

  والشعراني بعد ابن عطاء بأكثر من قرنين ونصف القرن،يقول متأثراً به ( ومن آدابهم – يعني أشياخ التصوف – لا يعتمدون على كسبهم فإن الاعتماد على الكسب شرك بالله )[29]..

ويلفت النظر أن الجنبد والغزالي وابن عطاء والشعراني يمثلون مدرسة الاعتدال والتوسط في الطريق الصوفي.. فما بال الآخرين ممن تطرف؟؟

وبعد جعل التواكل والتبطل دينا فلا بد له من تشريع .!

 

     

 تشريع التواكل فى دين التصوف

ولأن التبطل أضحى في عرفهم ديناً فقد أحاطوه بالتشريعات والأحكام كما يفعل الفقهاء في أمور الدين السنى .

1- والغزالي استخدم علمه بالفقه السنى ليشرع للصوفية في أحوال التبطل بعد أن وصفه بالتوكل وجعل له مقامات ، ومنها مقام ( الخواص) ذلك الرائد الصوفى الذي كان يدور في البوادي بغير زاد اعتماداً على أن الله تعالى سيبعث له في الصحراء بالزاد والماء ( والمقام الثاني من التوكل أن يترك الكسب في الأمصار منتظراً أن يسخر الله سكان البلد ليطعموه )[30]..

وفي موضع آخر يقول الغزالي (ولقد أحسن الشاعر حيث يقول..

جرى قلم القضاء بما يكون      فسيان التحرك والسكون

جنون منك ان تسعى لرزق    ويرزق في غشاوته الجنين..

  ثم يقول عن البالغ القادر على الكسب ( إن كان هذا القادر بطالاً فقد صدقوا، فعليه الكسب ولا معنى للتوكل في حقه، فإن التوكل مقام من مقامات الدين يستعان به على التفرغ لله تعالى . فما للبطال والتوكل..)[31]. ، فقد جعل التبطل ديناً يستعان به على التفرغ لله– ويعني بذلك الاتحاد لا العبادة الإسلامية ، وقد عهدنا الصوفية يهملون الصلاة والفرائض ، والغزالي نفسه اعتبرها معوقاً عن الهدف الأسمى للصوفية وهو الاتحاد أو المجالسة مع الله تعالى..

ونتابع الغزالي في تقعيده لأحكام التواكل والتبطل ، فيقول (وإن كان مشتغلاً بالله ملازماً لمسجد أو بيت وهو مواظب على العلم والعبادة فالناس لا يلومونه في ترك الكسب ولا يكلفونه ذلك ، بل اشتغاله بالله تعالى يقرر حبه في قلوب الناس حتى يحملون إليه فوق كفايته، وإنما عليه أن لا يغلق الباب ولا يهرب إلى جبل من بين الناس . وما رؤى إلى الآن عالم أو عابد استغرق الأوقات بالله تعالى وهو في الأمصار فمات جوعاً، ولا يرى قط . بل لو أراد ان يطعم جماعة من الناس بقوله لقدر عليه). أى أن الغزالي أخرج عن دائرة التواكل غير الصوفية بحجة أنهم قادرون على الكسب، ولم يطبق ذلك الشرط على الصوفية بحجة اشتغالهم بالله والعلم، وقد عرفنا جهدهم في العبادة، وبقي أن نقرر أن العلم المقصود عند الصوفية هو العلم اللدني الذي يهبه الله – بزعمهم – للصوفي بلا واسطة وذلك حين ينكشف عن قلبه الحجاب فيعلم الغيب ويقرأ اللوح المحفوظ.. ومعلوم أن ذلك ادعاء باطل..

  ويقول الغزالي عن الصوفية المتبطلين في الخوانق والربط ( واعلم أن الجلوس في  رباطات الصوفية مع معلوم (راتب) بعيد من التوكل ، فإن لم يكن معلوم ووقف وأمروا الخادم بالخروج للطلب ( أى للتسول) لم يصح معه التوكل إلا على ضعف،  ولكن يقوى بالحال والعلم كتوكل المتكسب، وان لم يسألوا ( أى يتسولوا )  بل قنعوا بما يحمل إليهم فهذا أقوى في توكلهم، ولكنه بعد اشتهار القوم بذلك (أى بعد اشتهار الصوفية بالقعود فى الخوانق والتسول) فقد صار لهم سوقاً (أى أصبحت لهم حرفة) فهو كدخول السوق )[32]. أى إعتبر الغزالى التبطل فى الخوانق ــ والعيش فيها عالة على الناس ــ حرفة مثل من يدخل السوق يبتغى الرزق.

  والتفت الغزالي إلى الناس غير الصوفية والمسخرين ــ فى نظره ــ للإنفاق على الصوفية فأوسع لهم جانباً في تشريع التواكل باعتبارهم الجزء الهام في القضية . فجعل من محبي الله ( الذي يتصدق بأمواله لله ويجمع الضيفان ويهيء لهم الأطعمة اللذيذة الغريبة تقربا إلى الله .. فهو في جملة المحبين لله، وكذا لو أحب من يتولى ايصال الصدقة إلى المستحقين فقد أحبه في الله)[33]. وعند الغزالى فالصوفية هم المقصودون بالولائم ، وقد كانوا نجوم الموائد والموالد ــ ولا يزالون . وعند الغزالى ايضا فهذا تصدق لوجه الله . والغزالى لم يأت بجديد ، فقد سبقه الجاهليون الذين كانوا يقدمون النذور للأولياء أساسا ، ثم عند تقديم الصدقات لوجه الله يتوجهون بها أيضا للأولياء بصفتهم الواسطة ، وكل ما يقدمونه هو أصلا رزق من عند الله جل وعلا يقول جل وعلا عن هذا الافتراء : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) الانعام  )

2- وفي العصر المملوكي جعل ابن عطاء من اسباب اسقاط التدبير، أى السعى فى المعاش : (اشتغال العبد بوظائف العبودية التي هى مغياة بالعمل لقوله( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) فإذا توجهت همته إلى رعاية عبوديته شغله ذلك عن التدبير لنفسه والاهتمام لها . قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله تعالى: اعلم أن لله تعالى عليك في كل وقت سهماً في العبودية ، يقتضيه الحق سبحانه وتعالى منك بحكم الربوبية. والعبد مطالب بذلك كله ومسئول عنه وعن أنفاسه التى هى أمانة الحق عنده ، فأين الفراغ لأولي البصائر عن حقوق الله تعالى حتى يمكنهم التدبير لأنفسهم والنظر في مصالحها باعتبار حظوظها ومآربها ، ولا يصل أحد إلى منة الله إلا بغيبته عن نفسه وزهده فيها .. فبحسب غيبتك عن نفسك فناءاً عنها ، يبقيك الله به)[34]. . أى أن الصوفي مطالب – من دون الناس – برعاية حق الله تعالى. وذلك من شأنه التفرغ.  فأين الفراغ إلا في التبطل ؟ ثم أن هذا الحق المزعوم  المطالب به الصوفي هو ( الغيبة عن النفس) أى الإنجذاب لله تعالى والاتحاد به، وعلى أساس ذلك يكون بقاء الصوفي بالله بزعمهم ، أى إتحاده بالله جل وعلا عن ذلك علوا كبيرا.  والناس مطالبون بالإنفاق على  الصوفي وكفالته حتى ينعم بالاتحاد بالله أطول فترة ممكنة. يقول ابن عطاء( فحسب غيبتك عن نفسك فناءا عنها يبقيك الله به، لذلك قال الشيخ أبو الحسن أيها السابق إلى سبيل نجاته السائق إلى حضرة جنابه، أقلل النظر إلى ظاهرك إن أردت فتح باطنك لأسرار ملكوت ربك)[35].

فهدف التواكل عند الصوفية هو تحقق اتحادهم المزعوم بالله تعالى ، وذلك ما ألمح إليه الغزالي وصرح به الشاذلي وابن عطاء..

حسنة وأنا سيدك :

 لم نجد عنواناً مناسبا لوصف إستعلاء الصوفية المتسولين للناس الذين ينفقون عليهم ــ إلا هذا المثل الشعبي المصري ( حسنة وأنا سيدك ) وهو مثل متأثر قطعا بأحوال الصوفية الذين عاشوا عالة على الناس مع إستعلائهم على الناس .      

1- فالصوفي يتمتع باعتقاد الناس فيه وبحظوته عند الله تعالى بزعمهم ، ولذلك تنهال عليه ( الفتوحات) والهبات من مالية وعينية ليتمتع الأتباع بنظرة اهتمام من شيخهم صاحب التصريف والمدد  ..

والصوفي – كما سبق – يتفرغ لمهمة الاتحاد بالله والجلوس في حضرته – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ ويرى أن تجرده لهذه المهمة يتطلب أن يستريح من هم المعاش وتدبير الارتزاق ..

والعقيدة الصوفية تؤمن بالجبرية، أى أنهم ارتضوا التخلي عن إرادتهم في نظير التمتع بالإرادة الإلهية، أما بالنسبة للآخرين فهم يجبرون على إعاشتهم والإنفاق عليهم لينالوا شيئاً من بركات الصوفي ومدده ..  والأساس هنا هو إعتبارهم آلهة ومن ذلك المكان العالى ينظرون إلى الأتباع الذين يتقدمون إليهم بالأموال والطعام.

2- وقد عبر الغزالى عن هذه النظرة حين افترى حديثاً زعم أنه جرى بين الله تعالى وموسى عليه السلام. يقول الغزالى الكذاب :( قال موسى يا رب لما جعلت رزقى على أيدى بنى اسرائيل يغدينى هذا يوماً ويعشينى هذا يوماً ؟ فأوحى الله إليه : هكذا أصنع بأوليائى أجرى أرزاقهم على أيدى البطالين من عبادى ليؤجروا فيهم )[36]. ومطلوب من القارىء أن يصدق هذا الافتراء ، ويصدق أن الغزالى سمع هذا الحوار الذى دار بين رب العزة جل وعلا وموسى عليه السلام ، أى إن أبا حامد الغزالى كان فى عصر موسى يسترق السمع ..نحن فقط نتساءل ، وهكذا يفعل أولو الألباب ، أما الذين لا يعقلون فهم يبتلعون كل إفتراءات الغزالى وغيره مؤمنين بها . ويعقب الغزالى على ذلك إفترائه السابق بنتيجة ، يقول : ( فلا ينبغى أن يرى المعطى إلا من حيث هو مسخر ومأجور من الله تعالى)[37]. . فالمعطى المتصدق هو كالحيوان مُسخّر ومأجور ــ أجير ـ للصوفى الأعلى مقاما . و الغزالى فى تشريعه الصوفى لم يقترف فقط الإفتراء على الله تعالى – وهو إثم عظيم- بل ضمّن ذلك إساءة موجهة لله تعالى حين جعل الله تعالى يصف المحسنين بالبطالين وينعت القاعدين بأنهم الأولياء. وكلمة ( البطالين ) مصطلح صوفى لم يكن معروفا قبل العصر العباسى .    

3- وتفضيل الصوفى الآخذ على المحسن إليه ورد كثيراً فى كتاب التنوير.لابن عطاء السكندرى:  

أ) فابن عطاء جعل من فوائد التكسب والأسباب أنها تعين الصوفية المتواكلين على معيشتهم يقول( الفائدة الرابعة : إن فى الأسباب والقيام بها رحمة بالمتجردين، ومنةَ من الله على المتوجهين لطاعته والمتفرغين لها..فكيف كان يصح لصاحب الخلوة خلوته ولصاحب المجاهدته مجاهدته، فجعل الحق تعالى الأسباب كالخدمة للمتوجهين إليه المقبلين عليه)[38].. ( التجرد ) فى مصطلحات التصوف يعنى التفرغ للعبادة الصوفية ، وما يعنيه هذا من التبطل والقعود عن السعى للرزق . والعبادة عندهم هى ( المجاهدة ) فى التخلص من البشرية للإتحاد بالله بزعمهم ، وهذا يستدعى ( الخلوة ) .  وقد يقول عاقل إن الفضل يرجع للمتسببين الساعين فى طلب الرزق الذين كفلوا الصوفية وأعانوهم على طاعتهم ومجاهداتهم المزعومة .. إلا أن ابن عطاء ينكر ذلك ويجعل المتجرد للعبادة الصوفية المتواكل أفضل من المتسبب المعطي حتى لو كان على درجة واحدة من المعرفة بالتصوف . يقول ( لعلك تفهم من هذا الكلام إن المتجرد والمتسبب في رتبة واحدة ، وليس الأمر كذلك، ولن يجعل الله من تفرغ لعبادته وشغل أوقاته به كالداخل في الأسباب، ولو كان فيها متقناً، فالمتسبب والمتجرد إذا استوى مقامهما من حيث المعرفة بالله فالمتجرد أفضل، وما هو فيه أعلى وأكمل، ولذلك قال بعض العارفين: مثل المتسبب والمتجرد كعبدين للملك قال لأحدهما :اعمل وكُل من كسب يدك، وقال للآخر: إلزم انت حضرتي وخدمتي وانا أقوم لك بما تريد، فهذا قدره عند السيد أجلُ ، وصنعه به ذلك على العناية به أدل)[39]. . ولا ريب أن ذلك افتراء على الله تعالى ووصف له بالظلم.

ب) والأساس في هذه النظرة الصوفية أنهم ينظرون للآخرين أو (الأغيار )،المنفقين عليهم على أنهم قد سخروا لخدمتهم ، ولأن عقيدة وحدة الوجود الصوفية تجعل الصوفي لا يرى إلا الله فالصوفي البطال لا يرى فيمن يطعمه وينفق عليه إلا مجرد سبب وآداة سخرت لإطعامه وهو ساكن مستريح ، فالمال مال الله واؤلئك هم عبيده وما يفعلونه (لأولياء الله) فرض عليهم خلقهم الله من أجله ، فلا فضل لهم ولا يستحقون حتى كلمة شكر.

وترسب فى الضمير الشعبى حتى الآن أن يُقال عن الصوفية أنهم ( اهل الله )، وهو تعبير كافر باغ ظالم ، لأن الأهل هم الزوجة والولد ، وتعالى الله جل وعلا أن يكون له ولد أوصاحبة . ولكن يتردد هذا المصطلح الكافر الظالم كثيرا فى التراث الصوفى ، ومنه فيما يخص موضوعنا قول ابن عطاء : (.. وكذلك أهل الله لا يأكلون إلا على مائدة الله ، أطعمهم من أطعمهم ، لعلمهم أن غير الله تعالى لا يملك معه شيئأً ، فيسقط بذلك شهود الخلق عن قلوبهم، فلم يصرفوا لغير الله حبهم، ولا وجهوا لمن سواه ودهم ، إذ رأوا أنه هو الذى أطعمهم ومنحهم من فضله وأكرمهم. قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله يوماً:"إن نحن لا نحب إلا الله تعالى" أى لا يتوجه الحب منا إلى الخلق ، فقال له رجل: قد أبى ذلك جدك يا سيدي بقوله: عليه الصلاة والسلام " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها "  فقال: نعم نحن قوم لا  نرى المحسن إلا الله تعالى ، فلذلك جبلت قلوبنا على محبته أ.هـ  ومن رأى أن المطعم هو الله سبحانه وتعالى تجدد عنده مزيد الحب على حسب ما يتجدد من تناول النعم.. ومن رأى أن الله هو المطعم له صانته هذه المطالعة عن الذل للخلق ، أو انه يميل قلبه بالحب بغير الملك الحق..)[40].

ج) ولعقيدة الجبرية الصوفية جانب في ذلك الإستعلاء الصوفي على من يحسن إليهم.. يقول ابن عطاء (فعليك أيها المريد برفع همتك عن الخلق،ولا تُذلّ لهم في شأن الرزق ، فقد سبقت قسمته وجودك، وتقدم ثبوته ظهورك . واسمع ما قاله بعض المشايخ : أيها الرجل: ما قدر لماضغيك أن يمضغاه فلابد أن يمضغاه، فكله ويحك بعز ولا تأكله بذل)[41].

د) ومن دواعي الاستعلاء الصوفي على المحسن إليهم ان الأخير يتقرب إليهم بذلك الاحسان أملاً في أن يشملوه بنظرة أو مدد حسب الاعتقاد السائد في تصريف الصوفي وحظوته عند الله – تعالى عن ذلك علواً كبيراً – لذا فإن ابن عطاء يشير إلى ذلك على إستحياء حين يقول ( ووجود أهل الفاقة من نعمة الله على ذوي الغنى، إذ وجدوا من يحمل عنهم أزوادهم إلى الدار الآخرة، وإذ وجدوا من إذا أخذ منهم أخذ الله منهم [42]) وجاء ذلك المعنى صريحاً في كتب المناقب – وهى دائماً صريحة – إذا قالوا في شرح عبارة : ( اليد العليا خير من اليد السفلى) إن اليد العليا هى يد الفقير الصوفي (لأنها تعطي الباقي)[43]. اى في الآخرة..

4- ومن مصطلحات التصوف ( الفقر ) ومن أوصاف الصوفية ( الفقراء ) ويقال للصوفى ( فقير ) . والفقير الصوفي مختلف تماماً عن الفقير العادي الذي يستحق الصدقة . كما أن الهدايا أو (الفتوحات) التي ينالها الصوفي من أتباعه تختلف عن الصدقة التي يستحقها أربابها المذكورون في قوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) التوبة).

فالأساس الذى تقدم على أساسه الهدايا للصوفي هو الاعتقاد في ألوهيته والأمل في تصريفه وشفاعته ، وذلك خارج النطاق الإسلامي تماماً..

