قصة قصيرة
حديث الربيع

محمد حسين في الجمعة ١٦ - مارس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

كانت نسمات الربيع تطرق الأبواب. عبق الورود يتأهب ليتناثر على جنبات الجو المحيط بعد عناء غير منقطع تتكرر تجربته كلما حل الشتاء. ثمة أحاسيس يحملها الربيع تدغدغ الذكريات تحديدا فتهيم الروح فى خلجات الماضى ، ربما السحيق منه. جلست أتذكر الأشياء. أطراف عدة لا تكتمل. ياله من جو ساحر. كان يجلس أمامى صاحبى بشاربه الكث المهندم وبشرته الناضرة الظاهر للعيان برغم النور القليل الآتى من أحد أعمدة الإنارة فى الممشى المجاور للشرفة. على كرسى بيننا طاولة وضع عليها بعض الزهور التى إبتعتها لتوى إحتفالا كالعادة بقدوم الربيع. بعد لحظات أحضرت الشاى ووضعته أمامنا ثم أخرجت سيجارتين لنا أشعلناهما وأكملنا أحاديثنا المتنوعة. برغم أن طبيعة عملنا وحبنا الجارف للوطن يغلف أيامنا بالسياسة ومشاكلها إلا أننا نحاول قدر الإمكان أن نتطرق لموضوعات أخرى تأخذنا بعيدا عن السياسة. لعنت المذكورة! الحديث عن الفتيات فى بلاد العم سام له مذاق خاص. يحلو لنا الطواف بكلماتنا حول فتاة جميلة أو أخرى فاتنة القوام. ما أن تمر دقائق قليلة حتى يخذلنا الإدراك فنعود للحديث عن سياسة. لشئ ما وجدتنى أسأله:

 

-         ما الشئ الذى كان يحلو لوالديك أو جدك أو جدتك أن يأخذك أحدهم إليه وكنت تستمتع به متعة مطلقة ولا زالت تراودك ذكراه حتى الآن؟

 

نظر لى صاحبى وبدأ الحديث المتقطع عن أشياء مختلفة كان من الصعب علي أن أضعها فى موضع فهم كامل. وما أن أقتربت من حافة الندم على السؤال وجدت عينا صاحبى وقد مسهما البريق فجأة. أثار إهتمامى منظره فأنتظرت مترقبا لشئ ما قد يلقيه. ثم أعتدل فى جلسته ورجع بظهره على كرسيه منفثا الدخان بعمق. تنهد ونفث فاستحال محيط الشرفة الى دخان ابيض. بدا وكأنه سيلقى قولا مثيرا للإهتمام ، أو هكذا تمنيت. تلقيت كوب الشاى فى راحتى وإعتدلت أنا الآخر وكلى إستعداد للسماع لحديث يبدو شيقا.

وراح صاحبى يستهل سرده قائلا:


-     كنا على عادة سنوية قبيل حلول العام الدراسى ببضعة أسابيع قليلة أن يصطحبنا انا وأخى أبوانا الى مدينة بورسعيد.

 

ثم بادرنى سائلا:

 

-         أظنك عاصرت تلك العادة على ما أظن؟

-         بالطبع


عندما ذكر تلك المناسبة الخاصة بتلك المدينة تذكرت حينها كيف كانت الأسر والعائلات الكائنة فى المجتمع السفلى حسب تقدير الحكومة ، والذين يسمون بـ "محدودى الدخل" وكنت أنا وصاحبى أصحاب شرف بالإنتماء إليهما. وبالفعل عندما كنا فى مراحل التعليم المختلفة كانت تصطحبنا الأهالى الى تلك المدينة ليبتاعوا أشياءا كالملبس قدرها أن تعيش معنا السنة كاملة حتى نفس الموعد تقريبا من العام التالى. تأتى أشياءنا بإفتراض أن لها طبائع خاصة كأن يجب أن تتحدى عوامل الزمن والجو والحوادث والكوارث فى بعض الأحيان حتى تدوم عاما كاملا. يجب أن تكون خارقة للطبيعة أحيانا قاهرة للظروف شائت وشئنا أم أبيت وأبينا.
 

أردف صاحبى قائلا:

-         كانت والدتى حينها تعمل بإحدى شركات القطاع العام وكانت الشركات من هذا النوع غالبا ما تمنح الموظفين رحلتين سنويا بالحجز أحدهما يوما نذهب فيه لبورسعيد ونعود فى نفس اليوم وهذا غالبا ما يحدث فى أول الخريف قبل بدء العام الدراسى...

