عن قانون الإفتاء الليبي
إسلام الأمين ، أم إسلام المأمون .

امارير امارير في الجمعة ٠٩ - مارس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

ليست هذه قفزةً في الفراغ ، وليس هذا سؤالاً ينشأ عن سوء النيّة قطعاً ، أهو إسلام الأمين أم إسلام المأمون ؟ ، إسلام الأشاعرة أم إسلام المعتزلة ؟ ولمن سيصرخون منادين بفرض إسلام السلف ، نسأل إسلام السلف الصالح أم إسلام السلف الغير صالح ؟ ، مع ضرورة الغوص في القواعد العامّة  للمدرستين بين النقيض والنقيض ، هذا هو السؤال الذي يجب الإجابة عنه قبل الخوض في التفاصيل التي تسبّبت في صداع الرأس لأمّةٍ بكاملها على امتداد الأربع عشر قرناً الماضية ، لكن بادئ ذي بدء فلنتحدّث عن مجموعةٍ من المفاهيم والقواعد العامّة التي ننطلق عبرها جميعاً ، عدم المعرفة ليس علّةً كافيةً لتبرير قبول الاستبداد ، الأكثريّة في الدولة الديمقراطيّة كما الأقليّة هي الأكثريّة والأقليّة السياسيّة ، لا الأكثريّة والأقليّة الدينيّة ، المذهبيّة أو القوميّة ، إذ أن هذه الأخيرة متقاطعةٌ ويستحيل أن تكون ثابتةً متطابقةً لا في الواقع ولا في المفهوم أو المصطلح السياسي ، فكرة (المذهب السائد ) التي أقرّها قانون الإفتاء الليبي مجهول النسب فكرةٌ لا يمكن قبولها إلا في حال تمكّن من يقول بها إيقاف الزمن ، أو كما في لسان فوكوياما إعلان ( نهاية التاريخ ) ، وهذه مهمّة مستحيلةٌ في واقع الأمر ، فالمذاهب السائدة ليست سائدةً بسبب صوابها أو عدمه كون الأمور تبقى دائماً نسبيّةً ومعتمدة على التحيّز للموروث خارج دائرة الشكّ ، بل هي سائدةٌ بسبب الظروف المتغيّرة التي سمحت بانتشار هذا المذهب ومنعت ذلك ، عدد الأتباع ليس حجّةً على أحقيّة المذهب من عدمه في أن يحظى برعاية الدولة الديمقراطيّة التي تتحول بناء على هذه الرعاية إلى دولة ثيوقراطيّة ، بل أن السياق القرآني نفسه يشير إلى هذه الحقيقة بصريح العبارة : ] وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ [ الأنعام 116 ، السؤال المركزي عند الحديث عن المدارس الفقهيّة أو المذاهب الدينيّة هو سؤال المرجعيّة ، وعند الحديث عن الإسلام فالمرجعيّة الوحيدة المتّفق عليها هي القرآن الكريم كعالمٍ قائمٍ بذاته ، اجتمعت حوله العوالم الأخرى تحت اسم المذاهب ، الملل و النحل ، يقول أبو حيّان التوحيدي في الإمتاع و المؤانسة : ( ... من أين دخلت الآفة على أصحاب المذاهب ، حتى افترقوا هذا الافتراق وتباينوا هذا التباين وخرجوا إلى التكفير والتفسيق وإباحة الدم والمال ، وردّ الشهادة وإطلاق اللسان بالجرح وبالقذع والتهاجر والتقاطع ؟ ) .

 