  وإذا بحثنا له عن مثيل في آيات الذكر الحكيم فسنجدها في المواضع التى تصف دين الشرك وممارساته حين كان المشركون يتقدمون للولي بالنذور في حياته أو بعد موته ، وندد رب العزة جل وعلا بموقفهم ذلك حين أعرضوا عن الله تعالى الولي واختاروا لأنفسهم ولياً يقومون هم بإطعامه، مع أن الله هو الذي يطعم الجميع، يقول جل وعلا : ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (14) الأنعام ). من هذا المنطلق يمكن أن نفهم لماذا يتعالى الصوفي على من يعطيه ويعتقد أنه اليد العليا.. وأن ذلك المعطي لا وجود له في حسابه او ذهنه، وإنما هو مسخر في خدمته شأن العبيد الذين خلقهم الله جل وعلا لطاعته، مع أن الله سبحانه وتعالى هو المستحق وحده لذلك ،فهو وحده الخالق الرازق ، يقول رب العزة جل وعلا : (  وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)  الذاريات ) . وقد ذكرنا قبلاً في مبحث تصريف الولي أنهم اعتقدوا أن الولي واسطة في الرزق.. فماذا أبقوا لله سبحانه وتعالى؟؟..

5- والصوفي إذا كان متبطلاً تاركاً للحرفة والتسبب فمن أين يعيش؟ ولقد كثر انخراط أهل الحرف  في التصوف في عصر الشعراني بشكل يهدد إنقراض السعى على الرزق ، وبالتالى عدم وجود متصدقين  ينفقون علي الشعرانى وعلى بقية شيوخ التصوف . وفطن الشعرانى لهذا الخطر الذى غفل عنه بقية الشيوخ الصوفية فى عصره .  لذا افتخر الشعرانى بأنه يحثُّ الناس على التمسك بالحرف التى يعملون بها وعدم تركها ليصبحوا مريدين عاطلين يزاحمون الشيوخ فى الارتزاق .  يقول الشعرانى : ( وهذا الخلق قليل من يتنبه له من متصوفة الزمان ، بل يزينون لمن يجتمع بهم ترك الاشتغال بالحرفة.. ثم هم بعد ذلك على قسمين: أما أن الشيخ يصير يطعمهم من الصدقات وأما أن  يصيروا يسألون الناس)[44]..

فالتواكل وترك التسبب صيَر الصوفية متسولين ونشر التسول في العصر المملوكي .

وندخل بهذا على التسول بعد التبطُّل .

 

                   

  ثانياً : بين التصوف والتسول

تشريع التسول فى الدين الصوفي

  1- بإسقاط التدبير للمعاش استراح الصوفية من عناء يقاسي منه كل انسان يقول السوسي (المتوكلون (يقصد الصوفية) تجري أرزاقهم على أيدي العباد بلا تعب منهم، وغيرهم مشغولون مكدودون )[45]. وأغرم الصوفية بطعام الولائم لأنه جاهز للبلع والمضغ ، وفضلوه على ما يأتي من طعام يحتاج لإعداد وتجهيز، يقول في ذلك بعضهم ( أنا لا أجيب الدعوة إلا لأنني أتذكر بها طعام الجنة،أى هو طعام طيب يحمل عنا كده ومئونته وحسابه )[46]. فصاحب الوليمة يعاني في الدنيا فى احضار الطعام ويعاني في الآخرة على ما كسبت يداه ، والصوفي مستريح من عناء الدنيا وحساب الآخرة. هكذا يفكر الصوفية . بل إن الغزالي تطوع لهم بإفتراء حديث قدسي يشرح هذا المعني الغريب العجيب ،يقول ( يروون أن الله تعالى قال : يا ابن آدم لو كانت الدنيا كلها لك لم يكن لك منها إلا القوت، وإذا أنا أعطيتك منها القوت، وجعلت حسابها على غيرك فأنا إليك محسن )[47]. وكعادته السيئة لم يذكر الغزالى من الذى روى ، وكيف سمع هذا الراوى كلام رب العزة جل وعلا .!!. وكعادته السيئة أيضا فإن الغزالى يفترى ما يشاء وهو يعلم أنه هناك من يصدقه من المعتوهين ، ولا يسأله عما يقول برهانا .!!

2- وفي العصر المملوكي كان المرسي يقول في حزبه (وسخر لي أمر هذا الرزق،واعصمني من الحرص والتعب في طلبه ، ومن شغل القلب وتعلق الهم به ، ومن الذل للخلق بسببه، ومن التفكير والتدبير في تحصيله..)[48]،وقد شرح ابن عطاء هذه العبارة في (التنوير) يقول (وأما التعب  في طلبه فإما أن يكون تعب الظواهر ويكون الاستعاذة منه إلى الله تعالى لأنه إذا استولى على الطالب للرزق التعب في الظاهر شغله ذلك عن القيام بالأوامر،والرزق مع الراحة فيه إعانة على التفرغ إلى طاعة الله تعالى والقيام بخدمته، وإن كان التعب هو تعب القلوب لا تعب الظواهر فهو أولى بأن يستعاذ منه)[49]. . وقد قلنا من قبل أن عبادة الصوفية هى الزعم بالاتحاد والحلول فى خلوات يمارسون فيها الانحلال الخلقى .

فقه التسول كأصل في التصوف :

   1- ارتبطت بداية التصوف بتشريع التسول، يقول بشر بن الحرث (ت227هـ) احد الرواد الأوائل للتصوف (الفقراء ثلاثة : فقير لا يسأل وإن أعطى لا يأخذ فهذا مع الروحانيين في عليين، وفقير لا يسأل وإن أعطي أخذ فهذا مع المقربين في جنات الفردوس، وفقير يسأل عند الحاجة فهذا مع الصادقين من أصحاب اليمين)[50]. وفي ذلك الوقت كان الصوفية افرادا متفرقين.وكانوا يتعيشون أساساً على التسول، ولأنهم أصحاب دين كان لا بد من ربط نشاطهم فى التسول بعناصر دينية تشمل التشريع والأحكام كما فعلوا مع التواكل والتبطل..

2- وتشريع التسول في دين التصوف لابد أن يأخذ طابع الافتراء واختلاق الأدلة لمشروعيته . ولأن التسول له ركنان :المحسن والمحسن إليه ، فقد توجه التشريع الصوفي للجانبين في نفس الوقت حاثاً على التسول مشجعاً عليه..

أ) فالتشريع الموجه للصوفية المتسولين قد يأتي بصورة الأمر المباشر كقول الغزالي: ( انتهى المريدون لولاية الله تعالى في طلب شروطها لإذلال النفس إلى منتهى الضعة والخسة،حتى روى أن الكريبي استاذ الجنيد دعاه رجل إلى طعام ثلاث مرات، ثم كان يرده ، ثم يستدعيه فيرجع إليه بعد ذلك ، حتى أدخله في المرة الرابعة. فسأله عن ذلك ، فقال: رُضتُ نفسي على الذل عشرين سنة حتى صارت بمنزلة الكلب يطرد فينطرد، ثم يُدعى  فيُرمى إليه عظم فيعود ، ولو رددتني خمسين مرة، ثم دعوتني بعد ذلك لأجبتك ) [51]  ) . ولا شك أن هذا الإذلال وتلك الخسّة والضعة ليست من الإسلام في شيء.إذ تقوم ولاية الله على أساس من العزة( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) المنافقون ) فهو إذن دين جديد وتشريع مبتكر يجعل بدايته إذلال النفس البشرية والإنحدار بها إلى مستوى الكلب الذي يُطرد فينطرد ثم يعود إذا رُمى إليه عظم..

  وقد يأتي دليل المشروعية للصوفية على شكل هاتف منامي، يقول ممشاد الدنيوري: ( كان علىّ ديْن واشتغل قلبي بسببه فرأيت في المنام قائلاً يقول: يا بخيل أخذت علينا هذا المقدار من الديْن، خذ، عليك الأخذ وعلينا العطاء.. يقول: فما حاسبت بعد ذلك بقالاً ولا قصَاباً ولا غيْرهما )[52]. فهو تشريع للإحتيال على الناس باسم الدين ( دين الهاتف والمنام)، وكانت تلك البداية لما اشتهر به الصوفية فيما بعد..من (الإنفاق من الغيب)..

ب) ويفهم من قول ممشاد السابق أنه يتوجه به ضمناً إلى الناس من بقالين وقصَابين ممن وقع عليهم عبء كفالة الصوفية وإعاشتهم. والواقع أن التشريع الصوفي توجه أساساً إلى غير الصوفية فهم المطالبون بالإحسان والإنفاق . ومع أن آيات الحث على الإنفاق والإحسان وردت في القرآن الكريم مرات عديدة إلا أن نهم الصوفية للتسول – واعتبارهم إياه عنصراً أساسياً في معاشهم ودينهم  – جعلهم لا يكتفون بالتشريع الإسلامي في الزكاة والصدقة فامتدت أيديهم إلى الإختلاق والوضع ونشر الأحاديث الموضوعة التي تحض على الكرم وتنذر البخيل بالويل والثبور. وقد أورد الغزالي الكثير من هذه الأحاديث في (الاحياء) وقد صرح العراقي بأنها ضعيفة أو باطلة لا أصل لها،إى لم يقلها أحد قبل الغزالى ، أى إن الغزالى هو الذى صنعها وافتراها . وكان الغزالي يوردها في الدعوة للإحسان. والمستحق للإحسان في رأيه هم الصوفية ، ( وقد تركوا خلفهم الدنيا وطلبوا عظيماً .). ومن تلك الأحاديث المكذوبة (أن لله عباداً يختصهم بالنعم لمنافع العباد، فمن بخل بتلك المنافع على العباد نقلها الله تعالى عنه وحولها إلى غيره) و (إن الله يبعض البخيل في حياته السخى عند موته)و( الرزق إلى مُطعم الطعام أسرع من السكين إلى ذروة البعير) وغيرها[53].

ج) وحين راج أمر التصوف في عصر الغزالي وتمتعت المنامات الصوفية باهتمام وشيء من التصديق عند العامة، توجه الصوفية بالمنامات إلى الناس يحثونهم على الإحسان، في نفس الوقت الذي تقوم به تلك المنامات بالتشريع للصوفية في مقامات التسول. وتأتي تلك المنامات بصورة أقصوصة – والعامة تقع في هوى القصص خاصة إذا ما اكتسى بملامح الأقصوصة الصوفية من عاطفة ( أو : وجد ) بالمصطلح الصوفى ، مع إفتراء أحاديث منسوبة لرب العزة جل وعلا . من ذلك ما رواه الغزالي عن زاهد فارق بلده ( وأقام في سفح جبل سبعاً وقال : "لا أسأل أحداً شيئاً حتى يأتيني ربي برزقي" . فقعد سبعاً فكاد يموت ولم يأته رزق فقال: " يا رب إن أحييتني فأتني برزقي، الذي قسمت لي، وإلا فاقبضني إليك. "، فأوحى الله إليه:" وعزتي لا أرزقنك حتى تدخل الأمصار وتقعد بين الناس" .! فدخل المصر ، وقعد ، فجاءه الطعام ، فأكل وشرب، وأوجس في نفسه من ذلك فأوحى الله إليه : " أردت أن تذهب حكمتي بزهدك في الدنيا، أم علمت أني أرزق  عبدى بأيدي عبادي أحب إلىّ من أن أرزقه بيد قدرتي)[54].  هنا وحى زعم الغزالي حدوثه بين الزاهد والله تعالى . ومعروف أن دين التصوف يعتمد على مثل ذلك الافتراء في تشريع الأمور الخاصة به، وبالنسبة لهذا الوحي فقد شرع الغزالي به للصوفية أنه لا حاجة للتطرف في التواكل الذي دعا إليه بعضهم ،كأن يترك الأمصار ويمشي في الصحراء بلا ماء ولا زاد ، فالغزالي يدعو الصوفية بهذا الوحي المفترى إلى الجلوس في الأمصار والتسول من الناس، وحسب قوله (وما رؤى إلى الآن عالم أو عابد استغرق الأوقات بالله تعالى وهو في الأمصار فمات جوعاً، ولا يُرى قط) [55].. ولا ريب لتلك الأقاصيص أثرها في حث الناس على إكرام الصوفية...

د) ورددت المصادر الصوفية في العصر المملوكي بعض ذلك التشريع التسولي . فاليافعي أورد قصصاً كثيرة تحض على الإحسان للصوفية ، والأساس فيهاهو الوحي المفترى بين الله تعالى والصوفي[56]. على نسق ما أورده الغزالي آنفاً.

وورد في مناقب الحنفي أن بعض الأغنياء قدم إليه يطلب العهد والطريق ، أى الانخراط فى الطريقة الصوفية ( الحنفية ) وقتها ، فأمره شمس الدين الحنفى أولاً بالتخلي عن ماله، ثم بعد ذلك أمره بالشحاذة قائلا : ( إن كنت بايعتني على السمع والطاعة فالبس مرقعة  واخرج على قصد الشحاتة والسؤال من الناس وارجع إلىّ آخر النهار واعرض علىَ ما دخل لك من الشحاتة حتى أنظر إليه. قال: ففعلت ما أمرني به ).. ( وجعلت أدور في الأسواق والشوارع وأقف على الأبواب وأسأل الناس كما تسأل الفقراء والجعيدية )، وحين عرض الدرهم التى أعطيت له لم يرض الحنفي بها وأمره أن يعلق في رقبته مخلاة حتى يعطوه كسيرات وبصلات (قال : فهذه شحاتة الفقراء )[57].  فما فعله الحنفي بمريده الغني يقصد به أن يذل نفس ذلك المريد الغني تأسياً بابن الكيربي الذى حاول أن يصل بنفسه إلى مقام الكلاب في الضعة والذل، وذلك تشريع صوفي بالتسول بالأمر المباشر الصريح ..

3- وبعد اختلاق الأدلة لمشروعية التسول في دين التصوف كان تفصيل الأحكام لفقه التسول. وقد مرّ بنا أن بشر بن الحرث جعل مقامات للتسول ودرجات للصوفية المتسولين (الفقراء ثلاثة: فقير لا يسأل وإن أُعطى لا يأخذ ، فهذا مع الروحانيين في عليين، وفقير لا يسأل وإن أُعطى أخذ ، فهذا مع المقربين في جنات الفردوس، وفقير يسأل عند الحاجة ، فهذا مع الصادقين من أصحاب اليمين)[58].

  ومع انتشار التصوف وظهور المؤسسات الخاصة بالصوفية كالربط والخوانق استلزم الأمر بعض التشريع قام به الغزالي بما له من دراية بالفقه السنى وأصوله فى التشريع .من ذلك ما يقوله بلهجة الفقهاء عن الصوفي المتجرد للعبادة بزعمهم ( فإن كان كذلك ألزمه الشيخ زاوية ينفرد بها ، ويوكل بها من يقوم بقدر يسير من القوت الحلال، فإن أصل طريق الدين القوت الحلال )[59].

بيد أن ذلك القوت الحلال الذى ينشده الغزالي لأهل طريقته كان متعذراً، فإنشاء المؤسسات الصوفية كان بيد الظلمة من الحكام تزلفاً ورياء – وذلك لا يتأتى منه قوت حلال – على فرض صحة الطريق الصوفي في التعبد بالتسول والقعود . إلا أن الغزالي يستخدم مصطلحات الفقهاء في التشريع للصوفية فيقول ( فإن أصل طريق الدين القوت الحلال) يخدع بذلك الفقهاء، مع أن التطبيق مستحيل كما أسلفنا. بل إن الغزالي نفسه اضطر للإعتراف بذلك حين قال عن القائمين بأمر الصوفية المتبطلين ( وقد تصدى لخدمة الفقراء جماعة اتخذوها وسيلة للتوسع في المال والتنعم في المطعم والمشرب ، وذلك هو الهلاك، ومن كان غرضه الرفق وطلب الثواب به، فله أن يستقرض على حسن الظن بالله لا على اعتماد السلاطين الظلمة )[60]. .

   ومع وضوح الإنكار في النص السابق فإن براعة الغزالي تظهر في تقريره – أثناء الإنكار – لقاعدة التسول الصوفي حين قال (ومن كان غرضه الرفق وطلب الثواب به فله أن يستقرض على حسن الظن بالله)، وأين يأتي (حسن الظن بالله) في الاقتراض عند الصوفية إلا على قاعدة ممشاد الدينوري التى أسلفنا إليها والتى يفتري فيها مناماً أدلى أن الهاتف الإلهي قال له فيه (يا بخيل أخذت علينا هذا المقدار من الدين، خذ، عليك الأخذ وعلينا العطاء .. فما حاسبت بعد ذلك بقالاً ولا قصاباًولا غيرهما )[61]. أى أنه استقراض بأكل أموال الناس بالباطل. والغزالي في موقف آخر يجعل من وظيفة خدم الصوفية أن يتسولوا بغرض إذلال النفس – وهو الهدف الأسمى – لابن الكريبي سالف الذكر،يقول الغزالي (خدام الصوفية في الربط يخالطون الناس بخدمتهم وأهل السوق للسؤال منهم كسراً لرعونة النفس)[62]..

   إلا أن التطبيق لهذه القاعدة يظهر فسادها، لأن الفساد في أصل القاعدة ودين التصوف نفسه، وهكذا فإن الغزالي حين يفصّل في الصور التطبيقية للسؤال أو التسول،فإنه يظهر الوجه القبيح للتسول الصوفي في عصره، وقد انحط إلى درجة التحايل ، يقول :( ويتنزل أخذ السائل مع اظهار الحاجة كاذبا ًكأخذ العلوي بقوله  أنا علوي وهوكاذب  فإنه لا يملك ما يأخذه ، وكأخذ الصوفي الصالح الذى يُعْطى لصلاحه وهو في الباطن مقارف المعصية لو عرفها المعطي لما أعطى، وإن ما أخذوه على هذا الوجه لا يملكونه وهو حرام عليهم ويجب عليهم رده إلى مالكه) [63].

وتأبى براعة الغزالي إلا أن تظهر في هذا النص أيضا، فهو لم يعرض للصوفية المتسولين إلا بطريق غير مباشر، وحين عرض لهم بطريق التمثيل والاستدلال – على السائل الكاذب – فإنه اختص بنقمته وإنكاره الصوفي المقارف للمعصية ، وبذلك فإنه يقرر قاعدة التسول للصوفي غير المقارف للمعصية على فرض وجود ذلك الصنف بين الناس .والمهم أن التحايل في التسول الصوفي بدأ مع بداية التصوف واستشرى بزيادته كما سيظهر في كتابات الشعراني فيما بعد..

