حدود الإلزام في تشريعات الاسلام: ( 1) فى العقيدة

آحمد صبحي منصور في الخميس ٢٢ - مارس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر  ).

الباب الأول : (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الاطار النظرى  )

الفصل الأول : (  الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر اسلاميا وقرآنيا  )

ثالثا  : تطبيق الأمربالمعروف والنهى عن المنكر فى الدولة الاسلامية

 حدود الإلزام في تشريعات الاسلام : فى العقيدة 

 مقدمة

1 ـ فى دولة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الاسلامية : لا بد من أجهزة إدارة وسلطة حكم ـ ليست سلطة تحكم ، وليس حاكما بالمعنى المعروف والمألوف ـ ولكن سلطة من أولى الأمر يختارهم المجتمع لادارة شئونه تتولى التشريع والقضاء بين الناس و التنفيذ والتطبيق وشئون الأمن والدفاع . وهى سلطة مسئولة أمام الناس من مستوى القرية والحى الى المدينة والوطن . والناس هنا متفاعلون إيجابيون نشطون قائمون بالقسط يأتمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر ويتواصون بالخير والحق والصبر.

سلطة المجتمع هذه فى إلزام الفرد ما هو مداها ؟  وإذا كانت محددة فما هى حدود إلزام الفرد لنفسه ؟ هذا هو موضوعنا اليوم . ونبدأ بمدى الإلزام فى حقوق الله جل وعلا فى العقيدة  .  

2 ـ إنّ آيات التشريع فى القرآن حوالى المائتى آية بما فيها من تفصيلات ، وتتناول فى معظمها الأحوال الشخصية والعلاقات الاجتماعية والأسرية كالميراث والوصية والتعاملات التجارية والعقوبات ، ويبقى المجال واسعا للتشريع البشرى فى إطار العدل والتيسير وحقوق الانسان . ولكن حتى تلك التفصيلات التشريعية فى القرآن الكريم موكول معظمها فى التنفيذ الى الفرد نفسه ، فى ضوء مسئوليته الشخصية أمام ربه جل وعلا ، وليس فيها إلزام من نظام الحكم ، والذي يقوم على تنفيذ أوامر الله يجب أن يعرف حدود الإلزام التي جاءت في تشريع القرآن.

3 ـ والأصل أن الله هو الذي خلق البشر أحراراً في الطاعة والمعصية وهو الذي سمح لهم بحرية الإرادة ، وحرية الايمان وحرية الكفر ، بل وحرية الإلحاد فى القرآن (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )( فصلت 40 ). وعلى أساس هذه الحرية سيكون حسابهم يوم القيامة  . فالمسألة الحقيقية هي يوم القيامة، والقاضي الحقيقي والوحيد هو الله يوم الدين.. هذا فيما يخصّ حق الله جلّ وعلا فى الاعتقاد والعبادة .

4 ـ الإلزام يكون أساسا فى حفظ حقوق العباد أو حقوق الانسان ، فحتى لا تكون الحرية مفسدة للمجتمع  فقد وازن القرآن الكريم بين حرية الفرد وسلامة المجتمع. فجاءت قوانين العقوبات للتطبيق ، ولكن معها إمكانية التوبة فى إسقاط العقوبة الدنيوية . والتوبة هنا تحت رقابة المجتمع ، ثم الرقابة الالهية . والتوبة المقبولة من المجتمع تسقط العقوبة وتمنح المدان فرصة أخرى لينصلح عمله  . أما قبول التوبة من الله جل وعلا فموعدها يوم القيامة .وهى التى تنقذه من الخلود فى النار :( وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التوبة 105 ).

ويوم القيامة آت لا ريب فيه وهناك سيكون الفصل حيث لا ظلم ولا محاباة:(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ  )( الأنبياء 47.)

