الجزء الأول
ليبيا بين مطرقة الدولة الثوريّة و سندان الدولة الدينية

امارير امارير في الإثنين ٢٦ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

من رحم الثورة يولد نقيضها ، هذه مشكلةٌ ننطلق عبرها ناحية الوصول إلى الحل ، يقول باولو فرايري في كتاب تعليم المقهورين : [ ... عن نزعة بعض القاهرين في هجر طبقتهم القهريّة و الإنحياز الى طبقة المقهورين حيث ينتقلون من النقيض الى النقيض ، فإمثال هؤلاء يلعبون دوراً خطيراً ، إذ أنّهم يحملون أدوات طبقتهم الأولى التي تتمثّل في الكراهية و التحيّز و عدم الثّقة في قدرات الآخرين ] و هذه مشكلةٌ أخرى تبحث أيضاً عن حل ، و قبل البحث عن حلول لهذه المشكلات ، نبدأ الحديث عن الدولة الدينيّة ، و التي هي في واقع الأمر دولة [ فقه ] لا أكثر و لا أقل ، الفقه ظاهرة مؤقّتة تعكس القوّة لا غير ، هكذا يخبرنا التاريخ و الواقع أيضاً ، و على صعيدٍ آخر فإنّ الكرم الزائف الذي يهب عبره الثوّار للناس حريّاتٍ طارئةٍ تجعلهم مملوكين لهؤلاء الثوار ، من ينصّبون أنفسهم ملاكاً للحق مانحين إيّاه ، كل هذا يمر عبر عناصر ثقافة الصمت و الخوف من الحريّة التي كرّس لها الإستبداد الثوري و الديني أيضاً ، لا نقصد الثورة أو الدين هنا ، بل نقصد الثوّار من يستغلّون الثورة ، و رجال الدين من يستغلون الدين في الأمس و اليوم أيضاً ، أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن يتحوّل الثوّار الى رجعيّين و يتحول الفقهاء الى أرباب ، حينها يضيع المواطن و يضيع الوطن و في نهاية المطاف يضيع الإنسان أيضاً ، و الذي يفقد القدرة على ممارسة الوجود البشري كاملاً و المتمثّل في الحق في الكلام ، التعبير ، التصرف ، التنقّل و الكسب ، فتتحوّل رحلة التحرّر في الإتجاه الخاطئ و يصبح الثائر مجرد جزءٍ من اللعبة ، يلعب دوره  كطرفٍ في عملية القهر التي تتكرّر لكن بألوان أخرى جديدة ، برّاقةٍ أحايين كثيرة .

 

لا أحد يستطيع أن ينكر أن [ الفقه ] شيءٌ و [ الدين ] شيءٌ آخر ، الفقه أوجدته المبرّرات و الدين على جانبٍ آخر بعيدٌ كل البعد عن كلّ الرغبات ، و لا أحد يستطيع أن ينكر عجز [ الثوّار ]  دائماً في صناعة [ الدولة ] في حال لم ينزع هؤلاء عنهم حلّتهم و يتجهوا ناحية عقلنة هذه الثورة و أنسنتها ، ببساطة لأنّه و في كل من الحالتين تضيع الحسابات بين [ الذاتي ] و [ الموضوعي ] بالنسبة لهؤلاء و أؤلائك ، فالفقه ينظر لنفسه هو فقط من يمتلك الحقيقة المطلقة ، [ المتصوّفة ]  في ليبيا يجابهون حرباً مسلّحةً ضد [ الحنابلة ] ، و [ الإباضية ] يعانون من إجحاف و إقصاء بل و أنكار [ المالكيّة ] ، الأول [ قبوري ] ، يتسلّح في مجابهة من يناصبه العداء [ المشبّه ] ، و الآخران [ قدريٌّ ] يجابه [ مرجئأً ] ، هكذا يقول كلٌّ عن الآخر ، و في نهاية المطاف تسود علاقةٌ يسودها [ العنف ] ليتغيّر فقط شكل الطبقة المهيمنة على الدولة ، لكن قبل كل هذا نسأل ما هي الدولة ؟ ، و هل هنالك [ دولةٌ دينيّة ] أو [ دولةٌ ثوريّةٌ ]  يمكن أن تنشأ في خدمة الإنسان أو لأجل تقديم أدنى مستويات الحريّة و التحرّر حتّى ، عبر النماذج الموجودة في العالم اليوم و البارحة أيضاً ؟ .