 

                                      

 الارتباط التاريخى بين التصوف والتسول :

بداية التسول الصوفي مع بداية التصوف:

1-   إفترى الغزالي حديثاً موضوعاً منسوبا للنبى يصف حال الصوفية الأوائل ويعدد خصائصهم ، يقول :(إن من خيار أمتي فيما أنبأني الملأ الأعلى، قوماً يضحكون جهراً من سعة رحمة الله تعالى، ويبكون سراً من خوف عذابه، مؤونتهم على الناس خفيفة، وعلى أنفسهم ثقيلة، يلبسون الخلقان ويتبعون الرهبان ، أجسامهم على الأرض وأفئدتهم عند العرش )[64]. فجعل  من سمات الصوفية الأوائل أنهم عالة على الناس (مؤونتهم على الناس خفيفة)..وقد لعب التسول دوراً في حياة الرواد الأوائل للتصوف، قد كان سري السقطي (يقول للصوفية: إذا خرج الشتاء فقد خرج آذار،وأورقت الأشجار ، وطاب الانتشار فانتشروا ..) أى إنتشروا فى الطرقات تسولا وسؤالا للناس . وتأسياً على ذلك فقد ( كان الخواص لا يقيم ببلد أكثر من أربعين يوماً)[65].

2- وبداية التصوف اعتماداً على التسول أمر طبيعي يتفق وطبائع الأشياء،ليس فقط لأن التواكل والقعود عقيدة صوفية أو لأن بعضهم أحب الدعة وآثر السكون على الحركة من أجل الرزق، ولكن أيضاً لأنهم كأتباع دين جديد نشطوا إلى نشره بين الأمصار، فعرف تاريخ الصوفية المبكر السياحة الصوفية والتزاور بين الأشياخ وتبادل الأفكار من مصر غرباً إلى أقصى إيران شرقاً. ولابد حينئذ أن تكون عدتهم التسول. وعليه فقد كان الخواص فى سياحته الصوفية ( لا يقيم ببلد أكثر من أربعين يوماً).. وعليه – أيضاً – يمكن ان نفهم بعض ما تحت السطور في الحديث المفترى الذى أورده الغزالي يصف حال الرواد الصوفية (مؤونتهم على الناس خفيفة، وعلى أنفسهم ثقيلة ، يلبسون الخلقان ويتبعون الرهبان) فقد اغرم الرواد الصوفية بالحديث مع الرهبان، واحتوت أقاصيص السياحة الصوفية كثيراً من الحوار بين الجانبين وتنتهي الأقصوصة ــ عادة ــ بإسلام الراهب على يد الصوفي ، وربما تحكى الاسطورة تفوق الصوفى بكراماته على الراهب ومعجزاته ، مما يجعل الراهب يعلن للصوفى إسلامه ، وبهذا تنتهى الاسطورة بالنهاية السعيدة شأن الأفلام المصرية .  ومعلوم ان الراهب أحيانا يعيش عالة على مجتمعه فالصوفية حين كانوا (يتبعون الرهبان)  فإنهم تبعوهم في أشياء كثيرة منها الرهبانية والتسول، وان كان بعض الرهبان  قد حول الأديرة إلى مواقع إنتاج وجنات من البساتين .

3- وابراهيم بن أدهم الرائد الصوفي الذى ترك – بزعمهم الملك – وتصوف وطاف في البلاد – لم يستنكف أن يمد يده للتسول من نصراني في قصة طويلة ذكرها  الغزالي [66]ثم اليافعي[67]في العصر المملوكي.

وبنان الحمال احتاج إلى جارية تخدمه فأرسلت له إمرأة من سمرقند بجارية هدية[68].. وعلى فرض صدق هذه الرواية فهى تدل على عمق الترابط بين الصوفية مهما تباعدت بينهما المسافات ..

4- وأصبح التسول من لوازم الصوفي في الأسفار والأمصار ، حتى كان الصوفي يحيى بن معين يقول (إني لا اسأل أحداً شيئاً، ولو أعطاني الشيطان شيئا لأكلته) فهجره أحمد بن حنبل وكانت بينهما صحبة طويلة ،فاعتذر يحيى وقال كنت أمزح.فقال: أتمزح بالدين؟![69]. وبعضهم كان يعيش عالة على عجوز تأتي له برغيفين كل يوم . ويقال عنها (تلك الدنيا امرها الله أن تخدم أبا عاصم ) [70]، أى تنكرت الدنيا  فى هيئة إمرأة عجوز كى تطعم ذلك الولى رغيفين ( حاف ) كل يوم ..فأين الغموس أيتها العجوز ؟ !!

5- وفي القرن السادس – بعد الغزالي – كثر تسول الصوفية في الخوانق . فقال عنهم ابن الجوزي ( منهم من يقدر على الكسب ولا يعمل، ويجلس في الرباط أو المسجد ويعتمد على صدقات الناس وقلبه معلق بطرق الباب ) أى يجلس منتظرا قدوم المحسنين ، ويقول ابن الجوزى عن أولئك الصوفية القاعدين متبطلين فى الخوانق : ( ولا يبالون من بعث إليهم فربما بعث إليهم الظالم والماكس فلم يردوه .. )[71].

أى يعيشون على صدقات تأتى من الظالمين ، ومن أموالهم الحرام . ويحكي إبن الجوزى عن نفسه ( ولقد دخلت بعض الأربطة فسألت عن شيخه فقيل لي : قد مضى إلى الأمير فلان يهنئه بخلعة، وقد خلعت عليه . وكان ذلك الأمير من كبار الظلمة فقلت : ويحكم ما كفاكم أن فتحتم الدكان حتى تطوفون  على رءوسكم بالسلع ، يقعد أحدكم عن الكسب مع قدرته عليه معولاً على الصدقات والصلات، ثم لا يكفيه حتى يأخذ ممن كان، ثم لا يكفيه حتى يدور على الظلمة فيستعطى منهم..) . ويقول : ( ولقد بلغنا ان بعض الصوفية دخل على الأمراء الظلمة فوعظه، فأعطاه شيئاً ، فقبله، فقال الأمير: كلنا صيادون وإنما الشباك تختلف..)[72]. . فالحاكم الظالم له ( شبكة ) حربية عسكرية يصطاد بها الأموال سلبا ونهبا ، والشيخ الصوفى له أيضا ( شبكة ) ناعمة يتسول بها بعض المال السُّحت من هذا الحاكم الظالم . وكل منهما يحتاج الآخر. الحاكم محتاج للولى الصوفى الذى يحظى بتقديس الناس ، والشيخ الصوفى محتاج الى حماية الحاكم الظالم وأمواله . الحاكم الظالم يركب الشيوخ ، والشيوخ يركبون الشعب . الحاكم يأخذ الأموال بالعسف والشيخ الصوفى يأخذ المال بالتسول . وفى عصر ابن الجوزى فى القرن السادس الهجرى نرى تسول الصوفية قد انتشر بانتشار التصوف فتعدى العامة وأهل الكتاب إلى الحكام، ويد الصوفية ممدودة للجميع ..ومنطقي أن يتعاظم التسول بتكاثر الداخلين في التصوف .. وقد رددت المصادر التاريخية والصوفية تسول الأشياخ الصوفية إذ لم يعد ذلك عيباً ..

تسول الأشياخ في المصادر التاريخية :

1- ففي المصادر التاريخية ذكر أن علياً اللحفي ( صاحب الكرامات ) ت783( كان يسأل الناس ويأخذ منهم)[73]. وقال المقريرزي عن الصوفي المشهور ابن عربى 830، انه كان فقيراً مملقا ًيتصدق عليه بما عساه يقيم رمقه، ويسد من خلته، وكان معتقداً بالشيخونية)[74]. أى خانقاة السلطان المملوكى المؤيد شيخ . وفي عصر المقريرزي  كان يكفي اشتهار أحدهم بالصلاح لكي تنهال عليه الصدقات ،فيقول عن شيخ صوفى مشهور وقتها بأنه : (زاهد الوقت أبو بكر الطريني): ( أنه لو قبل من الناس ما يحبونه لكنز قناطير مقنطرة من الذهب والفضة )[75].

    ويقول أبو المحاسن عن أحد معاصريه الصوفية وهو شمس الدين البلالي شيخ خانقاه سعيد السعداء (كان معتقداً وله شهرة كبيرة، وكان الوالد (والد أبي المحاسن) يحبه ويبره بالأموال والغلال وغير ذلك)[76]. أى أن البلالي  لم يكتف بأموال الوقف الموقوفة على أشهر  خوانق العصر – خانقاه سعيد السعداء – وهو شيخها المتحكم فيها إلا أن يده امتدت بالتسول إلى الأعيان والأغنياء، ومنهم الأمير المملوكى والد المؤرخ أبو المحاسن (ابن تغرى بردى ) . وكثيراً ما كان أبو المحاسن يصف الصوفية الآخرين – ممن لا يتمتعون باحترامه ـ بالتكدي[77]ـ أى بالتسول ..

    وللتسول – كأصل في التصوف – مقامات ودرجات كما سبق إيراده، ونلمح ذلك في قول السخاوي المؤرخ يمدح تسول درويش الأقصراني 857 بأنه ( كان لا يطلب من أحد شيئاً، بل أن جيىء له بشىء من أكل لا يتناول منه سوى ما يسد به رمقه ويترك الباقي ، وكان معتقداً ويزار قبره)[78]. وربما كان السخاوي متأثراً بالعادة المصرية الصوفية وهي تمجيد الصوفية بعد موتهم وتلمس محاسنهم ، وخاصة إذا( كان معتقداً ويزار قبره). ومهما يكن من أمر فإن درويش الأقصراني مدح بطريقته في التسول كما مدح المقريزي (زاهد الوقت أبو بكر الطريني) آنفاً.

   وقال ابن الصيرفي في معاصره ابن صالح الأزهري 876( كان يطلب من الأكابر الذهب والفضة فيبادرون بها له ، وله أولاد وحفدة وخدمة يحصل لهم بواسطته من الناس والحكام، وكان له مكاشفات وكلمات خوارق )[79]. وعليه فالتفاوت موجود، وهناك درجات للتسول حسب قناعة الصوفي أو جشعه.. ففي الوقت الذي يتسول فيه ابن صالح الأزهري الذهب والفضة له ولأتباعه فإن الآخرين يقنعون بتسول القليل بما يكفي الحاجة، ومثلهم على البليلي (بعد920) و ( كان يسأل الناس ويأكل، وكان يشد على بطنه سبعة)[80].

تسول الأشياخ في المصادر الصوفية:

   1- اقتصرت المصادر الصوفية على رصد حياة المشاهير من الصوفية أصحاب  الطرق والأتباع الكثيرين ممن استحقوا الإشادة بهم في الطبقات العامة أو كتب المناقب الخاصة .ففي مناقب الحنفي مثلاً قصة عن بداية الحنفي الصوفي حين ذهب مع أحمد الزاهد وابن الدخيل للشيخ حسن التستري لتلقين الذكر قال لهم ( لم لا جاء كل واحد منكم بفلسين ؟.. أما تعلموا أن الذى يجيىء بشىء تميل إليه النفس أكثر مما لا يجىء بشىء ؟ فقلنا : يا سيدي قد جهلنا ذلك. فقال لنا : إذا جيتم مرة أخرى أصحبوا معكم شيئاً من الزيت للمصابيح.. ففعلوا فألآن لهم الكلام )[81].

 2ـ   وكان الحنفي بعد اشتهاره  - متسولا كبيراً – وعلى أساس التسول كانت تعد مناقبه. ومن ذلك أنه قصد إلى جزيرة الروضة واستأجر مكارياً فقابله بعض الأمراء فعزمه وأعطاه ذهباَ، يقول كاتب المناقب (فقال سيدي الحنفي: يا سيدي ادفعه إلى المكاري فإنه ركبنا معه على الفتح وهذا رزقه ساقه الله إليه )[82]  ومعنى ذلك أن المكارى – أو الحمًار بتشديد الميم – لم يأخذ أجره من الحنفي، وعلقه الأخير على ما يأتي له من الفتوح. و( الفتوح)  مصطلح أو تعبير عن المال الذى يتسوله الصوفية . وقد بدا استعماله في عصر ابن الجوزي [83]. – فعد كاتب المناقب أن الحنفي تنازل للمكاري عن فتوحه تنفيذاً لذلك الشرط.. وهى لا شك منقبة تستحق الإشادة – إن كانت قد حدثت فعلاً..  

 وقد ذكر الشعراني في مناقب يوسف العجمي أنه كان (يقول لبواب زاويته بالقرافة إذا وفد شخص الباب فانظر من الشق إن رأيت معه شيئاً للفقراء فافتح له، وإلا فهى زيارات فشارات )[84]. وكان يوسف العجمي وحسن التستري متلازمين.. واتفقا على التسول من المريدين..

     3- وقد تطلق المصادر الصوفية على( الفتوحات) أو المال الآتي للصوفية تعبير(الهدايا) . ومن ذلك ما يقوله الشعراني في ترجمة الحنفي سالف الذكر( كان لا يشتري قط ملبوساً، إنما هو من هدايا المحبين )[85]. أو يقول عن الشيخ أحمد السطيحة ( كان الناس تقصد الشيخ أحمد السطيحة بالهدايا من سائر البلاد)[86].

   4- وكان التسول أحد الأنشطة الصوفية إنطلاقاً من قاعدة أن  التسول أصل في التصوف ، وسبق أن ذكرنا أن الحنفى أمر مريده الثرى بالتسول حتى يتعود حياة التصوف [87]، ومن ذلك ما قاله الشعراني عن الشيخ الشربيني ( كان من طريقته أنه يأمر مريده بالشحاتة على الأبواب دائماً في بلده، ويتعممون بشراميط البر السود والحمر والحبال[88]. ) ، ونقل ذلك عن الشعراني الغزي في الكواكب السائرة [89].

ومعنى مقالة الشعراني عن الشربيني (كان من طريقته أنه يأمر مريديه بالشحاتة) أن التسول أضحى ــ عملياً – من الأنشطة الأصيلة في الطريق الصوفي حتى أن البعض تخصص فيه وتميز بمظهر الشحاذين العاديين من ارتداء الخرق و(الشراميط) و (الشحاذةعلى الأبواب)..

  تسول الصوفية للصوفية :

     1- على أن أبرز ما يعبر عن قاعدة (التسول أصل فى التصوف) ما قام به بعض الصوفية من التطوع للتسول في سبيل الآخرين من الصوفية، فهنا تدرج في مقام التسول يذكرنا ببعض من تزهد في تسوله فكان يكتفي بالقليل، فجاء آخرون يتطوعون بالتسول للقاعدين، ويحسبون أنهم بذلك يحسنون صنعاً، ولكنه التشريع الصوفى طبقه الصوفية في العصر المملوكي عملياً، وجعلوا له مقامات ودرجات ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون  زهداً أو تطوعاً..

    2- ولا شك أن ظروف العصر المملوكي وتصوفه المنتشر أدَّيا إلى تقعيد هذا التشريع وجعله من (النُّبل) المطلوب في شريعة التسول. إذ كثر القاعدون بانتشار الزوايا والخوانق الصوفية، وبعضها لم يعتمد على مورد مالي ثابت من الوقف فاحتاجوا إلى من يتخصص في جمع المال لهم .. ولن يكون ذلك إلا بالتسول . يفسر ذلك ما قاله الشعراني ( اجتمع في زاوية الشيخ عبد الحليم بن مصلح المنزلاوي نحو المائة نفس، وهو يقوم بكسوتهم وأكلهم من غير وقف ( أوقاف ) ، وإنًما بما يفتح الله عليهم.)،ولما وقف الناس عليه الأوقاف قال الشعراني( إن الحال ضاق على الفقراء بسبب ركونهم إلى المعلوم من طرق معينة، وكانوا قبل ذلك متوجهين بقلوبهم إلى الله فكان يرزقهم من حيث لا يحتسبون . )[90]. ويستفاد من ذلك أن الصوفية يرون في التسول المتجدد طريقاً أسمى للتوجه إلى الله بقلوبهم انتظاراً للفتوحات عند كل وجبة طعام، وأن الفتوحات المتجددة في عصر الشعراني كانت مورد رزق يفوق المورد المالي الثابت الآتي من الأوقاف ..

     3- وبعض الصوفية خصص طريقة الصوفي بأكمله في التسول للآخرين،  فعرف بذلك واشتهر، كأبي بكر الحديدي ( ت 925) وقد قال عنه الشعراني ( كانت طريقته ( أى كان دينه الصوفى ) سؤال الناس للفقراء سفراً وحضراً في طريق الحاج وغيره)[91]. ويحكي عنه الشعراني: (.. فخرجت معه إلى سوق أمير الجيوش فصار يأخذ من هذا نصفاً ومن هذا عثمانياً ومن هذا درهماً، فما خرج من السوق إلا ومعه نحو أربعين نصفاً، فلقى شخص معه طبق خبز فأعطاه ثمنه، وصار يفرق على الفقراء والمساكين، وهو ذاهب إلى نحو بين  القصرين وقال نفعنا الفقراء من هؤلاء التجار على رغم أنفهم، ثم صار يعطي هذا نصفاً وهذا درهماً إلى أن فرغت)[92]ونقل الغزي ذلك في ترجمته له [93]. . وعرفنا أن مصطلح الفقراء يعنى الصوفية . وكأبي بكر الحديدي اشتهر صوفى آخر في القرن التاسع ، غلب عليه لقب ( شحاذ الفقراء )، قال عنه ابن الزيات ( كان إذا رأى فقيرًا يمضي إلى الأغنياء ويطلب منهم ويأتي بما يحصل للفقير، وقيل أنه أخذ على اسم الفقراء شيئاً كثيراً وفرقه بينهم على قدر حاجتهم، فبقى معه فضله فلم يجد بمصر فقيراً يدفعها إليه )[94].