 

حدود تدخل الحاكم في حياة المحكوم وفق تشريع القرآن:

1 ـ نتجاوز هنا ونستعمل مصطلح الحاكم ليكون كلامنا مفهوما ، ونعيد التأكيد على أنه لا وجود لحاكم فرد فى الدولة الاسلامية بالمعنى المتعارف عليه ، ولكنهم أولو الأمر اصحاب الاختصاص ، والذين يختارهم الناس فى كل مستوى ، ويكونون محاسبين أمام الناس.

2 ـ الله تعالى وحده هو الذي يبتلى الإنسان بالأوامر والنواهى وهو وحده الذي سيحاسبه يوم القيامة ولكى يكون الإنسان كامل المسئولية لابد أن يكون حراً، ولذلك فإنه ليس على المجنون والمكره مسئولية، ذلك هو المبدأ العام الذي يحدد إطار العلاقة بين السلطة التي تخدم المجتمع وبين الفرد يعيش داخل المجتمع.

 

ليس للحاكم أن يتدخل في عقائد المحكومين:

1 ـ لم يشأ المولى العظيم أن يتدخل في حرية الإنسان واختياره لعقيدته. وذلك أعظم ما في الاختبار الذي وضع الإنسان فيه، خلقه حراً في التفكير وفي الاختيار ثم أرسل له الرسل وأنزل الكتب ودعاه للهداية ، وفي دعوته للهداية حرص على تأكيد حرية الإنسان ومقدرته على الطاعة وعلى المعصية وعلى مسئوليته عن اختياره وعلى ما ينتظره من جنة أو نار.( وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا   )( الكهف 29  )( قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ  ) ( الاسراء 107). فهنا تأكيد للمشيئة الإنسانية في العمل  . وليس للنبى محمد إلا التذكير والوعظ  دون السيطرة ، فلا سيطرة للنبي على الناس ، لأن مرجعهم لله جلّ وعلا يوم القيامة (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍإِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ )( الغاشية 21 ـ ) (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( يونس 99 )

نزلت هذه الآيات والرسول في مكة، ثم بعد أن صار قائدا  للدولة الإسلامية في المدينة لم يختلف الوضع.

بل نزل التاكيد قاعدة قرآنية تقول (لا إكراه في الدين) (البقرة 256).أي ليس من حق النبي إكراه أحد على الإيمان الصحيح.ولم يمنع ضجيج المعارك بين المؤمنين والمشركين من تقرير حرية العقيدة ،  فالجهاد هو  لتقرير هذه الحرية ومنع المشركين من الاضطهاد الدينى : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ  ) ( البقرة 193 ) (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )(الانفال   39).

 

أرجاء الحكم في الخلاف العقيدى إلى الله يوم القيامة:

هذا ما ينبغى أن يعول عليه المؤمن إذا جادله من يتمسك بالباطل ليصدَّ عن سبيل الله، فبذلك يأمره القرآن الكريم (قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ  )(سبأ  25: 26.)المؤمن دائماً في حواره لا يحولها إلى قضية شخصية، ولكن الدين لله وهو يرجئ الحكم إلى الله حين يحكم بين الجميع يوم القيامة: (  قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( الزمر  46)، فهو "يوم الدين" والمؤمن يعلم أن الله لم يعط سلطته في الحكم على عقائد الناس- إلى النبي نفسه، (وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ )( الحج 68: 69.) أما أصحاب الدين الأرضى فهم الذين صنعوه وهم الذين يملكونه لذا يريدون فرضه على الناس لمصلحتهم الدنيوية ، ومن يناقش دينهم أو من يكفر به فقد كفر بهم واعتدى على شأن شخصى ملك لهم..