 

ثم إبتسم صاحبى بسخرية ذات إنة مسموعة وقال:

-         والأخرى كانت للإسكندرية اسبوعا فى فصل الصيف للطبقة التى بإستطاعنا اعتباطا ان نطلق عليها "أرستوقراطية محدودى الدخل"! والرحلتان كانا بأجر رمزى لا يتخطى     العشرة جنيهات لكليهما معا.

 

تخالطت ضحكاتنا تعقيبا على ما قال لعلمنا بأنه رغم ما قد يبدو من قلة القيمة الشديدة للعشرة جنيهات فى وقت حديثنا ، إلا أنها فى الزمن مجال الحديث كانت العشرة جنيهات تفعل الأعاجيب وقد ينتحر رب أسرة اذا فقدها عن غير قصد او سرقت منه. وددت التعقيب لكن الفضول غلبنى فآثرت الإستمرار فى الإستماع اليه وأشرت له بالإستمرار فنظر بعيدا وصمت لبرهة وكأنه كان يحاول أن يلملم ذكرياته ثم قال:
- كانت الميزانية شبه معلومة مسبقا لكل فرد فينا وكنا أربعة ، أنا وأخى وأمى وأبى. قطعتين للخروج ندخرها للعيد وحذاء أسود وبيجامة ومستلزمات المدارس نشتريها بالجملة لوفرة فى الثمن. ولكل من هؤلاء قصة ولكل قصة قصة.

 

حين قال هذا صديقى أحسست أنى أجلس أمام الراديو أستمع وأستمتع لإحدى حلقات ألف ليلة وليلة الإذاعية بصوت زوزو نبيل الساحر. لم يكن صوته يضاهيها سحرا بالطبع ، وإنما بدا كذلك لعذوبة حديثه. كدت أن أرتخى لحظتها ولكنى طلبت منه أن يتذكر أين توقف فأذهب لأضع إناء الشاى على النار لدور أخر حتى أتلذذ هذا الليل الفريد الذى لا يتكرر أحيانا بتلك الأقصوصات الجميلة. عدت لصاحبى الذى تابعنى بنظره حتى جلست وإبتسم سائلا إن كنت على إستعداد فطلبت منه الإنتظار حتى أفرغ من إعداد الشاى حتى لا نضطر لقطع الحديث مرة أخرى. جلست ووضعت على المنضدة بيننا أكواب الشاى وقلت له:

-         كلى آذان صاغية

 

فإرتشف رشفة ثم أشعل سيجارته وقال:

-         أما عن الحذاء فكنت فى حيرة من أمرى دائما. كان قهرا وجبرا أن أحافظ على حذائى فى شكل مقبول وكأنها جديدة كل يوم حيث ليس لى غيرها طوال العام. ولحظنا التعس وما زاد الطين بلة كما تعلم أن العام الدراسى تم التخطيط له فى يوم ما فى الماضى لا ندركه على يد رجل ملعون أن يبدأ مع حلول الخريف ونقضى فيه وقت الشتاء كاملا. وحيث أننا فى دولة بنيتها التحتية ملعونة بدورها وقد بلانا الله برئيس طوال ثلاثين عاما من حكمه اتحفنا بدأبه على البنية التحتية فى كل مرة يبتلينا بمحياه على تليفزيون الدولة ، كانت الشوارع يختلط طينها بماء المطر فتقصف عمر أعتاها حذاء. وعلى الجانب الآخر كانت أدوات تلميع الحذاء عبارة عن علبة ملعونة تصنع فى مداخل البيوت ما أن تضعها على الحذاء حتى تحيله لقطعة من الأسمنت تقصف الجزء الآخر من عمره وكان ثمن العلبة ربع جنيه. فكانت كل الإختيارات وكل الطرق تؤدى فى الغالب ان حسبتها لعلقة ساخنة من أب لا يملك ثمن حذاء آخر فى نفس العام. وهذا لأن حدث كهذا لهو بمثابة ضربتين فى الرأس. وينتهى بك الحال أن تمشى وسط أقرانك بحذاء فمه مفتوح للفحات الشتاء اللعين وبلله ، هذا إن كنت محظوظا ، أو تحاول أن تجد شبشب زنوبة فى باليات القدماء من العائلة فتذهب به للمدرسة ثم تواجه بحظك التعس يوميا مدرس الألعاب والإنضباط الذى لن يرحم قدميك من الفلكة إن رآك بزنوبة!