يقول أحمد شلبي في كتابه المجتمع الإسلامي : ( ... وجاءت عصور التقليد أو عصور الظلام ، وإذا كان المجتهد يجل اجتهاد الآخرين فذلك لإدراكه ما يستلزمه الاجتهاد من كدح ذهن وسعة إطلاع ، أمّا المقلد فقد عاش على حساب المائدة التي أعدها شيوخ مذهبه ، وأصبح يرى كل رأيٍ خالفه باطلاً ويرى كل مذهب ضالاً إلا مذهبه ، وشب بذلك عداءٌ طويلٌ بين المذاهب المختلفة  وأسفر العداء عن معارك طاحنةٍ ، وحسبك أن تقرأ في معجم البلدان لياقوت لترى أنه في عدة مواضع يقول : وقد خربت هذه البلدة بسبب الخلاف بين الشافعية والحنفية ) ، وفي ليبيا الأمور لم تذهب بعيداً عن السياق الحاصل ، أن تقوم الدولة بإعلان مفتّي لها يمثّل سلطةً عليا فوق كل السلطات جديدة النشوء في هذا البلد الغض في عالم السياسية ، بحيث لا يجوز حتى : ( ... مناقشة الفتوى في وسائل الإعلام ) ، كما يقول نصّ القرار سيء الصيت ، فهو أمرٌ لا يمكن الوقوف أمامه مكتوفي الأيدي ، وقبل مناقشة المذاهب التي تنتشر في ربوع ليبيا والتي نالها ما نالها من الاضطهاد ، الملاحقة والإقصاء بدرجاتٍ متفاوتةٍ ، الإباضيّة ، المالكيّة تحديداً ، يجب أولاً تحديد مفهوم سلطة الفقيه ، وسلطة الفقه نفسه ، إذ إن غاية الإسلام بالدرجة الأولى هي الفصل بين سلطة ( الدين/الشريعة ) ، والأشخاص الذين يمثّلونها (الكهنوت/المرجعيّات ) ، فليس الرجال علامةٌ على الحق ، بل الحق علامةٌ على الرجال : ] مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [ آل عمران 79 ، بل والفصل في صريح الاستدلال بين دائرة الإيمان ودائرة السلطة السياسيّة نفسها : ] وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً [ البقرة 247 ، الإسلام الذي يحتوي فيه النص القرآني كل النصوص السابقة ، والذي يشكّل نوراً ملأ الفراغ الأسود الذي أنتجه تلاعب رجال اللاهوت بالنّص الديني ، بعد قيام المؤسّسات الدينيّة السابقة له والتي فتحت الطريق مُشرعاً للهروب خوفاً من الله بدلاً من السعي لمعرفته حبّاً له ، فخرجت في الإسلام دائرة الإيمان ( الوحي ) إلى دوائر أخرى عبر مستوياتٍ عديدة : (1) المستوي العقدي بين فرق : المعتزلة ، الأشاعرة ، الماتريديّة ، الباطنية ، الظاهريّة ، الصوفيّة ، المرجئة ، الجبريّة ، الحشويّة والسلفيّة مؤخراً ، (2) المستوي الفقهي بين مذاهب : الإباضيّة ، الزيديّة ، الجعفريّة ، المالكيّة ، الشافعيّة ، الحنفيّة ، الحنبليّة ، والإسماعيليّة ، (3) المستوى السياسي بين طوائف : النواصب ، الروافض ، الخوارج والوهابيّة ، ولا يهم في واقع الأمر حضور هذه المذاهب والفرق ليبيا من عدمه في المرحلة الحاصلة اليوم من تاريخ ليبيا ، بقدر ما يهم الفكرة العامة التي تقول بأن هؤلاء جميعاً مسلمون ، وهؤلاء جميعاً يحق لهم أن يكونوا مواطنين تكفل الدولة رعاية حقوقهم جميعاً ، وكون القانون المذكور تجاهل هذه الحقائق بشكلٍ لا يسرٌ أحداً ، سوى ؤلائك الذين قاموا بكتابته دونما استحياءٍ من أحدٍ ربّما .

 

النّص القرآني في المجمل يصبّ في مسار التركيز على العموميّات ، وفتح الباب أمام العقل الفعّال ، أو الأفراد الفعّالين اجتماعيّاً في الجماعة الواحدة ، في تفعيل النّص مع واقع المجتمع الواحد ، برسم خطوط الشرع العريضةٍ الذي تُنتجه الشريعة والذي أنتج المذاهب التي قيّد المقلّدون الأتباع داخل حدودها ، لكن بسبب سيادة منظومة التراث المتصدّعة ، سبب كون ما نتج من نصوص تأريخٍ منسوبةٍ للرسول أو أصحابه عبر الفئات الفقهية المركزيّة الكبرى الإباضيّة ، الزيديّة ، الجعفريّة والسنة أهل الحديث نتجت كنتيجة لصراعٍ أيديولوجي طارئ غابت أسبابه وحضرت نتائجه ، لا علاقة له لا بالقرآن ولا بالرسول الكريم ، بمقدار صلتها بواقع النزاع والصراع الذي أنتجها ، فلقد ضاعت دلالة مصطلح السنّة بمعنى المنقول من وقائع أفعال وأقوال الرسول تحت لواء العُصبة تحديداً ، فضاعت المرجعيّة خارج النص القرآني للمذهبين السائدين في ليبيا بين ربيع بن الحبيب جامع صحيح أحاديث الإباضية ، موطأ مالك جامع صحيح أحاديث المالكيّة ، بسبب كون كل طائفة تحاول إنكاره على الأخرى ، في محاولاتٍ حثيثةٍ تتراجع أحياناً وتتقدّم أحايين ، يحكمها المجال المتاح لأيٍّ منها لفرض تسلّطها على عوام الناس وخواصّهم أيضاً ، بسبب التحالف وقوى السياسة بالدرجة الأولى ، وهذا هو بيت القصيد حقيقةً ، الفقيه يكرّر فقط ما يرد داخل التركة التي يرثها ، حيث ينقطع الطريق أمام الاستقصاء والتحرّي عن حقيقة المعرفة التي ترد داخل هذه التركة ، لعدم السماح للفقيه نفسه من الخروج خارج حدود وخطوط رئيسيّة تشكّل قاعدة وبناء الهرم الفقهي ، فالمعرفة السابقة مقيّدةٌ بالوضع الاجتماعي والحالة التاريخيّة التي أنتجتها ، ليكون أمر تفعيل الشريعة عبر واقع المجتمع أمراً مستحيلاً منذ تم تقييدها في تكرارٍ غير ممكنٍ عبر شرعٍ تغيّر واقعه بتغيّر الجماعة التي أنتجته ، ليتمت إحاطة النّص القرآني تم اختراع مصادر أخرى للتشريع لا علاقة لها بالتشريع نفسه . 