   ولا شك أن هناك بعض المبالغة في تصوير ذلك( النبل التسولي) من جانب الشعراني وابن الزيات ، وإن لم يمنع ذلك من وجود من تسول من الصوفية تطوعاً للغير ، وقد اعترفت به بعض المصادر التاريخية ، فقيل عن يوسف الصفي824 : ( كان كثير البر للفقراء قائماً بأحوالهم يأخذ لهم من الأغنياء)[95]. وقيل عن آخر ( كان يقصد الأغنياء لنفع الفقراء وربما استدان للفقراء على ذمته، وكانت له عادة وتؤثر عنه كرامات )[96].

 ومهما يكن من أمر فإن اشتهار المتصوفة بالتسول وتخصصهم فيه واعتبارهم له ديناً – كل ذلك ادخل في دائرة التصوف والتسول بعض النبلاء مما اتصف بالكرم – وانسحب ذلك على طريقته في التسول فكان يتسول لغيره مع تسوله لنفسه، وهو وضع عجيب سمح بوجوده التصوف وتسوله في العصر المملوكي..

طرق التسول :

  ولإزدهار التسول الصوفي كان يحلو لبعضهم أن يتفنن في طرق التسول .فالمقريزي  يذكر أن بني الجوهري كانوا ( يعظون بجامع القرافة على كرسي في الثلاثة أشهر، فتمر لهم مجالس مبجلة تروق وتشوق، ويقوم خادمهم " زهر البان " ، وهو شيخ كبير ومعه زنجله، إذا توسط أحدهم في الوعظ، يقول : تصدقي لا تأمني أن تسألي       فإذا سألت عرفت ذل السائل..

ويدور على الرجال والنساء ، فتلقى له في الزنجلة ما يسَره الله تعالى، فإذا فرغ من التطواف وضع الزنجلة أمام الشيخ ، فإذا فرغ الشيخ من وعظه ، فرق على الفقراء ما قسم لهم وأخذ الشيخ  ما قسم له ، وهو الباقي، ونزل عن الكرسي..)[97].

    ويقول الشعراني عن يوسف العجمي  (كانت طريقته التجريد( أى فى العبادة الصوفية ) ، أن يخرج كل يوم فقيراً من الزاوية يسأل الناس إلى آخر النهار، فمهما أتى به يكون هو قوت الفقراء ذلك النهار كائناً ما كان، وكان صورة سؤاله أن يقف على الحانوت أو الباب ويقول: الله، ويمدها حتى يغيب ويكاد يسقط إلى الأرض)[98]..!!. ولو عاش هذا فى عصرنا فربما يحصل على جائزة الأوسكار فى التمثيل .!!

ولا ريب أن الموالد التى يقيمها الأشياخ – والولائم التى يدعون إليها- كانت أبرز طرق التسول والتوسع فيها الصق بالتأريخ للحياة الإجتماعية..

 

 

   

التسول طريق الصوفية للثراء السريع                                   

التسول فى عصر الشعرانى وموقفه منه:

1       ــ ألف الشعرانى فى صوفية عصره رسالة وجهها إلى(مدعى الولاية) قال فيها (صار همُ كل شيخ أن يصطاد لأتباعه خبزاً وجبناً وعسلاً، فصارت المشيخة باباً من الشحاتة)[99]. وعلى طريقة الشعرانى فى الإنكار فإنه مع إنكاره على معاصريه فقد تحايل فى تبرير تسوله هو، وتحايل لتقرير قاعدة (التسول كأصل للتصوف)..وفى إنكار الشعرانى على صوفية عصره ملامح كثيرة للتسول الصوفى فى عصره.. يقول: ( صار بعض المشايخ يجلسون على موائد الظلمة؛ المكَاسين ( جامعى الضرائب والمكوس ) والكُشّاف ( حكام الأقاليم ) ومشايخ العرب ( شيوخ العصابات التى كانت تحترف السلب والنهب مع أو ضد الحكم المملوكى ) وأعوانهم، وبعضهم سُداه ولُحمته من طعامهم ولباسهم وكذلك أولاده وعياله . وبعضهم صار يسأل هؤلاء الظلمة ، فإذا لم يعطوه ما طلب منهم غضب عليهم ومزق أعراضهم فى المجالس، وبعضهم عمل له عرساً فى زاوية وصار يرسل قاصده ( القاصد يعنى الرسول الذى يحمل رسالة أو السفير ) للولاة فيساعدونه بالعسل والأرز والبسلة، ومن لم يعطه شيئاًيغضب عليه مع أنه لابس عمامة صوف )[100]. ويستفاد من ذلك أن أولئك الصوفية أحرزوا مكانة فى المجتمع حتى كانوا لا يأبهون بالظلمة فيهاجمونهم إذا قصروا فى إعطائهم أى إبتزوهم بالتسول، وتمتعوا بحقد الشعرانى ، فقد زاحموه على رزقه فى التسول ، فهاجمهم بالأكل من المال الحرام ، مع أنه كان مثلهم يأكل من نفس المال الحرام ، إذ كان كل الحكام ظلمة محترفى سلب ونهب. ويقول الشعراني عن بعض حيلهم في التسول: ( ومنهم من يرد الأموال بحضرة الناس ويقبلها منهم سراً) وعد الشعراني في المنن أنه منزه عن ذلك [101].

2        ومن دوافع الشعراني في الإنكار على معاصريه أنهم بكثرة التسول قد أضجروا الناس وخشى الشعراني أن ينقلب الضجر إلى إنكار على التصوف فبادر بالإنكار عليهم ، يقول في معرض حديثه عن تسول معاصريه(.. وقد قال الوزير: قد سئمت نفوسنا من كثرة سؤال هؤلاء المشايخ الذين يعملون لهم موالد، فلم يتركوا عندنا عسلاً ولا أرزاً ولا بسلة، وأين قام على هؤلاء أن يشحذوا ويعملوا لهم مولداً؟)[102].

   3- ومع ذذلك فإن الشعراني في نفس الكتاب – لطائف المنن – يعتبر التسول نشاطاً صوفياً بحتاً حين يتعلق الأمر بالأشياخ السابقين – لا المعاصرين – يقول عن سلف الصوفية ( أقام جماعة من الأولياء في جبل المقطم دائماً، ويرسلون خادمهم إلى أقطار الأرض ليأتيهم بالقوت الذي قسمه الله لهم وأودعه عند بعض عباده، فيستخرجه الخادم ممن هو عنده بالإلحاح)[103]..فالشعراني يعتبرهم أولياء، ويوحي بكراماتهم في قوله (ويرسلون خادمهم إلى أقطارالأرض)، فالخادم مبعوث من لدنهم ليس من القاهرة وحدها وإنما من أقطار الأرض جميعاً، ثم هو مبعوث إلى أناس محددين عند بعض العباد. وقد عرف من الأولياء بالكشف أن أولئك بالتحديد قد أودع الله رزق أسياده عندهم، ولذا فهو يستخرجه منهم بالإلحاح، ولا حرج حينئذ في الإلحاح . وبذلك كان يبرر الشعراني تهالك السابقين على التسول في نفس الوقت الذي ينكره على معاصريه، وسبق أن أوردنا بعض مظاهر التسول لأشياخ الشعراني، وقد ذكر هو ذلك في معرض تأريخه لهم في الطبقات الكبرى وغيرها..

4- والشعراني في نهاية الأمر – يعيش عالة على التسول – والرزق كان يأتي إلى زاويته رغدا من كل مكان، وكيف يكون ذلك إلا بالتسول؟؟. واحتاج الأمر من الشعراني بعض التحايل في تبرير أخذه المال والطعام من الغير واسعفته خبرته بالفقه في اصطناع الحيل واختراع المحترزات. كأن يقول مثلاً( أُخذت علينا العهود ألا نأخذ من أحداً مالا ًإلا إن علمنا بالكشف  أو بالقرائن طيب نفسه بلا علة رياء و نحوه، وألا نسأل أحداً أو نقسم عليه بوجه الله عز وجل إلا أن يكون ذلك لضرورة شرعية )[104].  فالشعراني يبيح لنفسه – ولغيره – أن يأخذ المال، ويأتي بقاعدة تبدأ بمنع الأخذ ثم يسارع بالاستثناء من تلك القاعدة – أو بالاحتراز – على سنة الفقهاء – فيعلق الاستثناء – أو يحترز من تلك القاعدة فيخرج عنها بعلم الصوفي بالكشف أو بالقرينة طيب نفس  المعطي بأخذ المال منه ، ومن نافلة القول أن المجال مفتوح لكل صوفي ، وكلهم يدعي الكشف أو علم الغيب الإلهي . وإن لم يسعفه ادعاء الكشف فأمامه القرينة فيأخذ مال الغير بالكشف أو بالقرينة أو بهما معاً. وفى كل الأحوال فالصوفى هو الذى يقرر لنفسه أو هو الذى يُشرّع لنفسه الأخذ من هذا أو ذاك . ثم جعل من العهود ألا يسأل أحداً ويقسم عليه بوجه الله تعالى أن يعطيه أو بمعنى آخر ألا يلح في التسول من الغير إلا إذا كان ذلك لضرورة شرعية . وتقدير تلك الضرورة الشرعية متروك للصوفي المتسول، وهو وحده الذى يقرر متى يأخذ اعتماداً على تلك الضرورة الشرعية المزعومة . بذلك كان الشعراني يخدع الفقهاء في تبريره لتسوله وتسول الأولياء الصوفية..

      5- وواجهت الشعراني مشكلة تسوله من النساء، وكان من عادة الصوفية التسول من النساء.

 وقد تردد الشعراني في حسم المسألة فهو حيناً يجعل( من شأن الصوفى ألا يقبل رفقاً من إمرأة) كإحدى قواعد الصوفية[105]..وحين يأتي لتطبيق القاعدة نراه يجتهد في تلمس المعاذير ويصطنع المحترزات كأن يقول مثلاً (أخذت علينا العهود ألا نأخذ هدية ولا صدقة من امرأة إلا بعد أن تسأل عن ذلك ، فربما كان من مال زوجها بغير إذنه فتقع في الإثم )[106].. وذلك قيد " ظريف " وليس عبئاً على متسول. وقد يشترط الشعراني لأكل الصوفي من كسب المرأة أن يبلغ الصوفي مقام الكمال – وما أسهل ذلك الادعاء – يقول (..فإن بلغ ذلك المقام كان له قبول هدايا النساء والأكل من اطعمتهن، بل له تقديم ذلك على طعام بعض الرجال)[107]..  فالشعراني بدأ بتقعيد المنع – التسول من المرأة – ثم انتهى في التطبيق إلى الأجازة بحجة  بعض الإشتراطات المزيفة..

  واعتقد أن تناقض الشعراني بين المنع النظري والإباحة العملية ترجع إلى تتلمذه على الرسالة القشيرية. وكان القشيري في مقدمة رسالته يتهم معاصريه بالتسول من النساء، فوصفهم بقلة المبالاة بتعاطي المحظورات( والارتفاق بما يأخذونه من السوقة والنسوان)[108]. فجاء عصر الشعراني وقد عم فيه التسول من طوائف المجتمع كلها،والمرأة نصف المجتمع، فنالها من تسولهم نصيب، وكان الشعراني من جملة المتصوفة المتسولة فوقع في التناقض بين الرسالة القشيرية – وهى الكتاب المقدس للصوفية – وما اعتاده عصره ..

الإنفاق من الغيب :

    وكثرت أموال المتسولين لدى أعيان الصوفية فكانوا ينفقون منها على أنفسهم وذويهم . وقد عالج الصوفية ذلك البذخ في الإنفاق مع عدم وجود مهنة اقتصادية أو مورد رزق ثابت بأن الصوفي ( ينفق من الغيب). ومعناه أن الله تكفل برزقه من حيث لا يحتسب أحد، وعلى أساس ذلك الرزق الغيبي فهو يسرف في النفقة. يقول كاتب مناقب المنوفي عنه (كان مع فقره ينفق النفقة الكبيرة، وكان يقبل من بعض الناس بعض شيء ، ولكن لا يقارن ذلك عُشر ما كان ينفقه، وكان ينفق من كده في المدرسة ما يعجز عنه الملوك ، مما لا يشك أحد في أنه ينفق من الغيب )[109].   فكاتب المناقب يجعل من إسراف شيخه دليلاً على كرامته تأسياً على أنه ينفق من الغيب، وأن إنفاقه يفوق  موارده الظاهرة من التسول، وحتى يقنعنا بوجهة نظره فإنه حط  من متحصل التسول وجعله قليلاً فقال( يقبل من بعض الناس بعض شيىء).

  وتفنن الصوفية في الإسراف كي ينعموا بتلك الكرامة – الإنفاق من الغيب – ومن ذلك ما قاله الشعراني عن محمد المغربي الشاذلي( كان ينفق نفقة الملوك من كيس صغير في عمامته)[110]. وكان الناس على استعداد للتصديق بأى كرامة، خاصة إذا رأوا صوفياً مبذراً ولا حرفة له، والهدايا تصل إليه ولا يراها الأكثرون فيعتقدون صدق ذلك الادعاء بالإنفاق من الغيب .. والجدير بالذكر أن المؤرخ ابن العماد الحنبلى فى العصر العثمانى كرر ما قاله الشعراني عن محمد المغربي مع بعض الإيضاحات التى تفضل بإيرادها – بعد أكثر من قرن – يقول عنه: ( كان ينفق نفقة الملوك ويلبس ملابسهم، وذلك من غيب الله تعالى،لا يدري أحد له جهة معينة تأتيه منها الدنيا) [111]. ولا أدري ممن أتى ابن الحنبلي بهذا الكلام، إذ أن الشعراني هو المرجع الوحيد الذي ترجم لمحمد المغربي، ولم يذكر عنه ما تفضل ابن العماد بإيضاحه، وتفسير ذلك يكمن في العصر العثماني وهو وليد العصر المملوكي ومتأثر به ويدين لأشياخ التصوف المملوكي بتقديس كان يزداد بتوالي السنين..

  ويقول الشعراني عن عبد الحليم بن مصلح المنزلاوي (كان ينفق من الغيب) [112]. وقد عرضنا لجهد المنزلاوي في التسول للصوفية في زاويته، فأين الغيب هنا والتسول ظاهرة لا غيب فيه.؟.  بل أن الشعراني يقول مباشرة بعد تقرير الغيب في إنفاقه (كان لا يخصص نفسه بشىء من الهدايا الواصلة إليه) فقد اعترف بأن (هدايا) ترد إلى ابن مصلح إلا أنه كي يقرر مبدأ الإنفاق من الغيب جعل ابن مصلح يتنازل عنها اكتفاء بالغيب المزعوم..

  ويلجأ الشعرانى مكرها للصدق حين يتعرض للأشياخ المعاصرين له ومزاحميه فى ميدان الإرتزاق ، فيقول فى معرض الإنكار على تسولهم(.. ومنهم من يسافر إلى مشايخ العرب والكشاف فيسألهم العسل والقمح وغيره فلامه شخص فقال: من عباد الله من يقدره الله على الإنفاق من الغيب وقلب الأعيان وهو يفعل مثلى ستراًعلى نفسه. ! ). ويعلق الشعرانى عليه غاضبا : ( وذلك فى غاية الغرور والزور والنفاق والإستدراج )[113]. ونوافق الشعرانى على ما يصف به معاصريه إلا أننا نتوسع فى إطلاقه على الصوفية بما فيهم الشعرانى نفسه..                                     

 إكتناز المال من التسول الصوفى :

1- عاش الصوفية مجاناً، أكلوا على موائد الغير، ولبسوا من (هدايا المحبين) وحصلوا على ما يريدون بلا مقابل، حتى أن الشعرانى فى معرض ذمه لأشياخ عصره افتخر عليهم بعدم سؤاله عن ثمن أى شىْ حتى لا يظن الحاضرين أنه يحتاج له وليس معه ثمنه( كما يحدث ممن يتخذ المشيخه حرفة ، فيسارع أصحابه إلى شرائه له بغير ثمن من الشيخ، ولو بجباية ثمنه من الرءوس)[114]

ومع هذه المعيشة المجانية فقد كانت الأموال النقدية تنهال عليهم من كل حدب وصوب.. وهم – وقد كفل المجتمع لهم الأكل والملبس مجاناً – فقد تعاملوا مع ذلك المال إما بالإسراف والتبذير لكى يوصف أحدهم بأنه ينفق من الغيب، فهو ينفق جهراً ويتسول سراً، وأما أن يكتنز المال إذ ليس هناك ما يدعو إلى إنفاقه، بعد أن ضمن المجانية فى حياته ..

2- ولقد سجلت المراجع التاريخية والصوفية شذرات عن ثراء أولئك الصوفية وما خلفوه وراءهم من مال. فقيل عن يوسف ابن اسماعيل الإمبابى فى القرن الثامن( انقطع بزاوية أبيه ، وأحبه الناس ، واعتقدوه ، وعندما مات خلف مالاً كثيراً )[115]. وقال الجزرى عن شيخ خانقاه بكتمر( وُجد له ذهب كثير وفضه)[116].

وفى القرن التاسع قال ابن حجر عن معاصره خليفة المغربى المعتقد ت 829 ( وُجد له شىْ كثير)[117]. وقال عن زميله سعيد بن عبدالله المغربى ت 831( كان عنده مال جم من ذهب وفضة وفلوس، يشاهده الناس فلا يجسر أحد على أخذ شىء منه، وكان يُخرج الذهب ويصفّفه، وقد شاع بين الناس أن من اختلس منه شيئاً أصيب فى بدنه ، فلا يقربه أحد ، وكانت حوله قفاف ذوات عدد ملأى من الفلوس )[118] ، وعجيب أن يفتخر صاحبنا بما يكنزه من ذهب وفضة و لا ينفقها فى سبيل الله . هو يسير على سُنّة الظالمين من الأحبار والرهبان وممّن قال فيهم رب العزة جل وعلا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35).التوبة  ). وأعجب منه ان يقابل صنيعه بالاعتقاد في تصريفه وكراماته حتى يخشى المحتاجون من الإقتراب من ذهبه الذى يتفنن في تصفيفه وعرضه على أعين الناس لعلهم يشهدون.. هذا وقد ذكر السخاوي عن هذا الصوفى سعيد بن عبدالله المغربى ما يؤكد رواية ابن حجر ، فكلاهما معاصر له، يقول السخاوي (كان له قفف مملوءة ذهبا  )[119].