 

ضحكت دون إرادة وضحك بدوره ناظرا تحت قدميه يهز رأسه مفعما باليأس الحاضر مع الذكرى. ثم قاطعته قائلا:

-         وكيف لك بالحل وسط تلك المعمعة التى يبدو ان لا مخرج منها ونحن هنا نتحدث عن ما لا يقل عن احدى عشر عاما على الأقل من سنوات التعليم العام؟

 

إرتشف رشفة من الشاى ثم بادرنى مجاوبا:

-         لم يكن لى حل إلا أن أبحث عن المناطق النادرة الجافة على الأرصفة الباقية بقدرتها منذ عهد الملك أو اخلع حذائى طوال المسافة الطويلة بين البيت والمدرسة وأسير بزنوبة ثم أضع حذائى على باب المدرسة واخلعه مرة أخرى فى طريق العودة على أن أهتم بتنظيف الحذاء يوميا بقطعة قماش قديمة من أى أتربة تجمعت عليه عن سهو قبل أن يراها والدى والا كانت ليلتى سوداء.

-         يالها من تعاسة!

-         التعاسة فى هذا الزمن كانت حديث الرفاهية سيدى!

 

تعالت الضحكات وإعتدلنا فى نفس الوقت ثم استمر صاحبى فى حديثه قائلا:

-         عودة لبورسعيد كنا نبتاع كما قلت ضمن ما نبتاع مستلزمات الدراسة وكانت عبارة عن حزمة كراسات للإستذكار بالجملة ومعها حزمة من الأقلام الجافة ومثيلتها من الأقلام الرصاص. وكانت بطبيعة الحال تقل أضعاف الأضعاف عن سعرها فى المدن الأخرى.

 

أومأت بالإجابة. فبورسعيد فى فترة أيام السادات تحولت بقرار نعلم كما يقال أنه رئاسى لمنطقة حرة مكافأة لجسارة المدينة الباسلة فى الحرب. فكان الميناء ينعم بكل ما يسر القلب من بضاعة أوروبية تتنوع بين مأكل وملبس "ساكند هاند". وحتى السيارات والرفاهيات والديكورات التى تأتى السفن محملة بها ليتمتع بها أبناء المدينة بأسعار شديدة الزهد تقل بأضعاف عن الأثمان فى المدن المحيطة. وكانت المدينة محاطة بمنافذ جمركية لا تسمح بسم خياط ان يتعداها دون أن يتم جمركتها ، أو هكذا نظريا على الورق على الأقل بغض النظر عن العاملين بالجمرك الذين كانوا يسمحون فى بعض الأحيان بالمرور لمن يحنو قلبهم عليهم نظير رشوة تتنوع حسب الزبون. وكان هذا السر وراء ذهاب العائلات ذات الدخل المحدود وأقل من المحدود لتلك المدينة لتجربة حظوظهم فى مشتريات زهيدة الثمن.
 

إبتعد صديقى عن السؤال الأصلى ابتعادا ملحوظا. إلا أن الأمر لم يحتاج لذكاء من نوع خاص كى أفهم أنه سيأتى لاحقا للإجابة ولكن حديث الذكريات يتنوع بدوره دائما ما أن يحلق فوق رؤوس أخلة السمر.

 

إنطلق صاحبى بدوره فى الحديث مستطردا:

-         كانت أحد المهام لكل فرد منا أن يغوص فى كم من الملابس متنوعة المقاس حتى يعبر بها من الجمارك. والحق أقول أننى الآن أشك فى أن موظفى الجمارك كانوا لا يعلمون كما كنا نظن. ولكنهم كانوا أذكياء فى عدم السماح لوقتهم بالضياع مع العائلات "الكحيتى" من أمثالنا. فدائما ماكانت الفرائس ذات الجيوب المملوئة تدغدغ قرون استشعارهم فيستشعرونها عن بعد. ولكن بغض النظر كان بين الموظفين والمارين الفقراء بما بينهم من تراث نوع من توارد الخواطر بأنه سوف أدعك تمر ولكن لا تنشر لناظرى ملابسك المتسخة. بمعنى آخر لتجتهد فى إخفاء جريمتك حتى لا أراك ومن ثم أضطر لمضيعة الوقت معك.

 

فرفعت حاجبى معجبا ومتعجبا لما يقول ثم هز رأسه فى توكيد وقال:

-         أى نعم. وإن ركبك الغباء ساعتها سيجعلوك تلعن سلسفين من أتوا بك الى الدنيا. ليس لشئ الا لأنك اجبرتهم بطريقة او باخرى لأن يضيعوا وقتا معك فى التفتيش وكتابة الغرامة فى وقت كان أولى أن يستغلوه مع زبون محترم يخرجون منه برشوة كريمة!

