ما احوجنا الى الموضوعية قبل تناول الشخصيات التأريخية
جناية لكنها مؤلمة!

وداد وطني في الجمعة ٣٠ - مارس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

في مقاليه عن (الجاهلية) وعن (تحذير المسلمين من خلط السياسة بالدين/ خاتمة) تحدث الأخ الدكتور أحمد صبحي، باسلوب قاس وشديد اللهجة وكأن جيوشاً جرارة انطلقت من بين أصابعه بهوادة لارجعة بعده! في جزئية كلا المقالين تحدث الاستاذ الفاضل عن شخصيات تأريخية كمالك والشافعي وابن حنبل والبخاري ومسلم الى ابن تيمية وابن القيم وابن عبدالوهاب الى سيد قطب وغيرهم من الأئمة والعلماء والمفكرين. يلعنهم ويصفهم بأقسى الأوصاف؛ تارة يصفهم بأئمة السوء وتارة اخرى بأئمة الزور والبهتان! ويعزّ عليّ ويحزّ في نفسي في الوقت نفسه ويؤلمني كثيراً كلام هذا العزيز بحق هؤلاء واسِماً وواصفاً اياهم بأسوء الصفات وبئس الاسم! أقول هذا ليس تقديسا لذواتهم ولا مسبّحا بحمد آراءهم ولا مبجلاً تعظيم سيرتهم في أعين الناس. يعلم الله تعالى ويشهد، انني لست من الذين يقدّسون التأريخ ويقبعون أنفسهم في كهوف أفكار من غبر ولا من الذين يسبحون بحمد الأشخاص! فليسوا معصومين ولا منزّهين ولا حتى مبغوضين عليهم ولا الضالين. فهم شخصيات تأريخية ليس الاّ. نحكم عليهم من خلال كتاباتهم وما بين دفتي (اصحاحاتهم) ونتاج أفكارهم في ضوء ما سطروه. فلقد تجاوزتُ منذ عشرة أعوام هذه العُقدة، عُقْدة خير القرون، وعقدة التقديس والتسليم والكتمان، وعدم التتبع والتنقيب والبحث والتقصي والاستقراء لما تركوه وراء ظهورهم من الغث والثمين مكتفيا بما ذكره "السبكي" في جمع الجوامع: (تلك دماء طهر الله منها أيدينا، فلا نلوث بها ألسنتنا!) وتلك هي البضاعة المزجاة بأيدي الضعفاء وحجة المستسلمين الواهية للقدر! وذلك حتى لا يكون الانسان المؤمن على بصيرة من الأمر لاستبيان الحقائق ومعرفة الحق من الباطل أو الخطأ من الصواب. فحين نقرأ قول الله تعالى: ((تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون)) "سورة البقرة 134، 141" نستحضر من حيثيات الآية الكريمة وتكرار تعبير (ما كسبت) و (ما كسبتم) ثم التختيم بالعمل، نستنتج من ذلك تعميق فكرة البحث والتتبع والسيرورة والاستقراء في دروب الأفكار وضروب الأزمان كلٌّ على حِدا حسب الطاقة الكامنة في كينونة "الخليفة" في الأرض. وليس عدم الخوض في الماضي وتأصيل فكرة الاستسلام في الأذهان للتقصي وراء سنة الأولين بصواب في فهم الآية. فـ (الماضي يحاور الحاضر عن المستقبل ــ تعبير جاك بيرك). تلك هي الدراسة التوجيهية التجريبية لفحوى الخطاب لتجاوز الماضي والعيش في الحاضر استعدادا للولوج في أبعاد الله تعالى الكونية انطلاقا من آياته في الأنفس والآفاق. فتشريح الأفكار هي الموضوعية بامتياز عند تناول التأريخ وشخصياته والبحث والتنقيب في الماضي عبر عملية الصيرورة والسيرورة في الأرض والنظر في البنيان العمراني وقبله في بنية التقدم والتخلف العقليين لدى الإنسان (تنظيراً وتطبيقاً). ولا شك ان تشريح الأفكار وتنقيب الماضي من دُرر القصص القرءاني. اذاً فالعبرة ليست بالتسليم وعدم الخوض أو التجريح (تجريح مَنْ قال) وانما بالبحث والتنقيب والتشريح (تشريح ما قال). هنا استرخص من أخي الدكتور، لنقل بعض ما جاء في مقال (الجاهلية)، هو يرى انّ: "شريعتهم البشرية صاغها أئمة الزور والبهتان من مالك والشافعى وابن حنبل والبخارى ومسلم فى العصر العباسى الى ابن تيمية وابن القيم فى العصر المملوكى الى ابن عبد الوهاب فى العصر العثمانى، ثم أخيرا (سيد سابق)" انتهى الاقتباس.