ليس من حق الحاكم المسلم هدم الأوثان:

استخدم القرآن الأسلوب العقلى في إظهار حقيقة تلك الأوثان وتوضيح أنها مجرد حجارة صنعها من يعبدها: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ )( الصافات  95. : 96) وأنها أساطير وإفك (  أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ) ( الصافات /86.)( إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا )( العنكبوت  17). وينطبق ذلك على الأصنام كما ينطبق على الأنصاب وهى القبور المقدسة. وقد ناقش القرن أولئك الذين يعبدون الأولياء الموتى فأكد انهم مجرد موتى لا تشعر بما حولها ولم تخلق شيئا بل هى مخلوقة ولا تشعر متى ستبعث يوم القيامة (  وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)( النحل : 20. 21) وفى مواجهة الأساطير التى تزعم خوارق لتلك الالهة المعبودة الميتة فقد أمر الله تعالى رسوله محمدا أن يتحدى تلك الآلهة والأولياء الميتة فى قبورها مؤكدا أنها لا تنفع ولا تضر ، وأن الولى الوحيد للمؤمن لا يكون سوى الله تعالى وحده (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ  )( الاعراف 194: ـ ) وأوضح القرآن أن الولى المقصود بالعبادة والتقديس لا يكون إلا لله تعالى (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  )(الشورى9.) (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ  ) ( الأنعام 14 ) وأوضح القرآن أن أحداً من المخلوقات لا يشاركه تعالى  في الحكم في الدنيا وفي الآخرة (مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا  ) ( الكهف 26.) وأنه وحده الخالق والآمر (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)( الاعراف : 54.).

وعلى هذا الأساس العقلى حاور الله تعالى المشركين ممن يعبد الأولياء والآلهة (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ ) ( فاطر  40.) (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ  ) ( الاحقاف /4: 6.) (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ  ) ( فاطر  13: 14 )

واستخدم القرن إيمانهم بالله الخالق حجة عليهم، فكيف يتركون رب السماوات والأرض ويطلبون المدد من غيره الذى لم يخلق شيئاً والذي لا يملك شيئاً(  قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ )( الرعد 16.) وكل هذه الآيات موجهة للمسلمين وغيرهم ممن يقدسون القبور في عصرنا.

لقد أوضح القرآن الكريم حقيقة الأصنام والأنصاب والقبور المقدسة في موضعها الحقيقي وأثبت أنها خرافة لا تستقيم مع العقل السليم، وأنها مجرد أحجار لا تختلف عن أية أحجار أخرى وإن ما يدور حولها أساطير تستحق السخرية لا التقديس.. بعدها أمر المؤمنين باجتنابها والابتعاد عنها(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ  )(الحج  /30 .) والأوثان كل ما هو مقدس من بشر وحجر ومواد طبيعية، والزور هو كل الأكاذيب وأقطعها ما كان منسوباً للهافتراءً على الله.

وقال تعالى: " (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )( المائدة 90. ) الشيطان لا يقوم بنفسه بتصنيع الأنصاب أو ما يعرف الآن باسم الأضرحة، ولكنه هو الذييوهم الناس بأن مواد البناء في الضريح مقدسة وتختلف عن أى مواد أخرى تبنى بها البيوت والمساكن والمصانع، وهو الذي يوهم الناس بأن المقبور تحت الرماد لا يزال حياً ولكنه معتقل تحت الأرض يري ويحس بمن يطوفون بالضريح من فوقه، وطبعاً فلا يشكو من طول فترة اعتقاله في زنزانة انفرادية تحت الأرض ولا يتضرر من آلاف الأقدام التى تسير دائماً فق رأسه.الشيطان يحجب العقل عن التفكير السليم ويجعل الناس يؤمنون بأن  هناك إلاها محبوسا تحت الرماد يستجيب لهم ويرفع عنهم الضرر.. والشيطان هو الذي يقنع الناس بأن مملكة الأموات هى التى تتحكم في مملكة الأحياء. كل هذه المعانى وغيرها تندرج تحت قوله تعالى عن الأضرحة "( رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ).أمر القرآن باجتناب الأوثان والأضرحة، ويلاحظ أن اجتناب الأضرحة جاء صراحة للمؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )(المائدة 90. ) .