-         لهذا الحد؟

-         وأكثر من ذلك سيدى. بيزنس از بيزنس!


وعادت الضحكات تخللها حديثه قائلا:

-         نسيت أن احيطك بما يتعلق بمستلزمات الدراسة!

 

إبتسمت وأنا ألتقط كوب الشاى والحق أنى كنت أتعجب كيف يمر علي مسلتزمات الدراسة مرور الكرام وأنا فى إشتياق للمزيد لا البتر فى الحديث. وأشعلت بدورى سيجارة نفثت دخانها وهو بدوره وضع يديه متشابكة وراء رأسه وقد أظهر الإستمتاع لما يبدو على وجهى من تشوق لما يقول.

 

 قال صاحبى:

-         كان والدى يتعامل معنا فى هذا الأمر كأمين المخازن والمفتش فى آن واحد.

-         وكيف ذلك؟

-         كان يصرف لنا كراسة صغيرة فى أول يوم دراسى نكتب فيها طلبات المدرس من هؤلاء فى كل حصة يدخل علينا أحدهم. فمدرس العربى له طلب عدد ثلاثة كراسات مثلا للنحو والتعبير والنصوص ، ومدرس التاريخ والجغرافيا اثنتين على سبيل المثال ، والحصر مهم لأبى ، وبالمثل لكل مدرس أيا كان مادته.

-         هاه.

-         ثم أعود لأبى بالطلبات فيفتح دفتر سجلاته بقسم خاص اعده بإسمه ليكتب عدد ما أخرجه لى من كراسات وعدد قلم واحد جاف ومثله رصاص ومسطرة وخلافه. ثم يراجع عليهما ليتأكد من العدد ويسلمنى إياها وأنا بدورى أمينا على عهدتى أجهز نفسى لعلقة على الفلكة او بأداة أخرى ان حدث وضاع أو أصاب الإهمال شئ من العهدة.  ويمتد الأمر الى مهمته الثانية كمفتش أنه كان يخصص يوما لا يعلمه الا هو وكان صدفة فى غالب الأمر فيراجع الكراسات ويعد أوراقها ليتأكد أنها مطابقة لعدد الصفحات المكتوبة على غلاف الكراسة او الكشكول.

 

فعقدت حاجبى فى استفسار مما جعله يردف مفسرا:

-         فعلى سبيل المثال ان كان مكتوبا على الغلاف 28 ورقة ما كان منه الا ان يعد نصف الكراسة حتى موضع التدبيس من المنتصف بالتحديد ويضرب العدد فى اثنين. ففى حالتنا تلك ان قل العدد عن 14 وجب على ان اجهز نفسى لوجبة من الصفعات والشلاليط المحترمة.

 

لم أتمالك نفسى من الضحك وأنا اشير اليه بالإستمرار فضحك بدوره وقال:

-         فى بعض الأحيان كانت أشياء كالبرجل وخلافه مما على شاكلته تبدو أشياء تعلو فى قيمتها عند المناطق العليا من هرم الإحتياجات ، فكنا لا نشتريها. وكنت بدورى استعيرها من أى صديق من فصل آخر فى الحصة التى يخصها شئ من هذا القبيل شريطة أن لا يكون هذا الصديق لديه حصة من نفس النوع فى نفس الوقت. وما أن تنتهى الحصة أركض إليه لأعيده ما إستعرته والا واجه هو المشكلة وحرمت أنا من معونات ومنح المستقبل...وهنا على أن أواجه مجموعة من ضرب الهراوات على كفى الى اخر العام بواسطة المدرس الملعون.

فضحكت وأنا أقول ساخرا:

-         هذا حتما يولد انتيرنال كونفلكت قد يكون اخصائيوا علوم النزاعات الدولية والاقليمية فى جامعة جون هوبكنز على اهتمام به إن نما ما تقوله الى مسامعهم!

 

فرد على قائلا وهو لا يدرى عن أى شئ أتحدث:

-         هو كذلك!

 

ثم تابعته وهو مستمر فى الحديث يقول:

-         وتلك هى الأقاصيص التى تتبع بورسعيد. أما عن بورسعيد نفسها هل لك أن تذكرنى أين وقفنا؟

-         عندما تتعاملون مع منافذ الجمرك

-         أى نعم.