   3- والشعراني لا يرى بأساً في اكتناز الصوفي للذهب فهو يقول في ترجمة شيخه على الدويب ( لما مات وجدوا في داره نحو المائة ألف دينار فأخذهما السلطان )[120]،إلا ان موقفه سرعان ما يتحول إلى النقيض إذا تعلق الأمر بمنافسيه من الأشياخ فيبادر للإنكار عليهم مع أنهم لم يفعلوا إلا ما اعتاده السابقين من أشياخ الشعراني .. يقول (صارت زوايا الفقراء الآن مصيدة للدنيا، بل رأيت في بعض الزوايا من معه الألف دينار وهو يأكل الصدقة)[121]. وأين الألف دينار من المائة ألف التى تركها شيخ الشعراني – على الدويب – إلا أن الحق عند الشعراني دائماً يكال بمكيالين ويوزن بميزانين..

    ويقول الشعراني في موضع آخر (بعض من يدعي الصلاح والفقر لا يركب الحمار بل الخيول المسومة، وقد احتاج مرة للركوب وغابت الفرس وعنده حمارة فلم يركبها وقال: استحى أن أمرّ في مصر على حمارة ، مع أنه متعمم بصوف وله عذبه.. وهذا ينافي طريقة الفقراء من كل وجه.  وآخر يتشدق بالدعوة للفقر وهو يكنز في صندوقه نحو اربعين ألف دينار ، ودخله اليومي ثلثمائة نصف ينفق منها نحو خمسة عشرة نصفاً ويخزن الباقي )[122]. وتلك معلومات تفصيلية تدلنا – من ناحية – على ثراء الصوفية المتسولين – ومن ناحية أخرى – على أن الشعراني لا يقل عنهم اهتماماً بالمال وإحساساً به، وإلا فكيف أتحفنا بهذه الاحصائيات الدقيقة عن الدخل والمنصرف .. لخصومه؟؟

                                     

ثالثاً: الصوفية ينشرون التسول في العصر المملوكي

كثر عدد المتسولة في العصر بازدياد المتصوفة واعتبار التسول شرعا دينياً في دين التصوف المؤثر فى مصر المملوكية. وقد تضاءل الفارق بين متسولة الصوفية والشحاذين العاديين،ويدلنا على ذلك أن طوائف المتسولة في العصر المملوكي اكتسبت الملامح الصوفية العادية وكان منهم من اشتهر كشيخ صوفي..

    بل إن من المتسولة من تكونت به طبقة جديدة تنتمي للتصوف وتحمل اسمه وتحترف التسول وتتخذه طريقاً للحياة. ونعني بأولئك طوائف الجعيدية والفقراء الطوافين ثم الحرافيش..

طوائف المتسولين:

    * طائفة الجعيدية:

    طائفة وجدت بين العامة تدين بالتصوف وتحترف التسول . وأصبح لقب الجعيدي مرادفاً للقب الفقير فالمتبولي يسمي نفسه( الجعيدي )[123]. وفي نهاية العصر المملوكي ضمت طائفة الجعيدية كثيراً من المتبطلين القادرين على الكسب إلا أنهم استمرأوا التسول، وكانوا بما أوتوا من قوة ينتزعون الأموال من يد متولي الصدقة ويقذفون به من على فرسه فآثاروا  برسباي فطلب (سلطان الحرافيش وشيخ الطوائف) والزمهما بمنع الجعيدية من التسول في الطرقات (وألزمهم بالتكسب والعمل بالحفير) فامتنعوا مؤقتاً، وقد اعتبر أبو المحاسن ذلك من أكبر المصالح ، يقول (لأن معظم الجعيدية كان يترك الحرفة ليتسول) شأن الداخلين في التصوف (ويقسم على الناس بالأنبياء والصالحين شاكياً من قسوة القلوب..فما كان أحسن هذا – يقصد منع الجعيدية من التسول – لو  استمر)[124]. واستمرت الجعيدية كطائفة بعد العصر المملوكي وحتى وقت قريب[125].

* الفقراء الطوافون:

ظهروا في نهاية العصر المملوكي كمظهر لامتداد تياري التصوف والتسول، فكانوا يطوفون على البيوت يتسولون بزى التصوف فعرفوا بالفقراء الطوافين تميزاً لهم عن باقي الصوفية في الزوايا وغيرها..

واشتهروا بالإلحاح في السؤال مع التبطل والقدرة على الكسب، وقد اجتهد الشعراني في الدفاع عنهم فطالب بألا ينكر عليهم أحد لأنهم يريدون ان يحملوا عن الناس ذنوبهم – بهذا الإلحاح في السؤال ، وزعم أن العهود قد أخذت عليه ألا يمكن أحداً من القول بأنهم قادرون على الكسب لأن ذلك حجة في البخل واعترف الشعراني أن أحد الأولياء الصوفية كان منهم ( فكان يسأل ويتصنع السقوط حتى يظن من لا يعرفه انه حشاش . !.)[126]. وعلى ذلك يمكن أن نفهم لماذا يدافع الشعراني عنهم في الوقت الذى ينكر فيه على الآخرين ممن لا يعتقد ولايتهم..

* الحرافيش :

  انضموا للمتصوفة وطوائفهم في ميدان التسول. والحرافيش في الأصل طائفة من سُقَاط العامة ممن يحتلون أسفل السلم الإجتماعي. إلا أن حرفة التسول جمعتهم بأعيان التصوف وطوائفه المتخصصة في ذلك المجال.. وانعكس سلوك الحرافيش على طريقتهم في التسول فكانوا( يشحذون المصلين ولا يصلون، ومنهم من يقسم في سؤاله، وبعضهم يستغيث بأعلى صوته:  " لوجه الله فلس" وبعضهم يقول" بشيبة أبي بكر" فلس" ومنهم من يكشف عن عورته ويمشى بها بين   الناس ، يوهمم أنه لا يجد ما يستر به عورته إلى غير ذلك من مكرهم..)[127]. ويلاحظ من ذلك النص آثار الصوفية واضحة في تسول الحرافيش من التوسل وترك الصلاة والتشبه بالمجاذيب في كشف العورة. بل أن بعضهم اتخذ من التسول رداءا يخفي ميوله الإجرامية، حدث أن أحدهم سأل تاجراً فقال له ( " يفتح الله عليك " فقتله ، وادعى الجنون وتشبه بالمجاذيب فأخذ للمارستان وضاع دم التاجر هدراً[128]. ) . وبسبب شغبهم واجرامهم فقد كان يُنادى ( بألا يُتصدّق أحد على حرفوش)[129].

تقاتل المتسولين عند توزيع الصدقات :

   ازدحم الحرافيش مع الفقراء الطوافين والجعيدية وأوباش الصوفية عند أبواب السلطان والأمراء حين تفرق الصدقات، ويحدث عادة أن يموت بعضهم من جراء الإزدحام والتقاتل على الفوز بالصدقة ، وقد يصرعون متولي الصدقة، وقد حدث ذلك في سلطنة برقوق سنة 798 [130]. وفي مرض موته سنة 801  [131]. وفي سلطنة برسباي سنة 841  [132]. وفي يوم عاشوراء سنة 912 [133]. أيام الغوري، ومات بعضهم في تزاحمه أيضاً على صدقة الأمراء والكبراء مثل سيف الدين طغاي[134]. وابن السديد[135]المصري . والقاضي كريم الدين[136]. وافتخر الشعراني بقناعة الصوفية في زاويته عكس الآخرين(الذين يزدحمون على القاصد الذى جاء بالمال ويرمونه إلى الأرض ويغتصبون منه الدراهم)[137]. أى ان ذلك صار تقليداً ، حتى أنه ظهر مال كثير مدفون مكتوب عليه أنه صدقة فازدحموا عليه (فمات منهم نحو ثمانين نفساً)[138].

ثراء المتسولة  :

     1- يقول ابن اياس ( وجد في دكان أحد مدعي الفقر أربعة آلاف دينار ما بين ذهب وفضة ، وهى موزعة في براني في سقف الدكان.  وكانت امرأة تستعطى عند جامع ابن طولون فلما ماتت وجد عندها سبعمائة دينار ما بين ذهب وفضة ، ووجد عندها أطمار فيها فلوس جدد، ووجد عندها ربع غزال نحواً من ثمانمائة ربعة، فتعجب الناس من ذلك )[139]. ويقول في وفيات سنة 913( توفيت خديجة الكليباتية، وكانت تدعي الصلاح ، وتدخل بيوت الأكابر. فوجد لها ذهب عين ثلاثة آلاف دينار، وأثاث البيوت بنحو خمسمائة دينار . فعُدّ ذلك من النوادر، ومع ذلك كانت تأخذ من الناس الصدقة)[140].

   ويقول في حوادث 917( أحضروا بين يدي الغوري شخصاً من الجعيدية وجدوا معه مائة وسبعين ديناراً من ضرب الأشرف برسباي، وادعى أنه ورثهم من أمه. فأخذ السلطان منه الذهب، ورسم بشراء جوخة وقميص وعمامة للشحات من ذهبه، وأن يصرف له في كل يوم نصفين من الفضة حتى تفرغ فلوسه، فلم يرض الشحات بذلك، وصار يقول :" أعيدوا لي ذهبي ، وما لي حاجة بكسوتكم."! . واستمر الذهب تحت يد المهتار)[141]. ويستفاد من النص الأخير أن لقب جعيدي مرادف لشحات.

وكان من التسميات المعتادة لدى المصريين فى البيئات الشعبية إسم ( جعيدى ) ، وإنتشر ولا يزال منتشرا فى مصر إسم ( الشحات ) و ( شحتة ) تأثرا بدين التصوف فى نشر التسول والشحاذة .

 ،هذا.. وإذا كان كبار الصوفية قد بلغت ثرواتهم عشرات الألوف من الدنانير وقفاف من الذهب فإن المنتظر أن تصل ثروة المتسولين العاديين إلى ألوف ومئات الدنانير.. ولا يعني ذلك قلة في حصيلتهم من التسول إذا كان للدينار في ذلك العهد احترامه، ويكفي ان نعرف أن نصفي الفضة – وهما يعادلان ملاليم في عصرنا – كانت تكفي مطالب الشخص العادي ، حتى ان السلطان الغوري رأى فيها قدراٍ محترماً يكفي حاجة الجعيدي كل يوم، ثم يقول ابن اياس في تعقيبه (فتعجب الناس من ذلك)، (فعُد ذلك من النوادر) لأن المبلغ المضبوط – وان لم يقارن بثروات الصوفية الكبار – يستحق التعجب وأن يكون من نوادر الزمان ..

   3- وفي خضم هذا التكالب على الإكتناز من قادرين على الكسب ،وفي معترك هذا التقاتل على الصدقات إلى درجة يقع فيها عشرات القتلى من فتوات المتسولة – ضاع مستحقو الصدقة الحقيقيون من العلماء الزاهدين من غير الصوفية .. والشعراني الذي وصف ثراء أعيان عصره من الصوفية يقول عن أحد العلماء الزاهدين( مكث يفتي الناس أكثر من خمسين سنة ، كما أخبرني بذلك في مرض موته، وكان ورعا زاهدا قليل الكلام ، وريما يمكث اليوم كاملا لا يتكلم بكلمة لغو .. وسألوه أن يكون قاضيا فأبى . وكان بيته خاليا من أمتعة الدنيا لا تكاد تجد فيه غير الأبريق وتختَا خلقا ( أى قديما ) مفروشا تحته . وكان ملبسه إذا دخل بيته هديمات وعمامته شراميط، ودخلت عليه في مرض موته فقال : يا ولدي خير الناس من خرج من الدنيا ولم يأخذ من اجر عمله شيئا، لي خمسين سنة افتي في هذه البلدة، ومع ذلك لم يتفقدني أحد في هذه الضعفة (أى المرض) برغيف واحد ولا بجديد ولا يقطعة سكر، فالحمد لله رب العالمين.!! )[142].  فهنا فقيه عالم قضى حياته يخدم الناس في صمت مبتعدا عن المناصب وعن المواكب، ليس له إلا الإنشغال بالعلم والفتوى، بينما سرادقات الإفك ومواكب الإفتراء تحول بينه وبين أخذ حقوقه التى تعينه على الحياة الكريمة، حتى إذا مرض واحتضر لم يجد أحدا يزوره برغيف او بثوب جديد.. فمات كريما.. جائعا، وعلى مقربة منه شيوخ التسول والتصوف وحولهم الذهب والفضة والخوانق والزوايا مكتظة بأصناف الطعام..

أخيرا : ولنتذكر الآتي :

  1- حول الصوفية الزكاة الإسلامية – التى تعني الإنفاق وإعطاء الصدقات في سبيل الله – إلى تسول من الناس باسم الدين – دين التصوف. الفقير العادى المحتاج للصدقة سلب منه الصوفيه لقبه الفقير وجعلوه لانفسهم ، وسلبوا الفقير حقه فى الصدقة . قد يكون الفقير العادى عاجزا عن الكسب أو يعمل ولا يكفيه دخله ، ولكن الصوفى الذى أخذ لقب ( فقير ) إحترف البطالة ، والتسول ، وهو قادر على الكسب .

2- وجذور التسول عندهم تكمن في تبطلهم وإعراضهم عن الحرف التى  كانوا يتعيشون منها.

3- وبإسم الدين اعتبروا السعي للرزق شركا بالله، وقد ألمح إلى ذلك الغزالي وأوضحه ابن عطاء في العصر  المملوكي.

4- وإذا كان السعي شركا فإن التبطل والتواكل هو الدين فأساسه ان يتفرغ الصوفي للإتحاد بالله تعالى جل وعلا عن ذلك علوا كبيرا . وكان ذلك من بنود فقه التواكل عندهم.. وتأسيساً على اتحادهم المزعوم بالله تعالى فقد احتقروا المحسن إليهم واعتبروه مسخراً  لهم ، ودونهم في الدرجة.

5- وجاء تشريع التسول للصوفية بالأمر المباشر أو بالمنامات ، وتوجهوا للمحسنين يحثونهم على العطاء بالمنامات والقصص، وكلها مفتراه، وبعد التشريع كان تفصيل الأحكام الفقهية للتسول.

6- وقد بدأ التسول ببداية التصوف، وبه تمكن رواد التصوف في  سياحتهم بين الأمصار من نشر عقيدتهم في أرجاء الدولة الإسلامية،وبعد استقرار المتصوفة في الخوانق استمروا في التسول.

7- ثم ازدهر التسول في العصر المملوكي  بازدهار التصوف فيه، فاشتهر كبار الصوفية بالتسول وجعلوا له مقامات عملية كالتسول التطوعي للغير أو التسول على قدر الحاجة زهدا،  وتنوعت طرق التسول ووصلت في عهد الشعراني إلى درجة التحايل والإبتزاز وأثارت الإنكار ،فهب  الشعراني منكرا على معاصريه وإن قرر في نفس الوقت شرعية التسول له وللسابقين من الصوفية.

8- وتكاثرت الأموال لدى الأشياخ الصوفية وبعضهم كان ينفقها باسراف فتعد له كرامة (الإنفاق من الغيب) أو  يكتنزها مباهياً فلا تعدم من وجود  كرامة أخرى تحذر الآخرين من الإقتراب منها ..

9- وبشيوع التسول مع التصوف دخل  الميدان طوائف العامة من الجعيدية والفقراء الطوافين والحرافيش وأولئك  كانوا يتسولون عنوة وبعنف وتقاتل ،  وكونوا من ذلك ثروات أسوة  بأشياخهم الصوفية في نفس الوقت الذي حرم فيه مستحقو الصدقة الحقيقيون من القوت الضروري عند الحاجة.

10- وكانت الأضرحة موردا آخرمن موارد التسول . فإليها كانت تقدم القرابين والنذور ..

11- وهكذا فالصوفية تسولوا من الغير . وذلك موقفهم من تأدية الزكاة المالية. لم يؤدوها بل أخذوها    كقرابين ونذور من الغير ، أو من يسمونهم :(الأغيار) أو ( أبناء الدنيا ) الذين يعتبرونهم مسخرين لهم..

 

                                                   

  رابعاً : الصيام والتصوف فى مصر المملوكية:

: المبحث الأول : الصيام بين الاسلام والتصوف فى مصر المملوكية

 

1-يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) البقرة )، فالصيام فرضه الله تعالى علينا وعلى ما سبقنا من أمم أرسل إليها أنبياء. وكيفية الصيام علينا وعليهم واحدة وهو الإمتناع عما يفطر( من طعام وشراب وجماع الزوجة ) فى شهر رمضان كل عام . وتوارثه العرب ضمن ملة ابراهيم . ونزل القرآن ببعض التعديل والتيسير في الصوم بجعل الصيام فى النهار فقط من الفجر الى المغرب ، وكان قبلها ينحصر الافطار فيما بين المغرب والعشاء فقط ، ويستمر الصيام بقية اليوم : (البقرة184).  بيد أن تزييف الشرائع السماوية السابقة أضاع فريضة الصيام كما أضاع الصلاة والزكاة. وبعضهم حافظ على اسم الصيامولكن غيَر فيه بما يحلو له، كأن يصوم عن طعام معين فترة طويلة من الوقت، وذلك تزييف لشرع الله تعالى القائل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) فكلمة ( كما ) تفيد التماثل، أى فصومنا هو نفسه الصوم الذي طولبوا به. بل أن مريم العذراء رضى الله عنها أُمرت أن تقول لقومها ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً (26) مريم ) , ومعنى ذلك أن الصوم التطوعي والصوم بالنذر كانا موجودين في الشرائع السابقة.. وحافظ عليها الأتقياء..

