المطالبة بمجتمع مدنى بلا قيود

سعد الدين ابراهيم في الجمعة ٠٦ - أبريل - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

المجتمع المدنى هو مفهوم جديد لكيانات قديمة. فالمفهوم يشير إلى المبادرات الجماعية التى تتم بالإرادة الحرة لتلبية احتياجاتهم أو احتياجات آخرين من غير القادرين من أبناء نفس الوطن أو أوطان أخرى، قريبة أو بعيدة.

وقد شهدت القاهرة مؤتمرا ضخما، يوم الأربعاء 4/4/2012، بعنوان «مجتمع مدنى بلا قيود»، نظَّمته جماعة «محامون متحدون»، التى يرأسها المحامى الناشط نجاد البرعى، وبمشاركات دولية ومحلية واسعة.

وكان جوهر المؤتمر هو مناقشة مشروع قانون جديد تقدمت به الحكومة إلى مجلس الشعب لتنظيم الجمعيات والمؤسسات التطوعية، والتى شاع فى السنوات الثلاثين الأخيرة تسميتها بمنظمات «المجتمع المدنى».

وقد اكتسبت «القوانين» فى عهود الاستبداد مترادفات تنطوى فى روحها ونصوصها على تقييد حريات المواطنين. ومصداقًا لذلك مشروع القانون الجديد الذى تقدمت به حكومة د.كمال الجنزورى إلى مجلس الشعب. وقد تعرض مشروع القانون لهجوم شديد ممن يهمهم الأمر، وهم النشطاء من قيادات وكوادر منظمات المجتمع المدنى، الذين تجاوز عددهم فى المؤتمر مئتى مشارك، من مختلف محافظات مصر من أسوان إلى الإسكندرية، ومن سيناء والبحر الأحمر شرقًا، إلى مرسى مطروح والواحات غربًا.

وكان للهجوم على مشروع القانون أسباب عديدة، أهمها أن المشروع لم يتم إشراك أصحاب المصلحة فى صياغته. كذلك لم يتم الإعلان عنه أو نشره على الرأى العام، لكى يتم الحوار حوله قبل أن يذهب إلى مجلس الشعب لإقراره.

وكان رابع أسباب النقمة على مشروع قانون الجمعيات أنه لم يطرأ عليه أى تحسينات تذكر، علمًا بأنه يصدر بعد ثورة يناير التى بهرت العالم بسلميتها وإبداع شبابها.

وذكر أحد المشاركين فى المؤتمر أن الذين بادروا بالثورة لم يكونوا موظفين حكوميين، ولا عسكريين.. ولكنهم كانوا شبابًا نشطاء من الجنسين، مسلمين وأقباطًا وبهائيين.. خرجوا وتجمعوا فى ميادين مصر بإرادتهم الحرة للمطالبة بالعيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. أى أنهم كانوا تجسيما حيًّا لمعنى «المجتمع المدنى»، كما سبق تعريفه فى أول سطور هذا المقال.

أى أنه رغم أن المجتمع المدنى هو الذى بادر بالثورة، فإن مشروع القانون الجديد ينطوى على تكبيل حرية وحركة المجتمع المدنى، ووضعه تحت الهيمنة البيروقراطية للدولة. صحيح أن بؤرة ثورة يناير كانت بميدان التحرير بالقاهرة، وهى بالصدفة أمام «مبنى المجمع»، الذى أصبح فى العقود الخمسة الأخيرة رمزا لبيروقراطية الدولة المصرية.

ولم يفت أحد المشاركين فى المؤتمر، وكان أيضا ضمن ثوار يناير، أن يتذكر كيف ظل موظفو الدولة طوال الأيام الأربعة الأولى للثورة يتجاهلون الثورة والثوار، وهم يدخلون مبنى المجمع صباحا ويغادرونه ظهرًا، كما لو كانت الثورة تحدث فى كوكب آخر، وليست تحت أقدامهم وفوق رؤوسهم.

وتعجب مشارك آخر «هل موظفو هذا المبنى هم الذين صاغوا مشروع القانون؟ وهل هم الذين سيطبقونه؟!». وتساءل مشارك ثالث «أليست السياسات والممارسات التى أنتجها ذلك المبنى هى التى أدت إلى الثورة؟ فكيف نسمح للعاملين فى ذلك المبنى العقيم بأن يقودوا (ثورة مُضادة) تجهض مكتسبات ثورة يناير أو تخطفها من أصحابها الأصليين؟».

وكان ضمن ما قيل فى المؤتمر، أنه خلال العصر الذهبى لمصر الليبرالية (1922-1952)، شملت المبادرات الأهلية التطوعية كل مناحى الحياة، من إنشاء أول بنك أهلى، وهو بنك مصر بقيادة طلعت حرب، إلى إنشاء أول مسرح مصرى بقيادة جورج أبيض وبديعة مصابنى. وهى نفس الحقبة التى نشأت فيها الجمعيات والمبرّات الخيرية، ومصلحة الفلاح، وقاد العمل الاجتماعى خلالها أحمد حسنين باشا وعزيزة حسين هانم. وانتشرت الجمعيات بكل أنواعها لمقاومة الجهل والفقر والمرض، ولرعاية الفلاح وأطفال الشوارع، وضحايا الحروب والنكبات. وهو ما استدعى استحداث وزارة لتشجيع وتنظيم العمل والشؤون الاجتماعية، وبرامج ومعاهد خاصة لتدريب الإخصائيين الاجتماعيين، الذين تكاثر عددهم ليصل إلى الآلاف خلال نصف القرن الأخير.

ولكن الأيدى الثقيلة للبيروقراطية المصرية، وبخاصة بعد ثورة يوليو 1952، قلّصت من الروح التطوعية تدريجيًّا، حتى كادت تقضى عليها تماما. ولعل مصر كانت فى حاجة إلى ثورة أخرى لتبعث هذه الروح التطوعية من جديد. وهو ما حدث فى 25 يناير 2011. وتدريجيًّا ينمو العمل الاجتماعى التطوعى، لا لكى يسد العجز فى رعاية الدولة لأبناء مصر المحرومين فقط، ولكن أيضا لكى يبدع ويقود فى فنون هذه الرعاية.

ولا أَدلَّ على ذلك من هذا الجمع الغفير الذى زحف على العاصمة من أقاليم مصر وأريافها وبواديها بمبادرات أهلية صرفة. ولم يفتتح هذا المؤتمر رئيس للجمهورية، ولم ترعاه «سيدة أولى». وربما هذا هو سر حيويته المتدفقة. فتحية للمحامين المتحدين الذين بادروا، ونادوا، ونظَّموا. وشكرًا للمئات من نشطاء العمل الاجتماعى التطوعى الذين لبَّوْا النداء. إنها روح ثورة يناير 2011. وإنها لثورة حتى يتعلم كل أبنائها، وتتعلم كل بناتها، وحتى تتقدم مصر، وتقود أمتها العربية إلى وجود بلا قيود.

وعلى الله قصد السبيل.

اجمالي القراءات 8411