في ملكوت الإخوان

كمال غبريال في الخميس ٠٩ - أغسطس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 


في مملكة مصر الإخوانية لا ينبغي أن نتعجب من غرائب ما نشاهد، فبعد أن كان "البيت بيتنا" هو اسم برنامج تليفزيوني، صار الآن هو الشعار الذي يردده الإرهابيون لأنفسهم وقد صارت مصر لهم وهم لها، فلا عجب إذن أن يتدفق السلاح المهرب من السودان جنوباً ومن ليبيا شرقاً، حتى يصل إلى مملكة القاعدة الحمساوية في سيناء، ليقوم المجاهدون في سبيل الله باغتيال جنودنا على الحدود وقت الإفطار صائحين "الله أكبر يا خونة"، فما كان هذا ليحدث لولا أن القاهرة قد صارت "بيت الإرهابيين ومطرحهم"، فهي التي استقدمت كوادرهم المطاردة من كافة أنحاء العالم، وتطالب الآن بالإفراج عن كبيرهم عمر عبد الرحمن من سجنه الأمريكي، وهي التي تطلق الإرهابيين من سجونهم، وتصرف لهم التعويضات عما ألحقه بهم نظام حسني مبارك من ظلم، حين منعهم من ممارسة الجهاد بقتل الأبرياء المصريين والسياح الأجانب، فتكفي الإرهابيين مشقة البحث عن مصادر خارجية لتمويل جهادهم المقدس، فالخزانة المصرية أيضاً صارت خزانتهم، وإذا كانت مسرحية "ريا وسكينة" قد عرضت لنا السفاحتين الشهيرتين عندما تزوجت إحداهن شرطي في قسم البوليس المجاور لهن يتغنين قائلتين "ناسبنا الحكومة وبقينا قرايب"، فهكذا أيضاً يتغنى الآن قادة حماس وقد أصبحوا أصهار القادة المجاهدين في القاهرة، وتحقق المثل المصري القائل "بقى زيتنا في دقيقنا". . ليست سيناء وحدها التي صارت مملكة للإرهابيين، فما يجري في قلب مصر لا يقل عن ذلك.
فور تكليفه بالوزارة تطالعنا الجرائد والمواقع الإلكترونية: "أحمد جمال الدين وزير الداخلية: أحداث دهشور ليست فتنة طائفية ولكنها مشاجرة. . والأقباط تركوا منازلهم بإرادتهم ولم يتم تهجيرهم" (ربما توجهوا للمصايف)، ماذا يمكننا أن نقول غير أن هذا هو فن التدليس الذي اعتدناه طوال عقود سوداء خلت، ويبدو كأن إتقانه مهارة مطلوبة لكل من يتصدى للحكم في مصر، ذلك مهما اختلفت العهود وتبدلت أو انقلبت الرايات والشعارات، وإذا كان سيادته يستهل عمله بالتعمية على ما حدث للأقباط في دهشور، رغم أنه غير مسؤول شخصياً عن الأحداث، فهل نفهم من هذا أن عهده سيكون مفرمة ومطحنة للأقباط، أم سيكون الحال هو مجرد استمرار لما كان، اعتداءات وتفجيرات وإنكار وتدليس وتبويس لحى، وأناشيد ممجوجة عن وحدة وطنية لم يعد أحد يصدق وجودها؟!
يحق لنا بداية أن نتساءل إن كان الجهاد في دهشور في سبيل الله أم في سبيل القميص الذي حرقه المكوجي المسيحي، أم هي البلطجة والنهب باسم الإله، أم هي كل هذا معاً وكما يقول المثل المصري "فرح جنب طهور"!!. . أنا شخصياً لا أستغرب ولا أستنكر تأخر رد المبجل د. محمد مرسي رئيس جمهورية الثورة على أحداث دهشور، إذ أرى هذا التأخير أمراً طبيعياً، فدائماً صدى الصوت يأتي بعد الصوت ذاته، ذلك الصوت الذي يجب أن يصدر من مكتب الإرشاد وفضيلة رئيسه أستاذ الطب البيطري، وطبيعي أيضاً أن تطالعنا وسائل الإعلام: "أسقف الجيزة: أرسلنا وفداً من الكهنة للرئيس ولكنه أمتنع عن مقابلتهم"، فلماذا لا يعاملهم معاملة العبيد الأذلاء التافهين، وهي معاملة ربما كانت أكرم مما يستحقون، فحسناً أن لم يرسل الحرس الجمهوري ليطردهم من أمام قصره المنيف شر طردة، مادموا يسارعون دوماً بتقديم فرائض الخنوع، ويتطوعون بتخدير الأقباط ليظلوا أبداً جثة هامدة، وضرعاً يحلبون منه الثروة والتقديس لذواتهم التي تعاظمت في عيون شعب يقتات على الجهالات والخرافات؟!
هكذا أيضاً واستكمالاً للتدليس على مستوى دولي تصدر الإدارة الأمريكية تقريراً يدين ضعف الحريات الدينية في مصر، فيما هي تدعم سيطرة الظلاميين على البلاد، وكالمعتاد نجد المشعلجية العروبجيين واليساريين من حرافيش الشارع السياسي المصري ينددون بالتقرير الأمريكي ويتحدثون عن السيادة المصرية، وبالتأكيد سيسارع الأساقفة أصحاب النيافة في رفض التدخل الخارجي، والتصريح بجرعة الشعارات والعبارات التي حفظوها عن ظهر قلب كما يحفظ البلياتشو في السيرك مونولوجه. . ليس في هذا أي جديد نشهده بعد ثورة الإخوان، غير انقطاع الأمل في الإصلاح، فهي الدولة الدينية الإسلامية التي لابد وأن تلزم الأقباط أضيق الطريق، والتي تعتبر الأقباط في أسوأ الأحوال كفاراً أعداء لله ولرسوله، وتعتبرهم في أحسن الأحوال أهل ذمة يكرمون كضيوف وليس كشركاء وطن، لكن ليتنا على الأقل نكف عن التدليس في تسمية وتوصيف الأحداث، فما يجري هو اعتداءات طائفية وليس فتنة طائفية، ففي الفتنة يتصارع فريقان أو أكثر، لكن الاعتداءات تكون من طرف يستقوى ويستجرم ضد طرف ذليل مستضعف.
