طريقة ابن الصيرفى فى عرض المادة التاريخية

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٢٣ - يوليو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

 

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة فى عصر السلطان قايتباى ): دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .  .

الفصل التمهيدى : ثامنا : طريقة ابن الصيرفى فى عرض المادة التاريخية

1 ـ سار ابن الصيرفي على الطريقة التقليدية في الحوليات التاريخية، حتى لا نجد فارقاً في طريقة العرض بينه وبين المقريزى في السلوك. كان يبدأ أحداث كل عام بافتتاحية فيها توزيع المناصب الرسمية في الدولة من الخليفة العباسي الذى ليس له من الخلافة إلى الاسم والذى كان تابعا مطيعا للسلطان المملوكى الحاكم الفعلى المستبد بالأمر ، ثم السلطان- وهو قايتباى ، ثم أسماء القضاة الأربعة والأمراء المماليك حسب درجاتهم وباقى الوظائف في مصر والشام وملوك الحجاز والمشرق. وإذا كان هناك تغيير جدّ في بعض المناصب يذكره في السنة التالية وإذا لم يكن ثمة تغيير يقول، "وقضاة القضاة والأمراء والمباشرون والنواب على حالهم خلا ما ذكر في حوادث السنة الماضية فلا فائدة إلى إعادتهم وذكرهم"([1]). ويحرص في ذكر المناصب على تقرير الألقاب الرسمية المصاحبة لكل منصب. وبعد الافتتاحية تأتى حوادث كل شهر بالشهور العربية حسب ترتيبها ؛ محرم ثم صفر ... هكذا ..وفي داخل كل شهر يذكر الأحداث مرتبة حسب وقتها وباليوم وبالترتيب، يقول مثلاً تحت عنوان "المحرم": "أهل بالخميس وفيه –أى في أوله- صعد قضاة القضاة للقلعة لتهنئة السلطان بالشهر على العادة". واليوم الذى لا حوادث فيه لا يذكره، فاليوم الثانى من شهر المحرم السابق ليس مذكوراَ وإنما يقول بعد ذكره لحوادث أول محرم: ( وفي ثالثة الذى هو السبت خلع على عبد الكريم.. إلخ([2]) ويتوالى ذكر الحوادث،  وهكذا باقى أيام الشهر والشهور التالية. وبعد انتهاء حوادث العام يأتى ذكر الوفيات، أو ترجمته لمن توفي في ذلك العام تحت عنوان "ذكر من بلغتنا وفاته في هذه السنة من الأعيان" ويذكرهم حسب ترتيب حروف الهجاء لا حسب الترتيب الزمني في وقت الوفاة. وبعد الوفيات يبدأ السنة التالية بالإفتتاحية ثم بالحوادث ثم بالوفيات وهكذا. وأحياناً يذكر في الحوادث بعض الوفيات الهامة ثم يعيد ما ذكره في الوفيات([3]). وأحياناً يكتفي بتلك الوفيات المذكورة في الحوادث فلا يذكره ضمن الوفيات([4]).

2 ـ وسار ابن الصيرفى أيضا على الطريقة التقليدية للمؤرخ الذى يعيش عصره يسجل أحداث عصره منفعلا ومتأثرا بما يستجدّ فيها من أحداث تستحق الذكر . ففيما عدا أخبار السلطان وأرباب الحكم فإن المؤرخ لا يسجل من أخبار وأحداث المجتمع إلا ما يستحق الاهتمام ، ثم إنه ليس ممكنا أن يسجل هذا المؤرخ المعاصر كل الأحداث التى تجرى ، حتى ما كان يقع منها أمام عينيه ،هو هنا أشبه بالصحفى الذى لا يسجل أن كلبا قام بعض الاستاذ فلان، ولكنه يسجل الخبر لو كان الاستاذ فلان هو الذى قام بعض الكلب . أى لا بد للخبر أن يكون مهما وغريبا حتى يستحق التسجيل . هذه قاعدة حاكمة فى التأريخ تسرى على كل المؤرخين ، وتسرى بالتالى على مؤرخنا الصيرفى . وقد تأثر بهذا تسجيل دقائق الحياة الاجتماعية وحركة المجتمع وعاداته ، وكان يحدث أن تسود ظاهرة اجتماعية معينة فى السلوك والحياة الدينية وتظل سائدة تغلّف حياة الناس وتصبح ضمن العادات والتقاليد الى يعايشها الناس ويتنفسها المجتمع ، ويأتى المؤرخ ( الحولى ) الذى يسجل أحداث عصره بالعام والحول فلا يجد هذه العادة تستحق التسجيل لأنه عادة ولأنها ( ما وجدنا عليه آباءنا ) ولأنها ـ فى إعتقاده ـ معروفة للكافة . وبإهماله تسجيل تلك العادات والسلوكيات يرتكب خطأ فادحا لو جاء وقت وانتهت تلك العادة وانصرف عنها الناس . بهذا ضاعت حقائق تاريخية إجتماعية كثيرة سادت ثم بادت إزدهرت ثم اندثرت لأن المؤرخين رأوا أنها لا تستحق التسجيل .