2-ولقد نظر الصوفية إلى الصوم نظرتهم إلى باقي العبادات فاقترن تركهم للصلاة بتركهم للصوم، وبدأ ذلك في التاريخ المبكر للصوفية، حتى أن القشيري كان ينكر على معاصريه في القرن الخامس تركهم للصوم والصلاة، يقول ( واستخفوا بأداء العبادات واستهانوا بالصوم والصلاة )[143]. على أن الإلتزام بالصوم يختلف في مظهره عن الإلتزام بالصلاة، فالصوم يتجلى فيه جانبا الإخلاص أو الرياء. فبإمكان الصوفي المفطر أن يخدع الناس جميعاً بصومه حيث يمكنه أن يأكل خفية. أما الصلاة فسرعان ما يعرف عنه تركها إذا رؤى تاركاً لصلاة الجماعة أو مضيعاً لأحد الفروض الخمسة . وعلى ذلك فإن المراجع لم تذكر إلا من أفطر  من الصوفية في رمضان جهراً وعلناً ، أما المفطرون سراً فلا يعلمهم إلا الله تعالى. ومن الطبيعي أن الفطر جهراً لا يقوم به إلا الأقلية ممن تطرف في طريقة الصوفي ، فاستوجب الإنكار عليه كما حدث من القشيري بالنسبة لمعاصريه من الصوفية..

 أثر التصوف فى تضييع صيام رمضان

1       ـ  وفي العصر المملوكي تمتع المجاذيب برخصة الإفطار العلني في رمضان،لأن المجذوب لا يكلف في غيبته.. فقيل في عبدالله الموله 729 كان  ( يأكل في  رمضان)[144]. ويقول العيني عن أبي بكر البجاوي المجذوب المعتقد ( كان يفطر في نهار رمضان ولا يتوضأ ولا يصلي )[145]. ويقول الشعراني عن معاصره الشريف المجذوب( كان يأكل في نهار رمضان ويقول لنا : أنا معتوق، اعتقني ربي)[146]. والشعرانى يصدقه في ذلك الإفتراء وإلا لما ذكره في مناقبه وقال عنه : ( سيدي الشريف المجذوب) .!.  ويستدل من مقالته ( أنا معتوق اعتقني ربي ) إن تركه الصوم في رمضان كان منقبة يفتخر بها الصوفي على أقرانه، تستحق أن تذكر في مناقبه كما فعل الشعراني ولا يستوجب ذلك من العصر إنكاراً، أى أن العصر يسلم للصوفي  المجذوب بإفطاره في رمضان لأن المجذوب عند الصوفية أفضل من ( السالك ) أى الصوفى العادى . يدلنا على ذلك أن الإنكار على إفطار رمضان تناول الصوفية الآخرين ، فقد سأل الشعراني نفسه أستاذه الخواص عن ( أرباب الأحوال الذين يُظهرون الخوارق مع عدم صلاتهم وصيامهم ) فقال( ليس أحد من أولياء الله له عقل التكليف إلا و هو يصلي ويصوم ويقف على الحدود، ولكن هؤلاء لهم أماكن مخصوصة يصلون فيها)[147]. فهو يصف أرباب الأحوال بأن لهم عقل التكليف ، ومعنى ذلك أن المجذوب الذي غاب عقله في حضرة ربه ــ بزعمهم ــ يسقط عنه التكليف فيترك الصلاة والصيام. ويلاحظ أن الشعراني – أو الخواص – أغفل  الرد عن ترك الصيام ، فقد ذكر في الإجابة صلاتهم المزعومة في جبل قاف وسد اسكندر وبيت المقدس، ولم يحدثنا أين كانوا يصومون ، وترك المسألة معلقة بدون تبرير أو تعليل إفطارهم رمضان، ومعنى ذلك أن ترك الصلاة ارتبط عند الصوفية بترك الصيام، وإن حظيت الصلاة بالإهتمام لتكررها خمس مرات في اليوم واهتمام الصوفية بالدفاع والتبرير لمن ترك الصلاة والجماعة والجمعة منهم..

2        ومن الطبيعي أن يتأثر العامة بأربابهم الصوفية إذا جدَ في الأمور ما يستدعي ذلك، يقول أبو المحاسن في حوادث رمضام 861( أثناء فتح المقياس أفطر جماعة من أوباش العامة المتفرجين لشدة ما نالهم من العطش من كثرة حركتهم بسبب الفرجة)[148].وهو لا شك عذر مقبول لديهم، ويقول ابن إياس عن  نفس الحادثة ( في وفاء النيل في رمضان أفطر في ذلك اليوم جماعة من العُيّاق والأوباش)[149]، وربما لو لم تكن مناسبة عامة ــ مثل إحتفال وفاء النيل فى رمضان ــ  أثارت اهتمام المؤرخين ما كان ذلك الإهتمام بفطر العامة في رمضان أثناءها، فالشأن في مؤرخي العصر المملوكي الإهتمام بالسلاطين وجعلهم محور التاريخ ، ولا يهتمون بالعوام إلا إذا جاء حادث عام يسترعى الاهتمام . و لقلة المعلومات التاريخية التي تشفي الغليل – عن صيام العوام المصريين فى رمضان – فإننا  نلجأ للأمثال الشعبية المتداولة في العصر المملوكي، فنقرأ منها في المستظرف :( يا طالب الشر بلا أصل، تعالى للصايم بعد العصر)[150]، ومعنى ذلك أنهم تحملوا الصيام كارهين مضطرين مقهورين، فكان رمضان – خاصة في نهاية اليوم فيه – مسرحاً  للمشاجرات والإنفلات العصبي بحجة الصوم والحرمان – ولا يزال ذلك مرعياً حتى اليوم..

3       وهنا نواجه قضية: هل الصوم – كامتناع عن المفطر – هو الهدف في حد ذاته أم هو وسيلة لهدف أسمى وأكبر؟؟ نرجع الى قوله  جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) البقرة )، فالهدف من الصوم ليس مجرد الحرمان وإنما هو التقوى ، فإذا لم تتحقق التقوى لصائم فلا جدوى لصيامه. إلا أن الصيام تحول في العصر المملوكى – وعصرنا – إلى عكس ما يهدف إليه الصوم الإسلامي. فرمضان لم يعد – في الأغلب – شهر التقوى ، بل هو شهر الأطعمة المشتهاة في الإفطار والسحور وهو شهر تدخر له الأسرة المصرية أطعمة بعينها أصبحت علماً عليه وعلما عليها، وهو شهر تستعد له الحكومة وتتحسّب بالسلع التموينية والمسلسلات التليفزيونية الترفيهية ، حيث يسهر فيه الناس الليل مع ما حرم الله من لهو وصخب وينامون فيه النهار – أو يتكاسلون – لكى يمضي اليوم – النهار – سريعاً ليستقبلوا الليل بملذاته وامتلائه. وهو شهر المشاجرات والمنازعات لأتفه الأسباب – أو بدون أسباب ،ويجد الناس في صومهم حجة للغضب بمبرر وبدون مبرر. ويعني ذلك أن دين التصوف قد حول فريضة الصيام إلى حرمان لا معنى له بعد أن اضاع الهدف الأسمى للصوم وهو التقوى ، فالصائم الحقيقي يرى في صومه – الذي لا يطلع عليه إلا ربه – شفافية تعلو على مطالب الجسد، وهو حين يطيع ربه في أمر الطعام والشراب والشهوة يتعود على أن يطيع الله تعالى في كبت مطالب الجسد وغرائزه فيكون بذلك قد حقق التقوى عملياً، وهل التقوى إلا الخشية من الله تعالى بالإمتناع عن المعاصي ومتطلبات الغريزة ؟!.  فالصائم لا تصوم معدته أو فرجه فقط عن تناول المباحات في نهار رمضان . وإنما يصوم لسانه عن اللغو – ولا يقول – الفحش – وتصوم عينه عن النظر المحرم وتصوم يده وقدمه عن الإتجاه لما يغضب الله . بل يصوم قلبه – إذا حاول بصدق- عن التفكير فيما يغضب الله تعالى. هذا هو الصوم الحقيقي في الإسلام .وقدطبّقه محمد والرسل عليهم السلام والأتقياء قبل وبعد نزول القرآن الكريم. ومريم رضى الله عنها حين قالت: ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً (26) مريم ) فلأنها صائمة فقد امتنعت عن الحديث مع البشر خشية الوقوع في اللغو.وإذا كان ذلك هو الصوم الإسلامي الحقيقي فبم نسمي صومنا ؟ .

4       وبالتصوف أصبح الصوم مجرد عادة اجتماعية مصرية يألفها حتى الأقباط المصريون ، إذ تتكرر شهراً كل عام بمناخ مُميز وثقافة شعبية خاصة ، ترتبط بذكريات الأكل والسهر وموعد الأفطار والمسحراتي واستقبال الفجر عند الأضرحة، واعتمدوا في ذلك على ما يجتره الإنسان – من ذكريات طفولته في رمضان مع أبيه واخوته وتقاليدهم عند الإفطار وعند السحور وتزاور الأهل والأصحاب.!! وأين التقوى في ذلك كله؟ أصبحت تدينا سطحيا يتمثل فى مجرد سبحة تتراقص بين الأصابع في رمضان والقلب غافل، واللسان يجري بعبارات لا تمت للتقوى بأى صلة. والنساء أكثر اهتماما برمضان – فلأنه أضحى شهر الإمتلاء – فعليهن عبء تجهيز الطعام بأصنافه وشتى مسمياته، والنساء أقدر على تذكر المظاهر الرمضانية الطفولية – ورمضان لا يعني أكثر من تلك الذكريات الاجتماعية..

تقول إحدى الصحفيات المصرية عن ذكرياتها في رمضان – ونحن بذلك نؤكد أن رمضان أصبح لدينا فعلا مجرد مناسبة اجتماعية : ( تناهى إلى أذني صوت دقات الطبلة تتردد أصداؤها في الحي من بعيد ، تعالت الدقات مقترنة بصوت المسحراتي المؤثر " يا عباد الله.. وحدوا الله " اضطرب قلبي بمشاعر متناقضة وأنا أذكر أن الليلة هى أولى ليالي شهر رمضان، امتلأت الحجرة المظلمة حولى بالأطياف القادمة من زمن مضى ولن يعود، زمن الطفولة والفوانيس الملونة المضاءة بالشموع، وأغنية وحوي يا وحي ترتفع بها أصواتنا الرفيعة أنا وإخوتي في صحن البيت، وياميش رمضان يملأ جيوبنا ، وصواني الكنافة والقطائف والفطائر في المطبخ ندور حولها ونمد إليها أصابعنا الصغيرة في تلصص لنلعق السكر المعقود من خلف ظهر الوالدة الطيبة،ودوي مدفع الإفطار وصوت الآذان يتردد من فوق مآذن العباسية، والسفرة معدة وصوت الوالد القوي يرتفع بالدعاء، " اللهم إني لك صمت وعلى رزقك أفطرت " وصوت الراديو وهو يتعالى بأغنية يا ألف مرحب يا رمضان ، وروائح البخور تصل إلى أنوفنا من البيوت المجاورة لسبيل أم عباس ، وضحكاتنا المكتومة ونحن – الإخوة الأربعة – نعاكس بعضنا في الخفاء، واجتماعنا بعد الإفطار حول الوالد الجالس فوق سجادة الصلاة وبين يديه المصحف يقرأ القرآن.. دقات طبلة المسحراتي كانت وما تزال تملأ أذني وأنا جالسة على مقعدي محدقة في الكلام ، ومع إيقاع الطبلة الرتيب رأيت أطياف الماضي وهى تتلاشى كالدخان واحدا بعد الآخر .. فمع مضى الأيام والسنوات انسحب الوالد من الحياة ولحق به الخال .. وانكسر جمع الأحبة) .[151]

 

المبحث الثانى : من مظاهر إنعدام التقوى فى شهر رمضان ( المملوكى )

 بمراجعة الحوليات التاريخية التى تسجل أحداث العصر المملوكى سنويا وبترتيب الأشهر، لا نجد فارقا يُميّز شهر رمضان عن غيره من الأشهر . فى العصر المملوكى كان الظلم هو البطل بينما غابت التقوى ، حيث يحكم العسكر المماليك يحتكرون السلطة والثروة ، يعاونهم شيوخ فى الوظائف الدينية والديوانية ، وبالتالى فإن شهر رمضان لم يكن بدعا بين الأشهر ، إستمر الظلم والسلب والنهب بوجود الصيام وبغيابه أيضا. ونعطى لمحات سريعة :

الملمح الأول : صوم حواء فى العصر المملوكي

1 ــ قبل أن نتعرض لصيام حواء فى العصر المملوكي نتوقف قليلا مع قوام حواء المملوكية . هل ينتمي إلى فصيلة غصن البان ، أم فصيلة الجميز ؟. إن الصور المرسومة للعصر المملوكي على قلتها ـ تظهر فيها بعض الفتيات النحيفات ، ولكن ذلك ليس مقياسا ، المقياس فى نوعية الأكل ، ونتعرف عليه مما أورده الفقيه ابن الحاج فى كتابه " المدخل " الذي ينتقد فيه مظاهر الحياة الاجتماعية فى العصر المملوكي من وجهة نظره كفقيه ناقم . ونأخذ من كتابه إشارة هامة ، إنه ينتقد الجزارين ويقول إن ( بعضهم كان يغش اللحم ، فإذا كانت الذبيحة قليلة الشحم فإنه يجعل معها شحم غيرها لكي يرغب الناس فى شراء اللحم لكثرة الدهن فيه ) ، أى أن المفهوم عند الناس فى العصر المملوكي كان رفض اللحم الأحمر  ( البروتين ) ويفضل عليه اللحم الأبيض السمين .وكان ذلك عاما فى الرجال والنساء. وقد شهدت هذا فى طفولتى ، كانوا يرفضون اللحم الأحمر وحده ، ويقول المشترى للجزار : إنت فاكرنى عيّان ؟!. تفضيل اللحم السمين كان عاما ، وبالتالي فإن القوام الأنثوي كان يميل للسمنة.. وذلك مجرد استنتاج .أما الدليل الحاسم فهو ما أورده ابن الحاج من معلومات غريبة عن حواء المملوكية تحت عنوان عجيب يقول " فصل فيما يتعاطاه بعض النسوة من أسباب السمن ". يقول : ( إن بعضهن اتخذن عادة مذمومة، وهى أنها قبل النوم وبعد طعام العشاء تأخذن لباب الخبز وتجعله ثريدا تضيف إليه أشياء أخرى ولأنها لا تستطيع ابتلاعه بعد شبعها  فترغم نفسها على ابتلاعه بالماء .. وربما تعود إلى تجرع نفس الوصفة بعد النوم وقبل الفجر ..) . ويحكى ابن الحاج أن بعضهن كن يتعاطين وصفة بلدية تجعلهن أكثر سمنة ، وهى أكل الطين والطفلة الطينية مع بعض أدوية من العطار .. حتى يقل شبعها ويكثر التهامها الطعام ويزيد وزنها وتصبح أجمل الجميلات وفق مقياس العصر المملوكي . وقد أدى هذا الشحم الزائد إلى ظهور نماذج فريدة من المرأة المملوكية السمينة ، كانت بعضهن لا تستطيع أن تتوضأ أو تغتسل لأن ذراعيها أقصر من أن تصل إلى مواضع الطهارة ، وكانت إحداهن لا تستطيع الصلاة وهى قائمة فتضطر للصلاة جالسة ..

2 ــ وبالتالي كان صوم رمضان فريضة ثقيلة عليهن لذلك استنكر ابن الحاج أن بعضهن ـ وبعضهم ـ  كان يفطر فى نهار رمضان جهارا لأن البدانة فى العصر المملوكي كانت عادة سيئة للرجل والمرأة . وأصبح من العادات المذمومة ـ فيما يحكيه ابن الحاج ـ أن النساء البدينات يفطرن فى شهر رمضان حتى لا يفقدن بعض سمنهن ، وامتد ذلك إلى الفتيات الأبكار ، إذ كان أهلهن يرغموهن على الإفطار فى نهار رمضان " خيفة على تغير أجسامهن عن الحسن والسمنة " بتعبير ابن الحاج الذي يربط الحسن بالبدانة والسمن .

وبعض النساء كن يحافظن على صيام رمضان ، ومع ذلك فلم يسلمن من انتقاد ابن الحاج .. فبعضهن كانت إذا أتتها العادة الشهرية فى رمضان فإنها تصوم ولا تفطر ، ثم لا تقضى تلك الأيام التى كانت فيها حائض ، ويعللن ذلك بأنهن يصعب عليهن الصوم أو قضاء الصوم فى غير رمضان فى أيام الإفطار فيأكل الناس وهن يصمن .وبعضهن فى أيام الدورة يفطرن ثلاثة أيام فقط ، ويصمن المدة الباقية حتى مع استمرار الدورة ، بل إن ابن الحاج ينتقد النساء اللائي يصمن مدة الحيض ويقضين المدة صياما أيضا . ويراهن آثمات ومنهن من يفطرن فى تلك الأيام ولكن يكتفين فى الإفطار بتمرة أو أقل القليل من الطعام ، أى كأنها صائمة ، وذلك تجويع وتعذيب لا مبرر له .

3 ــ ومن المفيد أن نذكر أن التشريع فى الدين السُّنّى جرى على اعتبار الحيض من الأسباب التى توجب الإفطار فى رمضان ، وهذا خطأ يتناقض مع الاسلام . لأن القرآن يحصر الأعذار التى تبيح الفطر فى رمضان فى شيئين فقط ، وهما  السفر والمرض: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)) البقرة )   وللمريض والمسافر أن يصوم إذا استطاع لأنها مجرد رخصة ، والله تعالى يقول " (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ). زعمهم أن الحيض يقطع الصوم مردود عليه بقوله جل وعلا فى تشريع دية المؤمن المقتول خطأ :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) النساء ). فالقاتل هنا عليه تحرير رقبة مؤمنة فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين . فإن كان القاتل إمرأة فعليها صيام شهرين متتابعين ، وهذا تشريه إلاهى أنزله الخالق جل وعلا ، وهو الأعلم بمخلوقاته ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) الملك ). وقد خلق المرأة وجعلها تحيض ، فلو كان فى شرعه جل وعلا أن الحيض يقطع الصوم ويُبطله ما قال بوجوب أن يصوم القاتل أو القاتلة بالخطأ شهرين متتابعين ، لأن الدورة الشهرية لا بد أن تأتى حتما خلال هذين الشهرين المتتابعين . إن الحيض يحرّم فقط الالتقاء الجنسى بين الزوجين : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (223)  البقرة ).

