احمد برقاوي …….حين يتظاهر الله

 

 

 

 

 

كان المنظر جميلاً ومدهشاً.

مئات الناس يقيمون الصلاة على جسر من جسور النيل، يأتي الأمن المركزي ويستخدم خراطيم المياه في رش المصلين، المصلون لا يرف لهم جفن ويستمرون في ممارسة شعائر الصلاة.
منذ هبة تونس الثورية والله يتظاهر مع المتظاهرين، والمتظاهرون يستمدون القوة منه، بل إن الله قائد المظاهرات بلا منازع. إنه ليس مرفوعاً على الأكتاف، بل حاضراً حضوراً قوياً في أراوح الناس يمدهم بالقوة كلما ازداد عسف الطغاة.
ما الذي جعل الناس يربطون بين الله والحرية؟ كيف صار نداء ألله أكبر مساوياً لنداء" تحيا الحرية"؟ ولماذا قرر العربي أن هناك تناقضاً بين الله والطاغية؟
الواقعة الفاقعة جداً لتفسير هذا أو للجواب عن هذه الأسئلة هي الآتية. لقد قرر الطاغية أن يكون إلهاً بديلاً عن الله. وراحت حاشيته تبيح له الخطابات والقصائد والمقالات التي تؤكد ألوهية الطاغية. فالطاغية لا ينطق عن الهوى، ولأنه ليس موحىً إليه، فإن كل ما يقوله هو قول مقدس، إنه قول من ذاته. المقدس هنا يتحد بالحقيقة بالضرورة، إذاً الطاغية لا يقول إلا الحقيقة، الصواب إذاً هو منزه عن الخطأ، عبر كل فترة حكمه مهما امتدت بها السنون يفيض الطاغية عن آيات من الكلام المقدس.
ولأن كلام الطاغية مقدس فيجب أن يُتلى . فهو أولاً قول يستشهد به عند الأتباع في كل خطاب أمام الناس أو قول مكتوب من قبل الحاشية. فمن هذا القول المقدس تستمد الأفكار وتتأكد. فالأمر "كما قال" وقد "قال" وحين يستشهد بقول الطاغية ترفع الأقلام وتجف الصحف. وينتهي أي نقاش ويصير القول الصادر عن الطاغية قولاً يحتاج إلى شرح وتفسير فقط.
الطاغية المؤله "الناطق بالحق والحقيقة" يصير صاحب كتاب تجمع خطاباته بكتابه ذي إخراج فخم جداً، حيث الغلاف الذي تفوح منه رائحة الفساد وعليه صورة الطاغية، وهو كتاب لا يباع، لا لأن دار النشر أو المؤسسة التي نشرته عفيفة لا تريد مالاً، بل لأن أحداً من الناس لن يشتري كتاباً يضم بين دفتيه أقوال المكروه أصلاً منه.
الطاغية الذي يختال صوراً على الجدران في الساحات يحضر لغة مع الصورة عن طريق أقواله المأثورة. والتوقيع في الأسفل "من أقوال..".
الطاغية المؤله إذ يستبد بالبلاد والعباد من دون أي حياء من حاشيته يخلق الشعب النقيض، الشعب النقيض يستعيد إلهه الذي يؤمن به بحرية فيجرد الشعب إلهه في وجه المستبد المؤله. وبين استحضار الشعب للإله في مواجهة الطاغية تزول صورة الإله الذي استحضره الأصولي ـ العنفي.
فالإله الذي يتظاهر مع المتظاهرين يخرج من الحنجرة ومن الحنجرة فقط، يصاحب الجموع الهاتفة للحرية، يدخل معها من الجامع ويخرج معها من الجامع، ألله هنا يدافع عنهم ويحميهم. فيما إله الأصولي- العنفي يخرج من فوهة مسدس كاتم الصوت، لاغتيال هذا أو ذاك، من خنجر يطعن به نجيب محفوظ.
كان الطاغية وما زال فرحاً بإله الأصولي- العنفي. ذلك انه يخوض معركته مع الأصولي واثقاً من النصر عليه. فلديه من أدوات القتل ما يكفي، ولديه من المبررات ما يعنيه من التساؤل بل وعبر صراعه مع الحركة الأصولية قوّى أجهزة قمعية إلى الحد الرهيب مؤيداً من الغرب.
أما إله الحناجر فهو الإله الشعبي الذي لا يؤمن بالعنف، إله يخرج من حنجرة تهتف للحرية والكرامة والديموقراطية والعدالة، حنجرة لا تكره المختلف بل تؤكد حق الجميع بالتمتع بأهدافها الكبرى حينما تتحقق من العلماني إلى الإسلامي إلى المسيحي.
حين راح الله يتظاهر مع الشعب تحرر من أدعياء الناطقين باسمه من فقهاء السلطان، بل لقد حرر الشعب الله من الكذبة، فمن المستحيل أن تكون مع الله ومع المؤله معاً، مع الطاغية ومع الله معاً. مع الله وضد الإنسان معاً، مع الله ومع قتل المسالم معاً، مع الله ومع المجرم معاً.
بل إن ولادة الإنسان العربي اليوم إعلان لمعنى جديد للإله، فلم يعد لأحد الحق أن يحتكر الحديث باسم الإله، لأنه صار إله الشعب وإله الإنسان الذي لا يغضب إلا من أولئك الذين يعادون الشعب وحرية الشعب.
إن الله الذي يتظاهر هو ذاته الإله الذي يقاتل أحياناً، إله الوطن هو الإله الذي يعادي من يعادي الوطن، إله الدفاع عن الأرض والحرية ضد من يحتل الأرض والحرية. الإله المقاتل الذي يطل من فوهة بندقية متجهة لتحرير الأرض لا يمكن أن يكون إلا هو الإله المتظاهر في سبيل الحرية.

لست أرى سبباً من خوف بعض الناس من الإله الذي يتظاهر، المتعين صوت حنجرة تنادي بالحرية والديموقراطية. إلا إذا كانوا يعتقدون أن الطاغية ـ الإله أو المؤله هو أفضل من الإله الساكن في قلب المعذبين والذين يريدون خلاص الأرض من الشر، والذي يحضر من اجلهم لا من اجل ذاته.
إن الله القابع في قلب ينادي بالحرية والديموقراطية هو الذي يحرر الدين من التعصب ويجعل الانتماء الديني فعلاً شخصياً لا يحمل أحداً على الاستبداد بأحد بدافع الانتماء الديني.
وما خوف المستبد من الشعب إلا السبب الرئيس في اتهام الثورات بأنها أصولية، وما وضع الناس أمام خيارين إما الاستبداد العلماني وإما الأصولية المستبدة إلا لغة قديمة لم تعد تقنع أحداً من الناس. لا لكل أشكال الاستبداد تحت أية ذريعة كان، نعم للدولة الديموقراطية – العلمانية فقط.