أمر رب العزّة جلّ وعلا باجتناب الأوثان والأضرحة ولم يأمر بهدمها أو تدميرها ولكن أمر فقط بالابتعاد عنها و اجتنابها وأن تتطهر منها بيوت الله والمساجد لكى تكون العبادة لله خالصة : (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)(  الجن /18.)

قام القرآن بهدم الأضرحة والأثان في عقول الناس واعتقادهم واكتفي بذلك، وهى نظرية صائبة. فالضريح مثلاً يتكون من مواد بناء معروفة: أسمنت وطوب وأخشاب ومسامير وزجاج ورخام وأجهزة كهربائية وستائر وأقمشة وهذه المواد توجد في كل مكان ولا تختلف أحجار الضريح عن أى أحجار أخرى، وكلها تأتى من نفس المصدر، والذي جعل لأحجار الضريح قدسية إنما هو الاعتقاد فيها الذى أوهم الشيطان به جموع الناس . فإذا تهدم ذلك الاعتقاد الخرافى من قلوب الناس تصبح هذه الأضرحة مجرد أبنية وتتحول الأصنام إلى مجرد تماثيل صخرية، يتندر بها الناس على قلة عقولهم حين قدسوها.

أما إذا بادر حاكم مسلم إلى تدمير أحجار الأضرحة وتسويتها بالأرض فإن من يعبد الأضرحة ويعتقد فيها سيقيم في قلبه ألف ضريح وضريح، ولا تلبث أن تعود أضرحة أخرى وتتكاثر الأساطير والكرامات الخرافية التى تدعى أن الأولياء قد انتقموا من ذلك الذى هدم قبورهم ، وكل ما يمكن أن يحدث له من أمور عادية ،  حتى لو كانت مجرد زكام سيتحول تفسيرها إلى أنه غضب الآلهة المزعومة عليه !!

وهناك مثل أكثر روعة ، هو مسجد الضرار الذى أقامه المنافقون فى المدينة للتآمر على الاسلام والنبى محمد عليه السلام والمسلمين. وكشف الله تعالى فى الوحى القرآنى دور هذا المسجد ونهى النبى عن الاقامة فيه : (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ). لم يأمره بتدميره أو حرقه أو اعتقال المتآمرين أصحابه والدليل ضدهم ثابت لاجدال فيه وهو كلام رب العزة جل وعلا.  فقط أمر النبى والمسلمين بعدم الذهاب اليه. وظل هذا المسجد مقاما بدليل كلام الله تعالى عنه (لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)( التوبة  107: 110 ).

الخلاصة أنه ليس للدولة الاسلامية أن تتدخل فى العقائد حتى لو تكاثرت فيها ملايين الأصنام وملايين العابدين لها. ليس من وظيفة الدولة هداية الناس أو ادخالهم الجنة، ولكن وظيفتها اقامة العدل بين الناس وتوفير الأمن لهم وتوفير أقصى قدر متاح لهم فى حرية العقيدة والعبادة حتى يكون كل فرد مسئولا مسئولية مباشرة أمام الله تعالى يوم الدين عن اختياره العقيدى.

ماذا إذا أصدرت الدولة الاسلامية قانونا يبيح الخمر والميسر والبغاء ؟

هنا يقع الإثم على من يسنّ هذا القانون ، وعلى من يعمل به . وليست هناك عقوبة دنيوية على ذلك . ولا يعد هذا القانون اسلاميا .

ماذا إذا أصدرت الدولة الاسلامية قانونا يحرّم إقامة الأصنام والأنصاب والأوثان ؟

طالما صدر هذا القانون معبرا عى رأى الجميع فقد أصبح عقدا ملزما للجميع. إن صدر بالأغلبية فليس من حقالأغلبية فرض هيمنتها فى أمور العقيدة على فرد واحد .

اجمالي القراءات 15786