الذين يتعجبون ويتندرون على تراجع الإخوان وتناقضهم مع مواقفهم السابقة عليهم أن يتأملوا قليلاً في صلب فكر ومواقف الإخوان، وليس في تصريحاتهم التي يطلقونها للاستهلاك الإعلامي، أو في مواقفهم التكتيكية، فصلب فكرهم ونضالهم طوال العقود الماضية لم يكن أبداً من أجل قضية جوهرية تمس حياة الشعب، هم فقط معنيون ببعض مظاهر التدين التي تكفل لهم التحكم في الناس باسم الله، وأغلبها تتمحور حول جسد المرأة، بجانب حصولهم على السلطة ولو عبر السيطرة على الحاكم وتحريكه كما الدمية، أما المواقف التكتيكية التي يلبسون فيها رداء الدفاع عن قضايا حقيقية تمس حياة الشعب فسرعان ما يخلعونها أو يرتدون المضاد لها عند أقرب محطة، حتى الشعارات السياسية الحمقاء التي كانوا يرفعونها، نراهم وقد أداروا لها ظهورهم، تحاشياً للاصطدام بمن لا قبل لهم بالاصطدام به، ولدينا أبسط مثال لهذا قضية تصدير الغاز الطبيعي لإسرائيل، التي أقاموا عليها الدنيا ولم يقعدوها إلا بعد أن دان لهم الأمر.
لا نظن أن خراب البلاد سيعجل بنهاية حكم الإخوان، بالعكس فكلما خربت كلما ازدادت مخالبهم تمكناً منها، ولا تخرب البلاد إلا إذا صار أسافل الناس فيها حكاماً لها. . لقد تخوف المجلس العسكري والمجتمع الدولي من احتراق البلد إذا نجح أحمد شفيق، ولم يكترثوا بإظلامها إذا تولى مرسي ومكتب إرشاده، فحينما أطلقنا عليهم لقب ظلاميين كنا نقصد المعنى الرمزي، لكنهم أخذوا المعنى الحرفي وأظلموها، ليعيش المصريون على أضواء الشموع!!
يبدو الأمر أزمة ضمير فردي وشعبي جماعي قد تلوث بفعل التبشير بأفكار وحشية على مدى عقود طويلة من نشاط جماعة الإخوان المسلمين، وما تخرج منها من جماعات أكثر وضوحاً وجرأة في إعلان وتنفيذ ما يؤمن به الجميع، وما تعلمته في مدرسة الإخوان المسلمين، فصار الآخر شيطاناً مريداً يستباح دمه وماله وعرضه، بل ويتم التقرب لله عبر إيذائه وسفك دمه، ومن ناحية أخرى صارت التقوى مظهرية متمثلة في الأزياء وأداء الطقوس، بمعزل عن المحتوى المفترض فيه أن يشمل مكارم الأخلاق وجلب الخير للإنسان والإنسانية، تلك المكارم التي نستطيع نسبتها فقط للضمير الإنساني، فالضمير الإنساني built- in، تنبع قيمه من معايير الإنسان التي يرى فيها إعمار الكون وصلاح أحواله، في مقابل ضمير المتدين المظهري الذي يمكن اعتبار أنه يتشكل وفق منهج copy & paste، فنجده يعتمد على النقل والالتزام المظهري دونما اعتبار للنتائج العملية التي قد تكون بالغة التردي، كتلك التي نشهدها الآن. . لا موجب إذن للدهشة من خبر يقول: "خطيب مسجد بدهشور: اقتحام منازل الأقباط حرام شرعًا"، يبدو الخبر مستفزاً أو مضحكاً، حين يكون أمر اقتحام منازل مواطنين مسالمين يحتاج إلى فتوى، فهنا يتضح جلياً ما نعتبره أزمة ضمير، حين نجد أن أبسط مبادئ الأخلاق أو التعايش الإنساني بين البشر تحتاج من المصريين في القرن الحادي والعشرين إلى فتوى، لكن هذا هو الواقع المصري المفجع، لشعب تشكل ضميره بطريقة copy & paste، وقد توافرت المقولات التي ينسخ منها، والتي تقول "أن أموال وأرواح وأعراض النصارى أعداء الله حلال للمجاهدين في سبيل الله"، لذا تفضل هذا الشيخ الكريم بعد تمام وانتهاء أحداث الحرق والنهب لممتلكات ومنازل الأقباط في دهشور، بأن يخرج علينا بفتواه الكريمة، علها تجد أحداً يقدم على نسخها في ضميره!!
ربما كانت أي محاولة لإصلاح ما يعرف بالعالم العربي ليست أكثر من مناطحة الصخر، وترجع إلى الجهل بطبيعة هذه الشعوب جنساً وثقافة، فالأحجار تأبى إلا السقوط.
الولايات المتحدة- نيوجرسي
اجمالي القراءات 6822