3 ـ وهنا نذكر بالشكر والتقدير شيخ مؤرخى العصر المملوكى المقريزى الذى أوسع ( لبعض وليس كل ) ملامح الحياة الاجتماعية المصرية فى كتابه (الخطط) وفى تأريخه ( السلوك ) وبعض رسائله الصغيرة . ولسنا فى مقام التوسع فى هذا الموضوع فهو يستحق بحثا قائما بذاته لما سجله المقريزى من ملامح اجتماعية مصرية سادت ثم بادت وازدهرت ثم اندثرت ولم يبق منها إلا ما سجله المقريزى فى كتاباته . ونتمنى أن يتفرغ لهذا البحث أحد طلاب الدكتوراه ليوفيه حقه . وعلى أى حال ، فبهذا التميز ( المقريزى ) ينفرد (المقريزى) . ولا نتصور من مؤرخ فى مستوى ابن الصيرفى أن يصل الى هذا المستوى .

4 ـ على أن ما أهمله المؤرخون الحوليون ( المحليون ) قامت بتعويضه بعض الشىء كتابات أخرى ، لم يكن القصد منها أن تكون تأريخا لعصرها ، ولكن أوردت بعض الحقائق الاجتماعية ضمن تخصصها بدون هدف التأريخ ، ولكن الباحث التاريخى يستنطق هذه الكتابات ليستشفّ منها حقائق تاريخية اجتماعية مسكوتا عنها من جانب المؤرخين المعاصرين لها . وقد أوسعنا فى بحث هذا فى كتابنا ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية ) والذى كان مقررا على طلبة قسم التاريخ فى جامعة الأزهر عام 1984 . وسننشره هنا بعونه جل وعلا . ولكننا فى هذه العجالة ونحن ننهى هذا الفصل التمهيدى عن هذا المؤرخ المجهول ابن الصيرفى وكتابه : ( إنباء الهصر فى أنباء العصر ). نعطى لمحة سريعة عمّا أهمله الصيرفى وهو يؤرخ للحياة اليومية المصرية تحت ظل تطبيق الشريعة فى عصر السلطان قايتباى .

5 ـ أهمل ابن الصيرفى فى تسجيله اليومى أخبار الانحلال الخلقى المتستر بالدين وبالنقاب الذى كان عادة اجتماعية دينية أتاحت للمرأة فى هذا العصر أن تمارس الانحلال الخلقى ما شاءت ( وما شاء لها الهوى ) على حد قول أبى فراس الحمدانى فى قصيدته ( أراك عصىّ الدمع ). المقريزى بعبقريته المتفردة خرج عن المألوف وسجّل لمحات فى ( الخطط ). يقول فيه عن المصريين فى ذلك العصر: ( ومن أخلاقهم الانهماك فى الشهوات والامعان فى الملاذ وكثرة الاستهتار وعدم المبالاة ، وقال لى شيخنا عبدالرحمن بن خلدون ان أهل مصر كأنما فرغوا من الحساب " . أى فرغ حسابهم فى الآخرة وضمنوا الجنة ولم يعودوا ملتزمين بأى التزام خلقى أو دينى. وسجل المقريزى تعجب شيخه ابن خلدون حين فوجىء بمظاهر الانحلال المعتاد و الطاغى فى شوارع القاهرة دون ان يستنكره أحد من علماء الشرع وقتها، فقال متعجبا عن القاهرة " ولا ينكر فيها اظهار أوانى الخمر ولا آلات الطرب..ولا تبرج النساء العواهر ولا غير ذلك مما ينكر فى بلاد المغرب).    