 

النّص القرآني مصدر الشرع الاجتماعي بالدرجة الأولى ، والذي ينشأ عن طريق إعلاء شأن العقل ، شأنه شأن : ] كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء [ إبراهيم 24 ، يؤسّس لمفهوم الحريّة والاستقلاليّة في استيعاب معاني النّص ، عبر استنباط الأحكام الناتجة عن تفعيل أساسيّات المعرفة الفطريّة ومقادير الطاعات داخل مساحة الحلال والحرام الواضحة والمقيّدة  داخله مع الواقع الاجتماعي للجماعة خارجه عبر فاعليّةٍ إيجابيّةٍ وتفاعلٍ مستدامٍ ، كلّ هذا داخل إطار العقد الاجتماعي الذي يتغيّر بتغيّر الشروط الاجتماعية أولاً وأخيراً ، توصل إلى نتيجة النّص الفعال : ] تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [ إبراهيم 25 ، بحيث لا يمكن القبول بجمود الشريعة في تراث المذهب دون المذهب أو السلف دون السلف ، ما دام الواصل الزماني و المكاني مقطوعٌ ومنتهي أصلاً : ] وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ [ إبراهيم 26 ، هذا التراث الذي يشكّل قيوداً تكبح جماح العقل ، أساسها العصبيّة ، والانتماء السياسي لمسلسل الصراع والتصارع المذهبي والإيديولوجي الذي أسّس لمفاهيم القهر والتسليم بالجهل المقدّس كما يقول أركون ، في رحلةٍ جعلت الإنسان ينزل من مرتبته العليا ، مرتبة الاختيار والاختبار ، إلى مرتبة أدنى وهي مرتبة التقليد والتكرار ، فالشراكة المعلنة داخل النّص القرآني بين الله والناس والتي أساسها شكل الخطاب المباشر بين طرفين يتّجه من الأعلى إلى الأسفل عبر الترغيب ، ومن الأسفل إلى الأعلى عبر الترهيب ، لينتج ما أطلق عليه النّص القرآني وصف : ] أُمَّةً وَسَطاً [ البقرة 143 ، والذي يمكن تتبّعه عبر التكرار المضطرد للخطاب المباشر للناس عبر أسلوب النداء : ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ [ في أكثر من 20 آيةٍ ، ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ [ في أكثر من 90 موقعاً ، وعبر سياقاتٍ أخرى مباشرةٍ وغير مباشرةٍ ، صريحةٍ وغير صريحةٍ تحمل نفس معنى الخطاب المباشر للناس ، حيث يتاح للإنسان الحق و المقدرة على الاختيار: ] إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [ الإنسان 3 ، وهي الحالة التي يمتاز بها هذا الإنسان العاقل المدرك عن الملائكة نفسها ، و التي لا تمتلك هذا الحق وهذه المقدرة : ] مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ التحريم 6 ، حيث لا يتاح لها سوى المقدرة على الطاعة العمياء ، هذه الإتاحة والميّزة التي تنطلق من امتلاك العقل المعرفي أولاً وأخيراً ، والذي يؤسس  للقدرة على التمييز والفصل بين الضار والنافع ، الخطأ والصواب ، والتنازل عن هذا العقل بتغييبه أو تجاهل تفعيله عبر النّص القرآني الأصل بالتقيّد بالنًص الفقهي الفرع أو المذهب دون المذهب  ، يجعل نفس الإنسان ينزل إلى مستوى أدنى من الملائكة عبر المستوى المعرفي ، ليكون : ] كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [ الأعراف 179 ، بل ويلغي عنه حتى صفة التكليف التي ينتج عنها البعث ، الحساب والعقاب : ] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ [ الأنفال 22 ، هذه الشراكة التي تنطلق نحو الإنسان مباشرةً ، في تحدّي مستمر للمسير نحو الخوض في تجربة الاستدلال من الأصل القرآن أو الشريعة وصولاً إلى الفرع الفقه أو الشرع ، عبر تتبّع البرهان والدليل ، حيث العقل الخالص والحياة بمعنى  نقطة اليقظة ، تمنع التصادم الذي يعلنه الفقه بين الواجب الاجتماعي والإرادة الحرة المنفردة ، حيث ينحاز الفقه دائماً ناحية السلطة بتقديم المبرّرات المعلّلة لقيود التسلّط لا غير ، تلك التي تبيح إرادة القوّة المتسلّطة للجماعة ، على قوّة الإرادة الفرديّة ، الفقه ليس سوى قانونٍ صاغه المجتمع في مرحلةٍ مرّ بها ، تلغى فاعليّته بمرور المرحلة التي واكبت صياغته ، و هذه هي حقيقة كل المذاهب دونما استثناء ، فلطالما كان الاستبداد السياسي مرادفاً للتحالف مع السلطة الدينية المُخْتَلَقَةُ ، وهذا ما أتى الإسلام ليلغيه ، ( الله أكبر ) والتي تتكرّر في سياق الصلاة مرّات عديدةٍ ، تعطي معنى مركزيّة سلطة الله ، وكون التسلّط الكهنوتي ليس سوى إعلاناً على التطاول الإنساني على هذا المبدأ ، لقد تحوّلت روما من إمبراطوريّة إقطاع إلى إمبراطوريّة كنيسة عندما اتحدّت السلطتان السياسيّة والدينيّة ، حدث ذلك كي تنقذ روما نفسها من الهلاك بعد أن أخفقت في مقاومة الغزو الجرماني ، وعلى الجانب الآخر تحولت رسالة الإسلام إلى أيديولوجيا سياسيّة بعد أن كانت مستقراً للحضارة الإنسانيّة مباشرةً بعد وفاة الرسول الكريم ، فغاب دين الإسلام عن واقع الناس ، منذ تحول الإسلام إلى نافٍ لا مكمّل لما سبقه من أديان : ] يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ [ النساء 47 ، وتكوّنت أثناء ذلك سلطة كهنوتٍ عبر نصوص الفقه والمذهب ، وأصبح هنالك أناسٌ اسمهم رجال دين ، يتحالفون مع رجال السياسة ، ليغيب شرع الله عن واقع الناس عبر طلاسم كتب الفقه ، ويستمر الاستبداد تحت عباءة الدين وتصبح الدول الإسلاميّة مجرّد اسمٍ لا يمت للإسلام بصلةٍ .