 

كما وتحدث في مقاله الختامي: (تحذير المسلمين من خلط السياسة بالدين) عن لعنهم (لعن الأئمة) لتركهم كتباً تنفث السّم وتنشر الشر والباطل والكراهية والبغض والحقد الدفين. كذلك ألفيْناها مملوءة بالطامات والخزعبلات وما تتنفّر وتتنتّص عنها ومنها النفوس. ومع هذا فهل يستحقون كل هذه الأوصاف واللعن في ذواتهم! في حين انه ليست بيننا وبينهم خصومات شخصية! "وبالتالى فإن لنا أن نحكم على أئمة السّوء باللعنة طالما ماتوا وتركوا كتبهم بعدهم تنفث السّم وتكتم الحق وتنشر الباطل وتضل الناس، فقد ماتوا ولم يعلنوا فى حياتهم توبتهم ورجوعهم للحق أمام الناس، وكان معهم القرآن فيه الحق والبينات ولكنهم كذّبوه وألغوا تشريعه بخرافة النسخ، وأقاموا أكاذيب سموها أحاديث وسنّة، أذاعوها صدّا عن كتاب الله وعن سبيل الله، وظلوا هكذا الى أن ماتوا بعد أن نشروا كل هذا الزيف وصيروا به القرآن مهجورا. أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا عبرة بتقديس الناس المتوارث لهم فى هذه الدنيا، فسيأتى أولئك الناس فى النار يلعنون أولئك الأئمة، خصوصا أئمة السنيين فى العصر العباسى مثل مالك والشافعى وابن حنبل والبخارى ومسلم، والعصر المملوكى مثل ابن تيميه وابن القيم وابن كثير ثم ابن عبد الوهاب فى عصرنا الحديث، ثم حسن البنا وسيد قطب وسيد سابق والشعراوى فى عصرنا الراهن" انتهى الاقتباس من (تحذير المسلمين من خلط السياسة بالدين).

ولأني أعرف ردكم وإجابتكم مسبقاً حيث قرأت لكم في أكثر من موضع في الموقع ما تؤمنون به من اعتقاد بخصوص هذا الموضوع. خاصة ما جاء في ردكم الأخير على لائمة وعتب العزيز استاذ محمد عبدالمجيد ورفضه استخدامكم تعبير (أئمة الضلال) بحق مالك والشافعي وابن حنبل و... و...الخ كان عتبه عليكم عبر تعليقه على مقال: (التشابه بين السلفيين والمنافقين في رفض الاحتكام الى القرءان الكريم ــ 11) في محله ويستحق كل توقير.

 