تأثر المقريزى بتلك الملاحظة التى قالها شيخه عبد الرحمن بن خلدون فحكى بعض عجائب الانحلال الخلقى فى ( الخطط المقريزية ) وقت أن كان النقاب هو الرداء الشرعى للمرأة ، ولا سبيل لخروجها بدونه، وتحت  النقاب كان فجور المرأة علنا فى الشوارع طالما لا يتعرف عليها أحد. يقول المقريزى فى الخطط : ولقد كنا نسمع ان من الناس من يقوم خلف الشاب أو المرأة عند التمشى بعد العشاء بين القصرين ، ويجامع ( أى يمارس الجنس مع المرأة أو الشذوذ الجنسى مع الشاب ) حتى يقضى وطره وهما ماشيان من غير أن يدركهما أحد لشدة الزحام واشتغال كل أحد بلهوه ..).

6 ـ وهنا ندخل على نوع آخر من الكتابة التى لم يقصد منها أن تكون تاريخا ولكن سجلت بدون قصد ملامح لحياة اجتماعية لم يهتم بتسجيل دقائقها المؤرخون المحليون مثل ابن الصيرفى .قبل مجىء ابن خلدون جاء لمصر فقيه مغربى آخر هو ( ابن الحاج العبدرى ) ( ت سنة 737 ) وكتب فيها أروع الكتب الفقهيه وهو ( المدخل ) فى ثلاثة أجزاء ، واتبع فيه ما أسميته بالفقه الوعظى, أى ان الفقيه لا يتكلم فى الفقه بالمنهج التصورى والتخيلى مثل ( من فعل كذا فحكمه كذا ) ولكن بالمنهج الواقعى ، حيث ينظر الفقيه الى ما يجرى فى الواقع ويذكره ويعلق عليه منبها على خروجه عن الشرع مستخدما لغة الوعظ والارشاد. والفقه الوعظى بهذه الطريقة سجل الكثير من خفايا الحياة الاجتماعية التى اعتاد تجاهلها المؤرخون المتخصصون. ولذلك فان كتاب ( المدخل ) فى الفقه لابن الحاج يحوى بين سطوره معلومات تاريخية ثمينة عن الحياة الاجتماعية والدينية والاقتصادية فى مصر المملوكية. ومنها مظاهر الانحلال الاخلاقى الذى كان يجرى تحت النقاب وهو الزى الرسمى والشعبى للمرأة فى العصرالمملوكى فى مصر وخارجها. وطبقا لما ذكره فى معرض الاحتجاج والوعظ فإن المرأة فى القاهرة المملوكية كانت لها حرية الخروج من بيتها كل أيام الاسبوع عدا يوم واحد ، وانها كانت تخرج من بيتها متنقبة فاذا ابتعدت عنه أسفرت عن وجهها وخالطت،اى صاحبت الرجال حيث لايعرفها أحد، فاذا عادت واقتربت من بيتها تنقبت .وأقول إنه من هذه الحال الفريدة جاء التعبير المصرى عن المرأة الفاجرة ( دايرة على حل شعرها ) أى طالما هى فى المجتمع الذى يعرفها فهى متنقبة ، فاذا خرجت من نطاقه خلعت النقاب ودارت هنا وهناك تبحث عن صيد من الرجال و حلّت شعرها لدى أول طالب لها. وكان هذا حال معظم النساء التى تحدث عنهن ابن الحاج وغيره فى العصر المملوكى، وبالنقاب كانت المراة تخرج الى الموالد والافراح والى القرافة ( أى مدافن القاهرة ) وحفلات الأذكار الموسيقية التى يختلط فيها الذكر الصوفى بالرقص والطرب وتناول الحشيش و ممارسة الفواحش العادية والشاذة. وكانت تلك مفردات الحياة الاجتماعية المملوكية ، ظاهرها التدين باقامة الموالد والأذكار وزيارة الأولياء الأحياء وأضرحة الموتى منهم وقبورهم المقدسة، وباطنها الانحلال الخلقى . وفى هذه المسرحية العبثية كان البطل الأعظم هو النقاب الذى يعلن الفضيلة ويخفى الرذيلة..