إن الطهارة شرط فى الصلاة، : (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (43) النساء ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) المائدة ). وعندما ينزل المحيض فهو يدخل ضمن ما تتطهر منه المرأة عند خروجه كالبول والبراز الموجود أصلا داخل الجسد ، ولو فاجأها المحيض وهى تصلى فإن الحيض يقطع الصلاة ، ولا بد من الوضوء والتطهر، والعودة للصلاة بعدها . أما الصيام وباقي فرائض الإسلام من حج وزكاة فليست الطهارة شرطا فيها ولا يقطعها الحيض ، وعليه فإن الحائض ـ وفقا لتشريع القرآن ـ عليها أن تصوم .

4 ــ ونعود إلى ابن الحاج وانتقاده لصيام حواء فى العصر المملوكي . وهو يستنكر قيام بعضهن بالصوم فى رمضان ولكنهن يتركن الصلوات الخمس بدون عذر شرعي ، ويقول : إن بعضهن اعتدن ترك الصلاة ويعتقدن أن الصلاة لا تجب إلا على النساء المتقدمات فى السن ، فإذا نصحتهن أحد بالصلاة تقول : أعجوز رأيتني !! يقول ابن الحاج " فكأن الصلاة ليست بواجبة على الشابة .." ولأنّ صوم رمضان فى العصر المملوكي كان ـ ولا يزال ـ عادة اجتماعية مرتبطة بالسهر والمواسم الدينية وإحياء الليالي فى الأضرحة ولدى الأولياء مع الأطعمة المشهرة والسحور ومدفع الإفطار ورؤية الهلال ، لذلك فإن من اعتاد إهمال الصلاة نراه متمسكا بعادة الصوم فى رمضان .. وذلك ما استنكره الفقيه ابن الحاج على من يصوم ولا يصلى .

الملمح الثانى : الإحتكار في رمضان !!

1 ــ لم يكن شيطان الإحتكار ومصادرة أموال الناس يهدأ فى رمضان فى العصر المملوكي . والإحتكار والمصادرة سياسة مستقرة ثابتة فى عصر العسكر المملوكي ، وكان المنتظر أن يكون لرمضان أثره فى تخفيف الظلم فى شهر الصيام ، ولكن العقلية المملوكية وجدت حلا يتيح لها أن تستمر فى تيار الظلم هو أقتران الظلم بعمل الخيرات على مذهب القائل هذه نقرة وهذه نقرة ، إذا يصادرون الأموال ويبيحون شراء المناصب والرشوة ويحتكرون التجارة ، ثم تراهم من ذلك السحت يقيمون المؤسسات الدينية وينفقون على الطلبة والفقهاء والصوفية والأيتام . وكأنهم لم يعرفوا أن الله تعالى لا يقبل من الصدقات إلا ما كان من مال حلال ، يقول تعالى "( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) البقرة ) . فالله تعالى يأمرنا بالتصدق من الرزق الطيب الحلال ويحذرنا من الأنفاق من المال الخبيث الآتي عن طريق الظلم ..

الظلم المملوكي فى مصر والشام :

وأتخذ الظلم المملوكي من سكوت الناس وخضوعهم عاملا آخر ساعده على الانتشار ، وكان يحدث أحيانا أن يثور الناس على الظلم كما حدث فى رمضان 807 حين كثرت المصادرات والمظالم فى الشام ودمشق وقت اندلاع الخلاف بين الأمراء المماليك ، وفى ذلك الوقت فرض الأمير حسن نائب القدس على أهلها مالا فرفضوا دفعه فتركهم حتى اجتمعوا بالمسجد الأقصى وأغلق عليهم الأبواب وألزمهم بدفع الأموال ، فأبوا ، وحدثت معركة بينهم وبينه وقتل منهم بضعة عشر رجلا ،  ولكنهم تكاثروا عليه،  ففر منهم . فلما بلغ الخبر الأمير شيخ نائب الشام عزله وولى غيره. وأمير الشام وقتها – أو نائب الشام – الأمير شيخ هو الذي أصبح سلطانا فيما بعد تحت اسم المؤيد شيخ ، وكان كثير البر والصدقات ولكنه كان أيضا على شاكلة المماليك لا يخلوا من الظلم ولا يرى تعارضا بين هذا وذاك .

وفي رمضان 813 أفتتحه المماليك بمصادرة أموال الناس في دمشق فأخذوا من الخانات والحمامات والطواحين والحوانيت والبساتين أجرتها مقدما عن ثلاثة أشهر سوى ما أخذ قبل ذلك ، واتهموا بعض الناس بأن لديهم ودائع أودعها لديهم المماليك الشيخية من أتباع الأمير شيخ نائب الشام ، فأخذوا أولئك الناس وعاقبوهم بالضرب ليعترفوا بما لديهم من أموال مزعومة ، وفتشوا بيوتهم ..وفى نفس الوقت كانت القاهرة تئن من مظالم الأمير بكتمر جلق الذي ألزم المحتسب ابن الدميري بأن يجمع له ألفي دينار من الناس فى نظير أن يلزم الناس بشراء قمح بالسعر الذي يحدده ، وأغتصب أموالا من بعض تجار الشام بالقاهرة ، وأخذ من الأمير منقلي الأستادار ألف دينار ..والمفروض بعدها أن هذا الأمير بكتمر جلق كان صائما فى رمضان ويفطر على مظالم الناس ومصادرة أموالهم .!!

السلطان يحتكر الفلفل فى رمضان !!

والسلطان الأشرف برسباي الذي أقام الخانقاه الأشرفية على أنها من أعمال البر والذي فتح قبرص على أنها جهاد فى سبيل الله ، هو نفسه الذي عانى الناس في عهده من الإحتكار ومن شراهته للأموال . قال عنه المقريزي الذي عاش عصره ( كان له فى الشح والبخل والطمع من الجبن والجور وسوء الظن ومقت الرعية وكثرة التلون وسرعة التقلب فى الأمور وقلة الثبات أخبار لم نسمع بمثلها. وشمل بلاد مصر والشام فى أيامه الخراب وقلة الأموال ..).                                                              

هذا السلطان لم يمنعه شهر رمضان من مصادرة الفلفل على أمل بيعه لتجار أوروبا ، وكان الفلفل الأسود والبهارات من أثمن الأشياء ، وكانت تستوردها  أوروبا عبر الدولة المملوكية التى تحتكر استيرادها من الهند وأسيا . وقد قامت الكشوف الجغرافية وضمن أهدافها التخلص من إحتكار المسلمين لتلك التجارة بالوصول إلى الهند من طريق بعيد ، وبذلك أكتشفوا أمريكا ورأس الرجاء الصالح ..

ونعود إلى رمضان 835 وفيه صادر السلطان الأشرف برسباى فلفل التجار وأرغمهم على أن يبيعوه له بخمسين دينارا للحمل . وكان السلطان قد أرغمهم من قبل على أن يشتروا منه الفلفل فى أول السنة بسبعين دينارا للحمل . وأمر بأن تحتكر متاجر السلطان استيراد الفلفل الوارد من ميناء جده وغيره ، وأن لا يبيعه لتجار الفرنجة القادمين للإسكندرية غيره ، وبذلك أستخدم نفوذه فى أكل أموال التجار ، يقول المقريزى ( فنزل بالتجار من ذلك بلاء كبير) وجدير بالذكر أن رمضان فى العام بعد التالي 837 شهد ردود فعل غاضبة على جشع السلطان ، فقد أرسل ملك الفرنجة الكتيلان خطابا شديد اللهجة للسلطان برسباي لأنه ألزم التجار الفرنجة بأن يشتروا منه الفلفل من خلال المتجر السلطانى لا من التجار العاديين مما سبب لهم خسارة وقد غضب برسباى من تلك الرسالة ومزقها ..

ومن العادات السيئة للحكم العسكرى المملوكى وغير المملوكى أن المستبد العسكرى يستخدم نفوذه فى جمع المال بالتدخل فى الاقتصاد . لذا فإن ثقافة العسكر المملوكى لا تزال سائدة فى مصر منذ أن حكمها العسكر المصريون من عام 1952 ميلادية . أليس كذلك ؟ هو كذلك .!!

الملمح الثالث : تجارة العملة فى رمضان المملوكي

 1 ــ لم تختلف النقود المملوكية عن غيرها من حيث التقسيم الثلاثى المعهود : الدنانير الذهب ، والدراهم الفضة والفلوس النحاس . إلا أن النقود المملوكية تختلف عن غيرها فى أنها شهدت متغيرات شتى فى العيار والوزن والحجم خصوصا في الدينار الذهبي الذي هو قاعدة النقد ، بالإضافة إلى تعويم الدينار وخضوعه للعرض والطلب ، والأخطر من ذلك هو فوضى النقد التي أحدثها جشع المماليك ورغبتهم في الربح على حساب ثبات سعر العملة ثم دخول المزيفين أو ( الزغلية ) إلى ميدان سك النقود ، ومع أن السلطات المملوكية كانت تقف بالمرصاد لأولئك الزغلية وتقطع أيديهم أحيانا – إلا أن بعض المماليك كان يشارك في عملية التزييف ابتغاء الربح .

ولم يلحق التغيير فى الوزن والعيار والحجم الدينار الذهبي المملوكي وحده وإنما تعدى ذلك إلى الدرهم الفضى الذي لم يعد يدل على النقود الفضية الخالصة وإنما وصل به التغيير إلى أنه أصبح مدلولا هلاميا بين الفضة والنحاس ، ولحقته شتى الأسماء حسب اسم السلطان أو الأمير الذي يصدره أو مكان السك أو طبيعة الدرهم وحالته وقيمته . وأصبح ذلك التغير سمة أساسية فى الدراهم التى ظهرت فى الدولة المملوكية البرجية التى بدأت بالسلطان برقوق ، حيث التضخم والغلاء وجشع المماليك والاضطرابات الاقتصادية والمجاعات والأوبئة .

وقد ضرب السلطان برقوق " الذى أسس دولة المماليك البرجية" (الدراهم الظاهرية) سنة 789 كما ضرب الأمير نوروز دراهم ( نوروزيه ) في دمشق سنة 815 وضرب السلطان المؤيد شيخ الدراهم (المؤيدية) سنة 818 وضرب منها أجزاء أهمها النصف المؤيدي ، ثم ما لبث أن أصبح الدرهم المؤيدي نصف مؤيدي سنة 825 ، وكانت قيمة الدرهم المؤيدى 18 درهما من الفلوس ، وأصبح النصف المؤيدى يساوى تسعة من الدراهم الفلوس ، إذ أصبح هناك خلط بين الدرهم الفضة والدرهم الفلوس ، وتتغير قيمة أحدهما بالنسبة للآخر تبعا لاضطراب العملة واضطراب الحياة الاقتصادية فى ذلك الوقت . لذا أصبح من الضروري على كل من يبيع شيئا أن يحمل ميزانا لوزن النقود عند بيع العملات ، وأصبح من الألفاظ والمصطلحات المعهودة فى الحوليات التاريخية المملوكية أن يقال أن ( فلانا وزن كذا ) أى دفع كذا .. أي لجأوا للميزان حيث انعدمت الثقة فى العملة ..

والمؤسف أن تجارة العملة فى الدراهم الفضية شهدت نوعا من التناقص بسبب غلبة الدراهم النحاسية عليها حتى أصبحت الدراهم الفضة في معرض المزايدات بينما امتلأت الأسواق بالدنانير والفلوس النحاسية أو الدراهم النحاسية .

وفي الوقت الذي عانى فيه الدينار المملوكي من التغير فى الوزن والعيار والحجم مع عدم الدقة فى الصنع فان الدينار الأفرنتي كان أفضل منه فى جميع الحالات وكان سيد العملات الأجنبية فى الأسواق المملوكية ، والدينار الأفرنتي هو تلك العملة الذهبية التى قرر مجلس شيوخ البندقية إصدارها فى 31 أكتوبر سنة 1284 أي فى عهد السلطان قلاوون ، وانتشرت فى أوروبا باسم الدوكات (Ducat) بينما عرفت فى الدولة المملوكية بأسماء شتى منها : ( البندقي )، الدنانير( المشخصة) لما عليها من صور ، والأفرنتى وهو أشهر أسمائها ، ويشير المقريزي فى تاريخه السلوك إلى انه منذ سنه 800 هـ كثر تداول الدينار الأفرنتى وأصبح هو الدينار المطلوب فى التعامل ، مما ترتب عليه أن تسربت كميات من الذهب من الدولة المملوكية إلى البندقية لتسك منها تلك العملة الأفرنتية . وكان من الطبيعى أن تفوز الدنانير البندقية فى الأسواق المملوكية بما فيها من دقة الصنع والوزن الثابت (3.45 جراما ) والعيار المرتفع ، وذلك فى مقابل دينار مملوكى هزيل ليس له عيار ثابت  أو قطر محدد ، ثم هو دائم التغير فى الوزن ، لذا كان من السهل على التجار فى سوق العملة استلام الدينار الأفرنتى بالعدد دون حاجة إلى وزن ، أما الدنانير المملوكية فكان لابد من وزنها ، ثم قد يضطر أحدهم إلى إضافة قطع ذهبية أخرى لعلاج النقص فيها .

وكان من المعتاد أن تسك النقود النحاسية ( الفلوس ) لتقوم مقام ( الفكة) الصغيرة فى نفقات البيوت وشراء الخضروات وغير ذلك . وكان الدرهم يساوى 24 فلسا فى بداية الدولة المملوكية . ثم ضرب السلطان كتبغا فلوسا خفيفة الوزن ، وزنة الفلس الواحد يساوى وزن الدرهم الفضى ، والرطل من هذه الفلوس يساوى قيمة الدرهمين من الفضة ، وبدأت بذلك حكاية الوزن فى العملات . ولم يتقبل الباعة فكرة الوزن مما جعل الدولة تعاقب بعضهم لترغمهم على قبول تلك الفكرة ، ثم ضرب السلطان الناصر محمد فلوسا جديدة وقد حلت محل الفلوس الخفيفة التي أصدرها كتبغا التي تم جمعها من السوق .

وبعد موت آخر سلطان من المماليك البحرية من ذرية الناصر محمد بن قلاوون وقيام الدولة البرجية أنتشر الفساد فى سك الفلوس النحاسية أسوة بمنظومة الفساد الذى استشرى فى كل شىء برعاية السلطان برقوق أول سلطان برجى. وقد عهد برقوق إلى محمود الأستادار ضرب الفلوس فخلط النحاس بالحديد والرصاص ليحصل على المزيد من الربح ، وتكاثرت تلك الفلوس وسيطرت على الأسواق وطردت العملات الجيدة ، وكانت الدولة تستورد النحاس من أوروبا لتسكة عملات فلوسا ، بل وكانت ترغم الناس على بيع ما بأيديهم من العملات النحاسية السابقة والتى تحتوى على النسبة الأكبر من النحاس ، وتشتريها منهم بسعر رخيص ، ثم تدخلها دار السك فتخرج عملة جديدة أقل قيمة ولكن أعلى سعرا ويستفيد السلطان والأستادار من ذلك الفرق بينما يخسر الناس .

2 ــ كان ذلك هو حال العملة المملوكية . فهل كان لرمضان تأثيرة الإيجابى على مسئولى الدولة بحيث يجعلهم يرجعون للحق والعدل خلال شهر واحد فقط !؟ والجواب بالنفى . فالمماليك كانت لهم فلسفتهم الخاصة فى إعتياد الظلم مع بناء المؤسسات الدينية التي لا تزال شامخة حتى الآن وهم يرون أن ذلك يكفر عنهم مظالمهم . ومن هنا فقد أستمرت سياستهم النقدية فى رمضان أسوة بغيرة من الأشهر ، ونأخذ على ذلك بعض الأمثلة ..

يذكر المقريزي أنه في يوم الأربعاء 6 رمضان 811 صدر النداء بالقاهرة ألا يتعامل أحد بالذهب وهددوا من يبيع بالذهب، وأستدعى الأمير جمال الدين جميع التجار وكتب عليهم تعهدات بذلك فنزل بالناس ضرر عظيم – على حد قول المقريزي – لأن النقد الرابح هو الذهب وبه كان يتعامل جميع الناس ، وصدر النداء أيضا بمنع المصنوعات الذهبية والمصوغات فأستمر الحال على ذلك أياما. ثم نودى فى 21 رمضان بأن يتعامل الناس على أن يكون كل مثقال بمائة وعشرين درهما وأن يكون الدينار المشخص ( البندقى ) بمأئة درهم ، وترتب على ذلك أن أحتفظ الناس بالذهب فأرتفعت الأسعار إرتفاعا كبيرا

فالدولة المملوكية كانت تعانى من نقص فى الذهب بسبب إحتكار السلاطين لتجارة التوابل لأنفسهم ــ وسبق التعرض لذلك – مما أدى إلى ظهور نظام المقايضة فى التجارة بين المماليك والبندقية ، ولتعويض هذا النقص فى الذهب – فى الداخل ــ كانت تلك المحاولة التى حكاها المقريزي .

وقد تكرر ذلك يوم الخميس 15 رمضان 829 فى عصر السلطان برسباي أثناء زيادة الصراع الحربى مع القراصنة الفرنجة ، إذ نودي بمنع الناس من التعامل بالدنانير الافرنتية ولا بد من إحضارها إلى دار الضرب حتى يعاد سبكها وتهدد من يخالف ذلك ، يقول المقريزي إن الناس لم يأبهوا لهذا النداء لقلة ثبات الولاة على قرارتهم ، وكثرة القرارات المتضاربة .