 

الدولة هي الشكل الموضوعي للمواطن ، معطى بديهي للمواطنة ، إذ ان الدولة كظاهرة إنسانيّة عامّة تعني تجسيد السلطة عبر محاور الهدف من تكوينها ، وسائل عملها ، وظيفتها لمن يعيش تحت ظلّها ، و على جانبٍ آخر فإن الدين مرتبطٌ بالدرجة الأولى بالوجدان الفردي ، هذا الوعي لا يدخل في إطار المرئيّات أو الحياة الدنيا إلا عبر نظام [ الأخلاق ] ، الدولة غير ممكنة في نظامٍ ينفصل فيه الفرد عن الحياة الدنيا حيث تتجسّد سلطة الدولة ، داخل الوعي الديني الذي يهيأ الفرد لحياة السعادة في الحياة الآخرة ، الدولة عندما تتبنّى الدين فإنّها تلغي الدّين أصلاً كونها لا تستطيع بل لا يمكنها أن تتضمّن أي قيمةٍ أعلى من قيمة الحياة الدنيا ، إذ أن الماديّات تنكمش في الخطاب الديني ، خلاف مبرّرات تكوين الدولة التي تقوم في الأساس لتلبية رغبات الإنسان [ الحيوانيّة ] ، فتحجب الدولة غايتها خلف الدين ، و يختفي الدين خلف غايات الدولة ، التسلّط ، إحتكار الثروة ، إدخال المواطن في لعبة [ التجنيد ] بدلاً عن [ التنشئة ]  ، فتفقد الدولة مواطنيها داخل فوضى الأدوار المبعثرة في منظومة فقدان هذه الأدوار في الخطاب اللاورائي ، و يفقد المواطنين دولتهم داخل خطاب اللاهوت الغير مبالي بالحياة الدنيا أصلاً ، الأمر بهذه البساطة .

 

الدولة غير مقيّدةٍ بنظريّة الأخلاق ، السلوك الفردي الذي ينظمّه الدين شيء ، و السلوك الجماعي الذي يحدّده القانون بناءً على مصالح هذه الدولة شيءٌ آخر ، و العلاقة بين الإثنين لا تتعدّى دور وسيلة الأولى/الدولة [ تبليغ ] الثانية/الدين ، و احتكار التبليغ بتحديد نوع الشريعة في اتّجاهٍ واحدٍ يلغي الدين عن طريق الدولة عندما تتبنّى الدولة شريعةً بعينها أو مذهباً بعينه ، و هو أمرٌ حتميٌّ في حالة الإسلام الذي تفرّق فيه الفقهاء في فهم النّص القرآني عبر أربعة منابر كبرى 1: المعتزلة ، 2: الأشاعرة ، 3: المتصوّفة و 4: الماتريدية ، و تفرّق فيه الفقه في تدوين سنّة الرسول عبر أربع تيّارات أخرى موازيةٍ و الأولى : الإباضيّة / أهل السنّة و الجماعة ، 2: الشيعة /الجعفريّة ، 3: السنّة/ الشافعيّة/المالكيّة/الأحناف/الحنابلة و 4: الشيعة /الزيديّة ، و في حالتنا اللّيبيّة تتشعّب هذه المنابر داخل وعي المواطن الذي نشأ داخل منظومة تجهيلٍ ممنهجٍ ، أدّت به في نهاية المطاف الى تقديس الجهل ، أو كما يسمّيه أركون : [ ... الجهل المقدّس ] ، حيث المعرفة محصورةٌ في المعلوم من الأشياء و المتاح من المعلومات عبر تكريس [ دكتاتوريّة الأغلبيّة ] ، ليختلط الحابل بالنابل ، في علاقة الشراكة المستمرة بين الإنسان و الشريعة الدينيّة و التي أوقف استمرارها الفقه بإقفال الباب أمام العقل لجديد الإستدلال خارج المنابر المتشابكة أعلاه ، هذه الشراكة التي تنطلق نحو الإنسان مباشرةً ، في تحدّي مستمرٍ للمسير نحو الخوض في تجربة [ الإستدلال ] من الأصل [ القرآن ] أو [ الشريعة ] وصولاً الى الفرع [ الفقه ] أو [ الشرع ] ، عبر تتبّع البرهان و الدليل ، حيث العقل الخالص و الحياة بمعنى [ نقطة اليقظة ] ، تمنع التصادم الذي يعلنه الفقه بين [ الواجب الإجتماعي ] و [ الإرادة الحرة المنفردة ] ، حيث ينحاز الفقه دائماً ناحية السلطة بتقديم [ المبرّرات ] المعلّلة لقيود [ التسلّط ] لا غير ، تلك التي تبيح [ إرادة القوّة ] المتسلّطة للجماعة ، على [ قوّة الإرادة ] الفرديّة ، الفقه ليس سوى قانونٍ صاغه المجتمع في مرحلةٍ مرّ بها ، تلغى فاعليّته بمرور المرحلة التي واكبت صياغته ، و على جانبٍ آخر فإن غايات الإنسان من الدولة لا تصل الى مستوى إدخاله الجنّة أو إخراجه من النار ، بل أن دور الدولة [ تنظيميّ ] لا غير لأجل تنظيم العلاقات ، تشجيع الكسب ، حماية المواطن ، السعي للرفاهيّة و السعادة ، و خلاف هذه الأهداف لا توجد سوى دولة الإستبداد حيث يرسّخ النظام الحاكم لتكريس سطوة الخرافة و الأسطورة على المنطق العقلي تحت ستار الدين ، من أجل كبح جماح المواطن في المطالبة بتطبيق الدولة لدورها ، و تركه و شانه يسعى لتطبيق دوره داخل منظومة الأخلاق خارج وصاية أيٍّ كان ، ليكون الدين حرّاً ، و الإنسان تبعاً لذلك مواطناً لا غير لا تسيطر عليه أسطورة الشر و الخير الخاضعة للمبرّرات النفعيّة الغير أخلاقيّةٍ أصلاً .