وندخل بهذا الى دور المؤسسات الدينية الصوفية فى نشر الانحلال الخلقى حيث كانوا يتخذونها وكرا للتلاقى ، والمصدر الذى يؤكد هذا هو وثائق الوقف على تلك المؤسسات التى لم تقصد التسجيل التاريخى ، ولكن بسبب شهرة إتخاذ تلك المؤسسات الدينية الصوفية وكرا للإنحلال الخلقى فقد كانت وثاق الوقف عليها   تشترط تعيين خفراء لطرد راغبى المتعة الحرام منها !!!

ثم نأتى لأهم مصدر لتسجيل الحياة الاجتماعية التى أهملها المؤرخون المحليون ومنهم ابن الصيرفى . وهو كتابات الرحالة. فالرحالة يأتى يحمل ثقافته ووطنه فى داخله ، ويدخل البلد الجديد بعقل مفتوح وعين ترصد كل شىء واستعداد لتسجيل كل ما يراه مخالفا لثقافته، وهو يركز على الشارع والمجتمع وليس على السلطان.  ومع أنه لا يقصد أن يكتب تأريخا لهذا البلد بل مجرد تسجيل لرحلته ، فإنّ كتابات الرحالة زاد ثمين فى التاريخ الاجتماعى يعوّض نقص تاريخ ابن الصيرفى وغيره. من الظواهر الاجتماعية فى الانحلال الخلقى فى المجتمعات الشرقية والتى نتجت عن عادة النقاب للمرأة أنه ترسب فى شعور الشرقيات أن أهم الالتزامات الخلقية هو إخفاء الوجه دون تقيد كبير بعفة الجسد أو حتى بتغطيته، وظل ذلك سائدا حتى العصر العثمانى وسجله الرحالة كارستن نيبور الذى زار مصر فى القرن الثانى عشر الهجرى وسجل ملاحظاته يقول ( ويبدو أن النساء المسلمات لايعلقن على قطعة أخرى من ملابسهن أهمية أكثر من تلك التى يعلقنها على القطعة التى يغطين بها وجوههن إذا اقترب منهن رجل ، وقد فاجأ أحد الإنجليز ذات مرة امرأة كانت تستحم فى الفرات قرب البصرة فوضعت يدها على وجهها ولم تهتم بغيره مما أتيح للغريب رؤيته.. وقد حكت لى إحدى الآنسات الأجنبيات فى القسطنطنية أنها كانت بباب حجرة الاستقبال فى الحمام وأتت صاحبة الحمام لاستقبالها وإذا برجل يظهر فجأة فما كان من المرأة التركية إلا أن أخفت وجهها بالإحرام ، والفلاحون فى مصر نادرا مايلبسون بناتهم قبل السابعة أو الثامنة من عمرهن قميصا ولكنهم يعطونهن دائما منديلا طويلا ضيقا يلففنه حول رؤوسهن ويسحبنه على وجوههن إذا اقترب منهن رجل غريب، ولقد رأيت بنفسى فى مصر بنات فلاحات أقبلن نحونا ليروننا وكن عاريات تماما ، ولكنهن غطين وجوههن قبل أن يأتين)[5]. إذن فالمهم هو تغطية الوجه وإخفاء الشخصية وتعرية الجسد!! )

بالتأكيد كان هناك الكثير من مظاهر الحياة الاجتماعية الى غفل عن تسجيلها ابن الصيرفى فى تاريخ ( الهصر ) . ولا ننتظر منه أن يكون كالمقريزى .
 
 

 

 



([1]) الهصر 316.

([2]) الهصر 7،8.

([3]) الهصر: أمثلة 197، 302، ثم 20، 305 ثم 193، 295.

([4]) الهصر 276، 251، 230.

[5]ـ رحلة كارسن نيبور إلى مصر . ترجمة مصطفىماهر ط 1977 ، 297 : 298 

اجمالي القراءات 9666