وعليه أقول مستعينا بقول الله تبارك وتعال: ((ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)) "سورة الانعام 108". فيستوجب علينا نحن (أهل القرءان) عدم توصيف الشخصيات التأريخية من العصور الغابرة ــ عصر الأموي والعباسي والمملوكي ووعاظ سلاطينهم، وأئمة المذاهب على مر التأريخ ــ بسوء، والتعرض الى ذواتهم بأقسى الألفاظ. فكثيرا ما يردد الدكتور هذه العبارة في كتاباته ودراساته التأريخية: "ومن هنا تظل الحقيقة التاريخية في كتابات البشر حقائق نسبية يجوز عليها الصدق والكذب ولا يمكن التأكد من صدقها" كتاب: (مصر فى القرآن الكريم: الخاتمة). أقول هذا حتى لا يردّ مقلديهم ومتبعيهم ومن نحى منحاهم في التقديس وحذا حذوهم في التدليس! بشتم القرءان الكريم وسبّ ما نعتقده انه الحق لبيان الاسلام بالقرءان. انت تعلم، حجج المتمذهبين ومبررات المتحذلقين، وإعراض المقلدين المتعصبين، عن هذه الآيات. فهم يدندنون حول حجج واهية وفي نفس الوقت مشينة بحق القرءان وءاياته خاصة الآية الكريمة التي سبقت. يقولون بأنها نزلت في كفار قريش ومشركي مكة، وليس لها ايّ علاقة بالمسلمين بل ولاتمت الى مسلمي هذا العصر بصلة!! هكذا يتبجّحون ويتفكرون. وهو اتهام واضح وصريح للقرءان الكريم بأنها "لا تصلح لعصرنا بحجة انها تخاطب المشركين في عهد نزول القرءان الكريم فقط!!" كما نوهتم الى هذا الأمر من قبل في مقالكم الجدير بالقراة (لا نبتغي الجاهلين) ففيه الموضوعية المعهودة والموعودة. فأرجو ان تركّز على الموضوع وتحليل المناهج وتفكيك منهجهم في التفكير والتكفير، متسلحاً بسلاحك العظيم (القرءان الكريم)، دون الالتفاف حول الاشخاص والاسماء كما هو دأبكم وديْدنكم في جل الكتابات. وكما يظهر ويتبيّن من خلال تأليفاتك. وحتى تكون أبحاثك أكثر حيوية وموضوعية لنصرة كتاب الله العزيز، وأكثر تنمية وتطويراً بعجلة الفكر والتنوير العقلي، وأوفر خدمة بالحق القرءاني المبين، فكرا وسلوكا وممارسة وتطبيقا، فلا تحيد عن ديْدنك قيد أنملة في تأصيلك (الأخلاق القرءاني) في نفوس الناس والمسلمين. ولا تعير ايّ اهتمام بما يقولون في وقت نِيلَ فيه من كرامة أهل القرءان وأعلامهم في مشارق الأرض ومغاربها، رغم قلة عددهم وكثرة عدّتهم. فربما يريدون بذلك إبعادكم عن مشاريع أبحاثكم القرءانية وفكركم الانساني المستنير، وإشغالكم بسفاسف الامور والجدال العقيم. فاحترس واحذر أخي احمد، لذلك ((فادع واستقم كما امرت ولا تتبع أهواءهم وقل ءامنت بما أنزل الله من كتب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لاحجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا واليه المصير)) "سورة الشورى 15" وادندن حولها مرة اخرى ((فاستقم كما امرت ومن تاب معك ولا تطغوا)) "سورة هود 112" وهذا هو الحافز العظيم، للثبات في الموقف والصدق في العهد ((رجال لا تلهيهم تجرة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكوة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصر)) "سورة النور 37" وقال الله العظيم: ((من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)) "سورة الاحزاب 23". هكذا الرجال. فينبغي ان نكون كذلك انْ كنا مؤمنين. أنصح اخواني من أهل القرءان ورواده بالرجوع الى رحيق (القرءان الكريم) فهو بحق جدير بالقراءة والتدبر والتأملات. وحريّ بكل انسان وطالب علم أن يشمّ نسيم هذا الرحيق المختوم وأن يعي نفحاته ويديم النظر في قراءته قراءة متأنية مرات ومرات. حتى تعيها اذن واعية. انه فعلاً كتاب لم يقرأ بعد. وما قدرناه حق قدره.

 

وأختتم بكلمة وجيزة لأخي الفاضل استاذ رضا عبدالرحمن علي، الذي علّق على مقال (الجاهلية) للدكتور صبحي منصور، بقوله: (تراودني فكرة ملحة لكتابة مقال مفصل أقارن فيه بين هذا المقال و بين كتاب محمد قطب عن "جاهلية القرن العشرين" بالاضافة الى كتاب سيد قطب "معالم في الطريق").