 

فتابع قائلا:

-         ما أن نخرج من الجمارك ويتجمع الأفراد فى الأتوبيس نشق طريقنا فى رحلة العودة نتخلل فيها على مدار بضعة كيلومترات عدة أكمنة.

-         أى أكمنة.

-         أكمنة من الشرطة ...

ثم إبتسم فى سخرية وأردف غامزا بعينه:

-         او بمعنى أصح بقايا متلقى السبوبة.

-         بعض من التفاصيل إن أمكن

-         تلك الأكمنة تقف على مسافات متقاربة فى حدود خمسة الى عشرة كيلومترات على ما أتذكر قد يوقفون المركبات حسبما يتراءى لهم ثم يفتشونها عن بكرة أبيها وأنت وحظك.

-         هاه

-         وكالعادة إما الرشوة او يعودوا بك

-         الى اين

-         لا أعلم بالتحديد لأنى لم أعاصر حادثة كتلك ولكن فى الغالب تعود للجمارك لتدفع ما عليك. هذا ان افترضنا انهم ليسوا من ارباب الرشوة وذلك نادرا ندور الديناصورات فى زمننا هذا.

-         حقا؟

-         حقا ماذا؟ الديناصورات؟ قد تعتبر موظفى الجمارك ديناصورات بالمعنى الأدبى ولكنى قصدت أن أستخدم المعنى البيولوجى للديناصورات فى جملتى السابقة!

 

إبتسمت وإستمر هو فى حديثه قائلا:

-         على أية حال كانت والدتى بخبرتها الواسعة وآخرين يشاركونها نفس الخبرة يطلبون من الركاب ان يسدلوا الستائر على النوافذ ويطلبوا من السائق ان يطفئ النور الداخلى حتى لا يشدوا انتباه الأكمنة. وكان ذلك لمسافة معينة يعلمونها تقديرا ثم بعد ذلك فليفعل الفاعلون ما يشاؤون!

 

شعرت أننا إقتربنا من إجابة السؤال وكنت فى حيرة ماذا أفعل حتى يطيل الحديث وقد بدا حديثه يهم بإسدال الستار قريبا ولكنه لم يعطنى الفرصة وقال:

-         وفى طريقنا كنا نقف عند مدينة دمياط او بالتحديد على الطريق قريبا من مدخل دمياط حيث تنتشر محلات الحلوى التى لها بدورها اصحابها لهم قرون استشعار يتحسسون بها الطريق ويعرفوا حينها بصورة أو بأخرى ان كان هناك مركبة تحمل زبائن محتملين فى غالب الأمر ، أو عدة مراكب فى غالب الأحيان. ويتنافسون بوقوفهم على الطريق بمحاولة جذب المركبات ناحيتهم. وما أن ننزل من الأوتوبيس حتى يحاول كل منهم أن يشدنا ناحيته بشتى الطرق وكان منها ماكنت انا شخصيا أتطلع اليه فى شغف ، الا وهو عرضهم علينا أمثلة من حلواهم دون مقابل كى نذوقها فنشترى بعدها. وكنت أنا أغرق فى النعيم حينئذ.

 

توقف صاحبى عن الحديث وكنت هممت أن أقاطعه بسؤال ما الا أنى لاحظت شروده وقد إغرورقت عيناه بالدموع قهرا فآثرت السكوت لعله فى الأمر شيئا اكبر مما ادركه. إعتدلت فى إحترام مصطنع ونظرت بعيدا لأرفع عنه الحرج ثم إتخذت قرارا بترك الشرفة قليلا بحجة إتيان بعض الماء من الداخل على أن أعطيه بعض الوقت. دخلت وتكاسلت خطواتى بعض الشئ  عن عمد ولم أجد مفرا من أن أعود حتى لا يسئ فهم ما فعلت. ما أن دخلت وجلست فى صمت دون إحداث أى ضوضاء تناول بدوره كوبا من الماء وإرتشف رشفتين ثم نظر فى اتجاهى بإنحراف قليل ثم قال وقد بدا على صوته الحزن بعض الشئ:

-         كنا نعيش كمثلنا من الأسر أوقاتا عصيبة. قوتنا لا يكاد يكفينا. أتذكر عندما كان أبى فى أوقات الشدة التى لم تكن بالقليلة فى الماضى يأتى بكمية من البطاطس ويلقيها تحت أسرتنا حيث ننام بصورة مرتبة الثمرة جانب الأخرى غير ملتصقة ببعضها وقد إفترش تحتها أكياس حتى لا تعطب ولا تفنى وتطول مدة بقاءها. وكانت والدتى تحاول جاهدة بدورها أن تحضر منها انواعا مختلفة من الوجبات على مدار الأيام حتى لا نصاب بالملل من أكلها خاصة أنه لا بديل عن البطاطس. وعندما يأتى بعض الفرج ويدخل أبى علينا بنصف كيلو من اللحوم كانت والدتى دون مبالغة تضعها فى أكبر إناء عندها حتى تضمن كميات كبيرة من الشوربة قد تستخدمها فى أى وجبة غير مكلفة فى المستقبل.