 

الأخلاق مسؤوليّة الفرد ، و الدولة نظريّةٍ يتم تطبيقها فقط خارج الأخلاق ، فالتناقض الطبيعي بين الفرد في المجتمع من على جانبٍ و الفرد في الدولة على جانبٍ آخر أمر لا بد منه لأجل نمو الأخيرة ، حيث لا تعني علاقات الأفراد البينيّة شيئاً داخل منظومة الدولة ، و إلا ستصبح الدولة فاسدةً تعمل فقط لمصلحة الفرد لا لمصلحة الجماعة ، حيث فسادها لا شأن له و فساد الفرد ، بل العكس هو الصحيح حيث أن الفرد الصالح في المجتمع و المقبول داخل إطار مصالح جماعته هو الفاسد في تركيبة الدولة ، الدولة الشريرة انعكاسٌ لرغبات الفرد المبنيّة على مصالحه الخاصّة التي تعمل لأجل خدمة جزءٍ من المجتمع ينتمي له : العائلة/القبيلة/الطائفة ، فيكون الوضع الطبيعي أن تنطلق الثورة للقضاء على الدولة الفاسدة ، لكن هذه الثورة لا تقضى في غالب الأحيان على الإنسان الفاسد ، بل تقوم فقط بإبدال دولةٍ بدولةٍ أخرى ، هنا ينصرف الثوّار ناحية اتّجاهين ، الأول تكرار ما هو كائنٌ و قاموا بإزالته ، الإستبداد و التعسّف في اتّجاه الفوضى ، أو الإتّجاه الآخر بتكريس الوعي ، نشر المعرفة ، تحقيق إنسانيّة الإنسان ليمارس وجوده البشري كاملاً بعد أن يتحرّر من ظلم الدولة الفاسدة المنهارة ، و البين شاسعٌ بين الطريقين ، إذ ليس إعلان استمرار الثوّار في لعب دورٍ في الدولة الجديدة ، ليس سوى كرماً زائفاً ، و حرصاً مشوباً بالشكوك على سلامة ثورتهم ، حيث أن [ موضوع ] الثورة هو تحرير الفرد و إعادة بناء الدولة ، بينما [ الذات ] عند الثائر حاضرةٌ لا يمكن فصلها عن الموضوع ، فيسير هذا التدّاخل بالثورة نحو إعادة سيرة الدولة الفاشلة ، بصورةٍ أكثر سوأً ليصبح التغيّير كاذباً ما أن أعلنت الدولة أنّها ثوريّة لا ترضخ لقوانين التغيّير التي أعلنتها هي نفسها ، هنا يجب ان يترفّع الثوّار بمستواهم فوق مستوى الثورة نفسها لأجل تحقيق الحريّة الدائمة داخل بوثقة النقد ، و النظر الموضوعي لمسألة بناء الدولة حتّى لا تضيع الحقيقة داخل الإنكار ، و لا يخسر الثوّار دولتهم داخل الثورة نفسها ، تحرير الدولة هو تحريرٌ للناس لا تحرير الأشياء و الفرق شاسعٌ بينهما .