 

لم يخرج الإسلام من مأزقه التاريخي وظل يراوح مكانه ألف عامٍ و نيف ، كل هذا حدث عندما أصبح الدين من موجّه لسلوك الناس ، إلى قانونٍ إداريٍّ يكبّل حركة الناس ويمنع عنهم الحق في تقرير مصيرهم ، فاللغة لا تعني شيئاً خارج النّص ، والنّص لا يعني شيئاً خارج الشريعة ، والشريعة نفسها لا تعني شيئاً خارج واقع النّاس ، فالدين لا يخاطب الدولة ، ولا يخاطب مؤسّساتها أو أجهزتها البوليسيّة ، بل يخاطب النّاس جميعاً دونما تمييز أو تجاهلً لطائفةٍ دون أخرى أو جماعةٍ دون جماعةٍ ، فلا يحق للدولة أن تتبنّى مذهباً بعينه ، وبناءً عليه لا يمكن تطبيق الشريعة التي ستكون مخالفةً لتطبيق روح القرآن وهي إشاعة العدالة الاجتماعيّة ، هذه العدالة التي تختلف من مذهبٍ لآخر ، فقناعة الإنسان مرتبطة بوعيه الخاص ، ولا يحق للدولة أن تفرض عليه منهجيّةً بعينها ، فليس الله مِلكاً لأحد :  ]ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [ النحل 125 ، المشكلة هي فقدان الحق في الاختيار ، يحقّ للمواطن المسلم أن يكون زيديّاً ، إباضيّاً ، شافعيّاً ، جعفريّاً ، متصوّفاً ، معتزليّاً أو مالكيّاً أو بدون مذهب ، هنا لا يمكن للدولة تطبيق حدود الشريعة وفق المذهب الذي تختاره هي ولم يفعل هو ، فالمواطن غير مؤمنٍ بمذهب الدولة ، وهذه هي المسافة الشاسعة بين الدولة المسلمة ، المواطنين القاطنين فيها والإسلام . 

اجمالي القراءات 11299