 

ثم تنهد فى مرارة ملحوظة وقال بصوت متقطع وبنبرة هادئة:

-         كانت أمى تقوم بتوزيع حصة اللحوم كل يوم قطعة صغيرة لا تتعدى عقلتى أصبع طولا وعرضا ونصف العقلة إرتفاعا. وقد تندهش حين أقول لك ان نصف الكيلو كان يستمر معنا اسبوعا كاملا.

 

ثم ضحك ضحكة هيستيرية لم أفهم مدلولها وترددت فى أن اجاريه فيها وقد أصابنى الصمت من رأسى حتى أطراف قدمى فى حين لم يكن يبدو عليه أى مبالاة او ملاحظة بردة فعلى وأردف قائلا:

-         ولكن والحق يقال كنا أفضل حالا من كثير من جيراننا. فقد نما الى علمى أن بعضهم كان يحتفل عندما كنا نطهو اللحمة عندنا فيشمونها وكان ذلك بمثابة تذكيرا لهم بماهية اللحوم المضربة عن بيوتهم أضرابا عاما يمتد غالبا لشهور طويلة!

-         مأساة!

-         أم ملهاة؟

-         تعتقد ذلك؟

-         لا أعتقد شيئا. ولكنى أعلم تمام العلم اننى ومن على شاكلتى فى تلك اللحظات تختلط المأساة والملهاة لديهم حتى مع وعود الرئيس المبجل حينها بالوقوف بجانب محدودى الدخل والاهتمام بالبنية التحتية التى لطالما كانت تهدد حذائى السنوى!

-         على أية حال...

-         ماذا

-         كانت الحلوى لها نصيب من الداء الفقرى ، فكان توقفنا كمثلنا لنصف ساعة من النعيم فى عينات من الحلوى يطرحها علينا أصحاب المحلات دون مقابل ينتهى بشراء نصف كيلو قد يمتد لكيلو عند أكثر أفراد محدودى الدخل أرستوقراطية. والذين بلا شك لم نكن منهم حينها. وكانت والدتى تأخذ تشكيلة من المشبك وبعض الحلوى الأخرى على قدر ضئيل جدا بمجموع لا يتعدى النصف كيلو. ذاك ماكنا نقدر عليه مهما حاولنا أن نأتيها من كل جوانبها!

-         وهل كنت تستمتع بتلك النصف ساعة؟

-         أى نعم. والا لماذا اتيت بتلك الذكرى لديك عندما سألتنى؟ كانت تلك المدة القصيرة لى تشبه فى متعتها المدة التى كانت تقضيها السندريلا تحت تأثير السحر بين يدى الأمير المحبوب حتى منتصف الليل. ولكننا حتى فى ذلك كنا أقل وقتا مقارنة بسندريلا. فالستار يسدل بعد نصف ساعة قد تقل ولكن من رابع المستحيلات أن تزيد بأى شكل من الأشكال.

-         لماذا؟

 

إبتسم صاحبى ونظر فوقه ناحية السماء ثم قال ساخرا:

-         لأن هناك فى الطابور مركبات أخرى تحمل أناس كتب عليهم وعلينا أن نزاحم بعضنا فى الفقر...وفى لحظات المتعة النادرة...

 

بداخلى فى هذا الوقت كان يدور استفسار لم أكن لأبرح به ، هل صاحبى ألقى على مسامعى تلك القصة التى بدت بكل جوانبها مليئة بالضحك والابتسام مستدرجا اياى لصفعة من الآلام حتى يؤنبنى على جرأتى بأن أسأل سؤال عن المتعة فى زمن لم تكن المتعة كلمة تندرج فى قاموس حياته وحياة الكثيرين من أبناء الوطن؟

 

وتنهدت بدورى ثم ساد الصمت وطال و...وعدنا لحديث السياسة!

اجمالي القراءات 37218