 

فما يبوح به الفاضل (رضا) وينويه، من كتابة مقال مفصّل عن سيد قطب ودراسة كتاب (معالم في الطريق) وكتاب شقيقه محمد قطب عن (جاهلية القرن العشرين)، لهي جديرة بالتقدير والتحليل والتمحيص شريطة ان تسع الدراسة جميع مراحل حياة سيد قطب المتنوعة. حيث أحدث هذا الرجل نقلة نوعية فى عجلة التأريخ (خيراً كان أم شراً في بعض جزئياته) والعمل الحركي الاسلامي. يكفى انه انتصر لمفهوم الحرية والاباء. حيث كان يحمل فكراً ثوريا نابعاً من حجم المحن والمصائب التي تعرض له في السجن. من هنا اتُّهم سيد بالتطرف الفكري وفكرة التكفير! لكنه عاش حرّا طليقا كريما عزيزاً كما أشاد به الدكتور في ثنايا كتاباته خاصة مقاله عن: (سؤال واحد أخير للشيخ القرضاوى: ألا تخجل من نفسك وشيبتك؟) في ثنايا هذا المقال تحدث عن شخصيتين بارزتين في تأريخ المسلمين، هما: ابن تيميه وسيد قطب. حيث أشاد بصمود سيد وشجاعته واستقلاله في الفكر. وتطرق الى موقف ابن تيمية المناويء للضالمين وتعرضه للحبس والتعذيب والمطاردة. تحدث عن صلابتهما تجاه الحكام الظلمة الى أن مات الأول في السجن والثاني الى حبل المشنقة!

هكذا عاشوا حياة عزيزة حرة أبية.

من هنا أدعوا الفاضل أخي رضا، ان يجعل الموضوعية نصب عينيه قبل الشروع في كتابة أيّ مقال عن شخصية سيد قطب وفكره الطويل. حيث من الحيف والظلم أن ننسى مراحل حياة سيّد الادبية والثقافية والفكرية والسياسية قبل دراسة وتناول كتابه (معالم في الطريق). والذي اعتبره العلمانييون "مانيفستو" المتطرفين بتعبير تركي الدخيل. ونحن نبحث عن رؤية جديدة لسيرة سيّد تتجاوز ترويج السائد والمطروح. الى ان وجدنا ضالتنا في سبع صفحات سمان للمفكر المصري حسن حنفي عن طريق (رومانسية سيد قطب) للدخيل. يقول الدخيل: ان حنفي قرأ سيّداً خلال مراحله المتعددة. نعم قرأ حسن حنفي سيّداً من خلال مراحله المتنوعة. ها هو ينقل لنا في رومانسيته ما قاله حنفي عن سيّد: "له جوانب متعددة طبقا لمراحل حياته، فهو الشاعر الرومانسي في العشرينيات... والناقد الأدبي في الأربعينيات... والمفكر الاسلامي في الخمسينيات... ثم المرحلة السياسية 1965 – 1954 وفيها أسوأ ما كتب (معالم في الطريق) الذي كتب وهو في السجن تحت آلام التعذيب الذي يكفّر فيه المجتمع ويقسمه الى اسلام وجاهلية" ويرى حنفي انّ: "قسوة التأريخ وظلم الشاعر والناقد والمفكر هو رده الى مرحلة واحدة 1954 ونسيان ربع قرن من الإبداع الشعري والنقدي والفكري ورده الى كتاب واحد (معالم في الطريق) الذي هو حرقة سجين مظلوم معذب بريء. وقد نسيت جماعته ايضاً المراحل الثلاث الاولى ولم تتذكر الا المرحلة الرابعة باستثناء المخلصين" ويستمر حنفي: "لولا دخوله السجن عام 1954 وتعذيبه لما كفر المجتمع... ولولا سفري الى فرنسا وعودتي بعد عشر سنوات وعيشي في جو طبيعي لما كتبت (من العقيدة الى الثورة) ولا (من النقل الى الابداع)". لاحظ كيف قارن المفكر حنفي بين تقلباته الثقافية ومعالمه المعرفية وبين اُطر سيد قطب الفكرية والحضارية خلال مراحل حياته. فلنقرأ التأريخ معاً، لانه يساهم كثيرا في فهم الواقع.

اشدّ على يديك أخي رضا والشكر الموفور دائماً لأهل القرءان. دام ظلكم الوارف أحبتي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اجمالي القراءات 11180