اسماعيل والسودان

آحمد صبحي منصور في الخميس ٢٣ - أغسطس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

نص السؤال
هل صحيح أن الخديوى إسماعيل هو الذى اكتشف جنوب السودان وضمه الى مصر بعد أن تم ضم السودان من قبل الى مصر فى عهد محمد على باشا ؟ ولماذا اختلف الوضع بعد الثورة المصرية 1952 ؟
آحمد صبحي منصور
* فى عصر الخديوى اسماعيل ـ المفترى عليه ـ امتدت الحدود المصرية جنوبا إلى بحيرة فيكتوريا وحدود الحبشة وضمت مصر إليها سواحل الصومال وموانيها الهامة مصوع وزيلع بالإضافة إلى ما يعرف الآن بالسودان ، وقد قام الخديوى إسماعيل بتوسيع حدوده الجنوبية فى الصومال وعند خط الأستواء بحجة محاربة تجارة الرقيق ، ولكن النظرة المتعمقة فى تاريخ ذلك الرجل واصلاحاته وأفكاره تؤكد أن هدفه الحقيقى كان تأمين الحياة المصرية بالسيطرة على منابع النيل ، لذلك كان أمين باشا المكتشف الأوربى من أعوان إسماعيل باشا وواليه على مديرية خط الأستواء .. وصار السودان من الممتلكات المصرية ، وقبل الثورة كان لقب الملك فاروق هو ملك مصر والسودان ، وكان التأمين الإستراتيجى لمصر يعتمد على تقوية نفوذها ووجودها فى منابع النيل ، لأن النيل هو الحياة لمصر وبدونه تتحول مصر إلى صحراء جرداء.
* وبعد قيام اسرائيل التفتت مصر من الجنوب إلى الشرق ، وأعماها الصراع العربى الإسرائيلى عن مجالها الحيوى فى الجنوب ، وواكب ذلك قيام الثورة المصرية بزعامة شباب من العسكر فى بداية الثلاثينات من العمر شهدوا بأنفسهم هزيمة الجيش المصرى فى فلسطين وجاءوا منها بالرغبة فى تغيير نظام الحكم ، ولذلك كان أفدح وأول خطأ وقع فيه أولئك العسكر هو فصل السودان عن مصر وضياع العمق الإستراتيجى لمصر فى الجنوب وتهديد وجودها بترك منابع النيل فى يد غيرها ممن يكون بيده تدمير الحياة المصرية إذا شاء ..
ثم تفاقم الخطر بإنشاء السد العالى بالأكتفاء ببنائه دون الاهتمام بعلاج آثاره الجانبية، مع ما يعنيه ذلك من احتمال تدميره وإذا حدث ذلك ـ لا قدر الله ـ فسيغرق العمران المصرى كله حتى الإسكندرية ، ومن الخطورة أن تكون الحياة المصرية رهينة بذلك السد العالى ، وأن يكون ذلك السد العالي فى متناول أى قوة معادية فى السودان .
ومن أسف أن مشاكل مصر مع الشرق والغرب والشمال جذبت سياستها بعيدا عن الجنوب مصدر الحياة ، مما أتاح لأصابع اسرائيل أن تتوغل بنفوذها الى أثيوبيا وجنوب السودان حيث منابع النيل . وحاليا فإن أصابع ايران ليست بعيدة عن تهديد مصر فى مقتل من خلال علاقتها بالنظام الحاكم فى السودان ، وايران بعد تقزيم العراق لا ترى لها منافسا على زعامة المسلمين إلا مصر ، ولذلك تسللت إلى السودان الذى تركته مصر يبتعد عنها وتركت ظهرها مكشوفا عاريا لكل من أراد الكيد لها ..
إن بضعة قنابل سامة توضع فى النيل كفيلة بمحو الحياة المصرية ، أقول هذا والألم يخنقنى على مصر أقدم وأعظم وطن فى العالم .. ولكن لا بد من هذا القول كى ننتبه إلى خطورة الوضع فى الجنوب خصوصا وأن هذا القرن سوف يشهد حروبا تقوم بسبب الماء وستكون نقطة الماء أغلى من نقطة الدم أو نقطة النفط ، وعليه فإن مسألة السودان ومنابع النيل ينبغى أن تقفز إلى أولويات الأستراتيجة المصرية منذ الآن وينبغى أن تقوم على أسس محددة خارجيا وداخليا ، بالعمل فى داخل مصر على حماية السد العالى وتطويره وإنشاء مجرى مائى آخر يخترق الصحراء الغربية موازيا لمجرى النيل وفى صورة متعرجة ليروى أكبر كمية من الأرض ويقيم حولها مجتمعات حضارية جديدة تسهم فى تعديل الخريطة السكانية وتعديل الظروف المناخية والبشرية فى الواحات وفى نفس الوقت تسحب الطمى المترسب خلف السد وتخفف من الضغط عليه وتنقل ذلك الطمى ليبعث الحياة فى تربة الصحراء . وربما لا تصل تكلفة ذلك المشروع الحيوى إلى ما دفعناه فى بناء مترو الأنفاق وشبكات الصرف الصحى والكبارى فى القاهرة ، مع أن العائد الأقتصادى والهدف الاستراتيجى من إنشاء مجرى آخر للنيل فى الصحراء الغربية أكبر من أن يقدر بمال ..
هذا من نحاية الداخل ، أما من الخارج فلا بد من إقامة علاقة وثيقة بالسودان بأى طريق حتى يعود السودان كما كان جزءا من مصر وشقيقا لها بدون أى حساسيات أو فوارق ، فعناصر التكامل البشرى والأقتصادى والسياسى بين مصر والسودان لا تحتاج إلى عبارات إنشائية ، ولقد جربت مصر مشاريع الوحدة مع غير السودان فما ربحت إلا الفشل لأنها مشاريع وحدوية على أسس من القصائد الشعرية.
أما وحدة النيل فإن عمرها يمتد منذ عهد حتشبسوت التى وصلت إلى الصومال والسودان وأقامت أول وحدة على أساس النيل شريان الحياة المصرية ...
السودان منذ استقلاله عن مصر لم يجن إلا الخراب والمجاعات مع أنه أغنى البلاد العربية فى موارده الطبيعية .أما الصومال وارتريا و اثيوبيا فلا تزال كلها فى مشاكل وخراب.
لقد كان الخديوى إسماعيل سابقا لتفكير عصره فيما أقامه من قصور ومنشئآت وفيما أرسل من جيوش وحملات .. وكشأن أى إنسان يسبق عصره فإنه يلفظه عصره ، وحكام الثورة عاشوا فى القصور التى أنشأها إسماعيل وأفتخروا بمنشئآته ومنجزاته ومع ذلك اتهموه بالسرف والتبذير ...مع أنه استدان القليل لتحديث مصر وتطويرها .. ولم يأخذ عمولة !!
اجمالي القراءات 18624