ونتعرف على أسعار العملات في رمضان المملوكي في سنوات مختلفة : ففي رمضان سنة 803 ( فى بداية الدولة البرجية ) يحكى المقريزي أن أحوال الناس توقفت بسبب الذهب حيث بلغ سعر الدينار البندقى الأفرنتى 39 درهما من الفلوس فى السعر الرسمى عند الصيارفة بينما هو عند الناس 38 درهما فتناقص حتى وصل 35 درهما ، أى أن الدولة كانت تجمع دنانير البندقية بأعلى سعر . وإذا وصلنا إلى رمضان 806 وجدنا سعر الدينار الأفرنتى قد وصل إلى 70 درهما ، ثم إذا قفزنا إلى 9 رمضان سنة 819 فى سلطنة المؤيد شيخ وجدنا الدينار الأفرنتى قد وصل إلى 230 درهما وصدر النداء بعدم الزيادة فى سعره بعد أن أكتسح الدينار البندقى إمامه الدرهم المؤيدي الذي أصدره السلطان ، وهدد السلطان من يعصى هذا النداء ، ويقول المقريزى انه كثر الغبن من انحطاط النقود وتغيرها مع ثبات السعر ، أى التضخم ، فالعملة الأجنبية يزداد سعرها كل يوم والأسعار تتضاعف والعملات المحلية تتناقص قيمتها ( كما يحدث الآن تحت حكم العسكر المصرى ).!!..

وكان الحال فى الفلوس النحاسية أسوأ وهى العملة السائدة فى ذلك العصر ، ففى رمضان 807 تنازع المماليك فى دمشق فكثرت بها مصادرة الأموال وغلت الأسعار بسبب كثرة التغيير فى النقود النحاسية التى كثرت وصغر حجمها ، وتأخذ الدولة الفلوس القديمة بأرخص الأسعار ويعاد ضربها مزيفة بأغلى الأسعار ، وفى ذلك الوقت بلغ سعر الدينار البندقى 70 درهما .

وفى رمضان 811 كان الأمير شيخ واليا على الشام فأصدر فلوسا كل 6 منها بثمن درهم وترتب عليها كما يقول المقريزى أن شمل الضرر أهل مصر والشام ...

وفى 28 رمضان 826 جمع السلطان برسباى التجار والصيارفة بسبب الفلوس النحاس. فقد صدر سعر جديد للفلوس النحاسية كان منخفضا عن قيمة النحاس الموجود بها فجمعها التجار من أيدي الناس وصهروها وصنعوا منها الأوانى النحاسية وفصلوا منها بقية المعادن كل منها على حدة وأستعملوها فيما تصلح له ، وبعضهم صدرها إلى الحجاز واليمن والمغرب .. وبلغ سعر القنطار من تلك الفلوس 800 درهما .وربحوا منها كثيرا ، لذلك عزف الناس عن التعامل بها وفضلوا بيعها للتجار الذين يجمعونها بأعلى من سعرها الرسمى الذى حددته الدولة . وترتب على ذلك أن توقفت أحوال الناس ، فلما أجتمع السلطان بالتجار والصيارفة أستقر الرأي على أن تكون الفلوس المنقاة بتسعة دراهم الرطل بدلا من سبعة . وصدر النداء بعدم التعامل بغير ذلك ، ومن صدر شيئا منها للخارج عوقب ...!!!

ألا يذكرنا هذا بتدهور الجنيه المصرى أمام الدولار الأمريكى ؟ قبل حكم العسكر كان الجنيه المصرى يساوى عشرة من الدولار الأمريكى ..فكيف أصبح اليوم ؟ 

الملمح الأخير : السخرة والإصلاحات المعمارية فى رمضان المملوكي

1 ــ كانت الإصلاحات المعمارية وإقامة الجسور والكباري لا تنقطع فى شهر رمضان فى العصر المملوكي .. ونأخذ على ذلك بعض الأمثلة ..

فى  27 رمضان 722 يذكر المؤرخ ابن كثير أنه اكتملت عمارة الحمام الذي بناه بهاء الدين بن عليم بزقاق الماحية من جبل قاسيون بدمشق بالقرب من مسكنه ، وقد أنتفع به أهل الناحية ومن جاورهم .وفى يوم الاثنين 11 رمضان 811 شرع الأمير شيخ فى تعمير عدة مواضع داخل مدينة دمشق وكانت قد خربتها حروب تيمورلنك ، وألزم الأمير شيخ بعض السكان بتعمير بيوتهم المهدمة وشجعهم على بدء حركة تعمير في دمشق. وقام بعضهم فى رمضان 835 ببعض إصلاحات فى مكة المكرمة ـــ حيث كان الحجاز تابعا للسلطة المملوكية ــ إذا أجرى العين حتى دخلت مكة بعد ما ملأت البرك داخل باب المعلاة ومرت على سوق الليل إلى الصفا وأنتهت إلى باب إبراهيم وساحت من هناك فعم النفع بها وكثر الخير لشدة احتياج الناس بمكة وقتها إلى الماء وقلته أحيانا وغلاء سعره ، والسبب هو عدم صيانة البئر والعناية بها ، وأنتهى ذلك بتلك الإصلاحات التي أقامها بمكة تاجر محب للخير والإنفاق فى سبيل الله تعالى وهو سراج الدين عمر بن شمس الدين محمد بن المزلق الدمشقي .. وبذلك خلد اسمه فى التاريخ .

2 ــ ولا نتصور أن مثل هذا التاجر المحسن قد أرغم الناس على العمل لديه سخرة فى ذلك العمل الخيري ، ولكن تسخير الناس فى الأعمال الخيرية وعمليات الإصلاح كان سياسة مملوكية ، إذ كان المماليك لا يستريحون لفكرة دفع أجور للعمال " والحرافيش " والأسهل لديهم أن يأكلوا أموال الرعية وحقوق العمال ، حتى لو كان ذلك فى شهر الخير والثواب؛ شهر رمضان .

ففي رمضان 738: أنشأ الناصر محمد بن قلاوون جسرا على النيل فيما بين بولاق والزمالك حاليا ، وربما يكون موضعه الآن هو موضع كوبري أبو العلا. وكان ذلك المكان الذي أقيم فيه جسر الناصر محمد يسمى حكر ابن الأثير . وقد سماه المؤرخ أبو المحاسن فيما بعد جسر ابن الأثير . والسبب فى بناء هذا الجسر أن فيضان النيل وأمواجه كانت تفيض على شاطىء بولاق وتحدث أضرارا فى بيوت بولاق المطلة على النيل ، إلى درجة أنها هدمت جامع الخطيري فاحتيج إلى تجديده ، بل وأمر السلطان الناصر سكان بولاق الذين يطلون على النيل بعمل ( الزرابي). والزرابي هي حوائط ومصدات للماء يقيمها أصحاب البيوت القريبة من النيل، ومنها سلالم تصل ساكني تلك البيوت بالنيل . وأقام السكان تلك الزرابي تجاه بيوتهم . ولكن ذلك لم يفد شيئا.  وفي النهاية أمر السلطان بإحضار المهندسين من الصعيد والوجه البحري . وركب السلطان معهم مركبا فى النيل فى تلك المنطقة وتشاوروا فى الحل ثم أتفقوا على حفر خليج فى الجزيرة المقابلة لبولاق – حيث توجد الزمالك الآن – ويمتلىء ذلك الخليج بماء النيل ثم يقام جسر فى وسط النيل يكون سدا يتصل بالجزيرة ، فإذا زاد النيل جرى ماؤه فى الخليج وصده السد وجعله يتراجع إلى الشط الآخر ناحية إمبابة المقابلة لبولاق .

وأقتنع السلطان بالفكرة ولم يبق إلا التنفيذ . فأرسل السلطان من الغد إلى ( المشد) فى كل منطقة يجمع الرجال المسخرين بلا أجرة للعمل. و( المشد) هو الذى يتولى بالعنف والضرب تنفيذ الأوامر الرسمية . وجمعهم المشدون فقطعوا الحجارة من الجبل ، وقام آخرون بالسخرة  ــ أيضا ــ بحمل تلك الحجارة ويملأون بها المراكب ، وتأتي المراكب المحملة بالحجارة فيغرقونها بحمولتها فى المنطقة المراد ردمها حيث الجسر ، وعمل الجميع فى ذلك الجسر سخرة تحت يد الأميرين أقبغا عبد الواحد وبرسبغا الحاجب . وأمر السلطان والى القاهرة ( الوالى فى ذلك الوقت هو رئيس الشرطة ) بتسخير عوام القاهرة أيضا فى العمل . فكان المماليك يقبضون على الناس من الشوارع والأسواق والمساجد والجوامع ويأخذونهم للعمل تحت لهيب الأسواط وفى نهار رمضان. وهرب من أستطاع وأختفى من أستطاع .. يقول المقريزي يصف تلك السخرة : (  ووقع الإجتهاد فى العمل ، وأشتد الاستحثاث فيه حتى أن الرجل كان يخر إلى الأرض وهو يعمل لعجزه عن الحركة فتردم عليه رفقته الرمال فيموت من ساعته ، وأتفق حدوث هذا لخلائق كثيرة جدا ، وأقبغا راكب فى الحراقة- وهى سفينة حربية – يستعجل المراكب المشحونة بالحجارة ، والسلطان ينزل إليهم ويباشرهم ويغلظ على أقبغا ويحمله على السرعة واستنهاض العمل حتى أكمل فى مدة شهرين . ).  وأورد المقريزي عدد المراكب التي أغرقت بحمولتها فى النيل لبناء ذلك الجسر ، وأورد حمولتها من الحجارة ، ولكن لم يكن لديه حصر بأعداد الرجال الذين ماتوا فى تلك السخرة ، ولم يكن لديه عدد لأولئك الذين خرجوا أحياء بعد هذه السخرة ..!!

3       ــ وبالمناسبة كانت للماليك حيل عجيبة فى القبض على الناس واستخدامهم فى التسخير والعمل بلا أجرة .. ففي شهر ربيع الأول سنة 877 وفي سلطنة قايتباي كان المماليك يقومون ببناء جسر على النيل عند الجيزة وكانوا كالعادة يريدون الانتهاء منه بسرعة ، وأعوزتهم اليد العاملة ولجأوا إلى حيلة خبيثة لتوفير اليد العاملة بأسهل طريق ، وكانت القاهرة المملوكية وقتها تعج بآلاف العاطلين وآلاف الفلاحين الهاربين من القرى بسبب ظلم شيخ الخفر والعمدة و( المشد ) والخولى والكاشف ( مدير الاقليم ).ولكي يحشدوهم جميعا ليسخروهم في الحفر تفننوا فى حيلة شيطانية : جاءوا بشخص بريء وصلبوه على خشبه ودقوا المسامير فى أطرافه الأربعة وطافوا به فى شوارع القاهرة ينادون عليه : هذا جزاء من يقتل النفس التي حرمها الله ، فأجتمع الناس للتفرج عليه وساروا خلفه بالآلاف إلى موضع الحفر. وعندئذ كان العدد المطلوب قد تكامل فى نهاية الرحلة ، فقبض المماليك على الجمهور وسخروهم في العمل ..

4       ألا لعنة الله على الظالمين ..!!

 

 



[1]
إحياء جـ4/206.

[2]وثيقة مغلطاى الجمالى..

[3]إنباء الغمر 203.

[4]طبقات الشاذلية 88 .

[5]الدرر الكامنة جـ4/ 107.

[6]الطبقات الكبرى جـ2/12.

[7]التبر المسبوك 136.

[8]البدر الطالع جـ2/233.

[9]ذيل الدرر الكامنة مخطوط.

[12]إحياء جـ4/236 ويقصد (بالأسباب) أى نواحى السعى للإرتزاق التى جعلها الله سعيا في الرزق كالتجارة والفلاحة.

[13]إحياء جـ4/310 .

[14]إحياء جـ4/232.

[15]إحياء جـ4/232.

[16]إحياء جـ4/232.

[17]التنوير في إسقاط التدبير: تحقيق موسى على،عبد العال العرابي.دار التراث ص23.

[18]التنوير في إسقاط التدبير ص28 .

[19]التنوير في إسقاط التدبير ص25 .

[20]التنوير في إسقاط التدبير ص88.

[21]التنوير في إسقاط التدبير ص85، 87.

[22]التنوير 43.

[23]التنوير 48.

[24]التنوير 85.

[25]التنوير 90.

[26]التنوير 164.

[27]التنوير 165.

[28]التنوير 216.

[29]آداب العبودية 34. صحبة الأخيار 97.

[30]إحياء جـ4/ 230.

[31]إحياء جـ4/ 235.

[32]إحياء جـ4/231.

[33]إحياء جـ2/ 144 .

[34]التنوير 62: 63 .

[35]التنوير 63 .

[36]احياء جـ4 /181.

[37]احياء جـ4/181 .

[38]التنوير 242.

[41]التنوير 294.

[42]التنوير 160.

[43]مناقب المنوفى 21مخطوط.

[44]لطائف المنن 406 .

[45]احياء جـ4/ 230.

[46]احياء جـ2/ 17.

[47]احياء جـ3/207.

[48]التنوير 284: 286.

[49]التنوير 284: 286.

[50]هامش منسى

[51]هامش منسى

[52]احياء جـ4/233.

[53]احياء جـ3/211،212،220.

[54]احياء جـ4/229.

[55]احياء جـ4/235.

[56]روض الرياحين 67، 88، 150، 153، 229.

[57]مناقب الحنفى مخطوط 77: 79.

[58]احياء جـ4/186.

[59]احياء جـ3/66.

[60]احياء جـ4/ 181.

[61]احياء جـ4/233.

[62]احياء جـ2/212.

[63]احياء جـ4/182.

[64]احياء جـ4/201.

[65]احياء جـ2/220.

[66]احياء جـ4/232: 233.

[67]روض الرياحين 70، 71.

[68]احياء جـ4/233.

[69]احياء جـ2/82.

[70] روض الرياحين 69 ..

[71]تلبيس إبليس 178، 179، 180.

[72]تلبيس ابليس 179.               

[73] زيل ابن العراقى .مخطوط 236.

[74] السلوك جـ4/2/757.

[75] السلوك جـ4/2/676.

[76] هامش غير واضح (ممسوح)

[77] النجوم جـ15/170، 263.

[78] الضوء اللامع جـ3/217

[79] إنباء الهصر 458

[80] الكواكب السائرة جـ1/282.

[81] مناقب الحنفى مخطوط329: 330.

[82] مناقب الحنفى مخطوط 347: 348 الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/86.

[83] تلبيس إبليس 179.

[84] البحر المورود 126: 127،الطبقات الكبرى جـ2/61.

[85] البحر المورود 126: 127، الطبقات الكبرى جـ2/61.

[86] الطبقات الكبرى جـ2/90،جـ2/123.

[87] مناقب الحنفى 77ك79.

[88] الطبقات الكبرى جـ2/123.

[89] الطبقات الكبرى جـ1/93.

[90]الطبقات الكبرى جـ2/122.

[91] الطبقات الكبرى جـ2/119.

[92] الطبقات الكبرى جـ2/119.

[93] الكواكب السائرة جـ1/119.

[94] الكواكب السيارة 232.

[95] إنباء الغمر جـ3/264.

[96] إنباء الغمر جـ3/264.

[97]الخطط المقريزية جـ4/121.

[98] الطبقات الكبرى جـ2/61.

[99] رسالة فى مدعى الولاية 6.

[100] قواعد الصوقية جـ1 /79.

[101] لطائف المنن 224. الطبعة القديمة.

[102] لطائف المنن 224.الطبعة القديمة.

[103] لطائف المنن 193 الطبعة القديمة.

[104] لواقح الأنوار 307.

[105] قواعد الصوفية جـ1/83.

[106] لواقح الأنوار 309.

[107] المنن الصغرى .مخطوط 97.

[108] الرسالة القشيرية 4.

[109] مناقب المنوفى مخطوط 26، 27.

[110]الطبقات الكبرى جـ2/ 107 .

[111] شذرات الذهب جـ8/ 62 .

[112] الطبقات الكبرى جـ2/ 121 .

[113] لطائف المنن 493 الطبعة القديمة.           

[114] نفس المرجع والصفحة والطبعة

[115] شذرات الذهب ج7/:163

[116] تاريخ الجزري مخطوط ج1 / 490.

[117] إنباء الغمر ج3 / 377..

[118] ) المرجع السابق ج3/411

[119] الضوء اللامع ج4 / 255

[120] الطبقات الكبرى ج2/11

[121] البحر المورود339

[122] لواقح الأنوار 195 : 196 .

[123] لطائف المنن للشعراني 34. الطبعة القديمة.

[124] النجوم الزاهرة ج15/ 97 : 98، تاريخ ابن اياس ج 2 / 184 تحقيق محمد مصطفى

[125] أحمد أمين. قاموس العادات والتقاليد 137

[126] البحر المورود 127

[127] السبكي معيد النعم182 :183

[128]  إنباء الغمرج3/500

[129]  ذيل ابن العراقي.مخطوط154

[130]  نزهة النفوس ج2/425.

[131]. السلوك ج3/2/919

[132]  السلوك ج/4 /2/ 1037

[133] (7) تاريخ ابن اياس ج4/94

[134]  زيترستين. تاريخ سلاطين المماليك165

[135] البدر الطالع 373

[136] تاريخ ابن كثير ج14/105

[137] لطائف المنن503 الطبعة القديمة

[138] تاريخ قاضي شهبة مخطوط ج2 / 113

[139] تاريخ ابن اياس ج 4 / 108 ، 130 ، 250 :251

[140] تاريخ ابن اياس ج 4 / 108 ، 130 ، 250 :251

[141] تاريخ ابن اياس ج 4 / 108 ، 130 ، 250 :251 

[142] الطبقات الصغرى 56 ترجمة الشيخ على الشافعى

[143] الرسالة القشيرية 4

[144] تاريخ ابن الوردي ج2 /291 .

[145] عقد الجمان . مخطوط لوحة 469

[146] الطبقات الكبرى  ج2 / 135

[147] درر الغواص 62 .                                 

[148] حوادث الدهور ج2 / 302

[149] تاريخ ابن اياس ج2 / 341 تحقيق مصطفى

[150] الأبشيهي .المستظرف 37.                               

[151] حسن شاه . جريدة مايو عدد 19 السنة الأولى 6 / 7 / 1981.