 

إن فصل الدين عن الدولة فكرةٌ خاطئةٌ ، لأن سمو الدين عن الدولة أمرٌ غير ممكنٍ مادامت الدولة مكوّنةٌ من أفراد يدينون بهذا الدين ، لكن فصل سلطة الدين عن سلطة الدولة هو الأمر الطبيعي و الممكن بل هو الأمر الضروري لأجل بقاء الدولة و سعي الفرد على بقائها أيضاً ، و في حالة ليبيا فإن غاية الإسلام الذي يدين به السواد الأعظم من اللّيبيّين بالدرجة الاولى هي الفصل بين سلطة [ الدين/الشريعة ] ، و  الأشخاص الذين يمثّلونها [ الكهنوت/المرجعيّات ] ، فليس الرجال علامةٌ على الحق ، بل الحق علامةٌ على الرجال كما يقول النّص نفسه : ] مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [ آل عمران 79 ، و كما يقول هيغل : [ ... إن أي دولةٍ تجهل حريّة الوجدان هي دولةٌ ناقصةٌ ] ، لكن هذا لا يفتح الباب أمام الدولة لتغليب مذهبٍ رافقته الظروف فقط لا غير ليفرض سطوته و أكثريّته بحكم هذه الظروف المتغيّرة أحايين كثيرةٍ حيث تفرض الدولة بناء على تحيّزها هذا قيوداً على الذات و الفرد الذي هو مكوّنها الأساسي ، يقول إفلاطون : [ ... الدولة التي تجهل الذات ناقصة ] ، فبقاء الدّولة مبنيٌّ على بقاء التعدّد و التنوّع فيها عبر كل الأصعدة ، نموّها منوطٌ بمساحات الآخر المتاحة داخلها ، الفرد هو [ أساس ] وجود المجتمع ، و المجتمع هو [ حجّة ]  وجود الدولة ، و في دائرةٍ مغلقة الدولة هي [ دليل ] وجود الفرد أيضاً ، أما الدائرة المفتوحة التي لا تنتهي أبداً يكون فيها [ الدين ] ، [ الدولة ] و [ الثورة ] عناصر متضادّة لا تلتقي إلا لاجل إلغاء بعضها البعض ، أعلان النيّة في بناء الدولة الثورية أو الدولة الدينية في واقع الأمر إعلانٌ عن إنتحارٍ الدولة في الأساس ، فالدولة لا علاقة لها بمصالح الأفراد ، و لا علاقة لها بطريقة عبادتهم لله ، و لا شأن لها و المجتمع المدني  الذي يمارس دور الرقيب عليها ، الظابط لسلوكيّاتها الموجّه للأفراد ناحية نقاط انحرافها عن دورها ، بل هي فقط تحتضن هؤلاء جميعاً لتحقيق السعادة ، الرخاء و الأمن بطريقةٍ عادلةٍ بين جميع الأفراد الذين يصبحون تبعاً لهذه الرعاية [ مواطنين ] على درجةٍ واحدةٍ من المساواة ، كل هذا داخل وحدة القانون الذي يسيّر الدولة متّصلا بواقعها و مكوّناتها من الداخل ، خارج التاريخ الذي يقيّد الدولة كما يقيّدها الدّين/المذهب ، و تقيّدها أيضاً الثورة التي لا بد أن تختفي شعاراتها ما أن يبدأ الأفراد الفعّالون في رحلة بناء الدولة الفعّالة التي لها السيادة و الإرادة المستقلّتين عن أرادة الأفراد الذين تكلّفهم الدولة بناءً على [ الكفائة ] لا بناء على [ الولاء ] للدّين/المذهب أو الثوّار/المنتصرون فليس هؤلاء مهيّئين لتأدية وظائف الدولة فقط لأنهم ينتمون لأصحاب [ الشوكة ] ، بل لأنهم الأقدر على تأدية هذه الوظائف ، إذ يجب أن يختفي النفوذ داخل سطوة الدولة ، و تتوزّع الأدوار من أجل بنائها مستقلّة عن سطوة الفقه أو الثوّار الذين يجب أن يعودوا الى مكانهم الطبيعي كأفراد يشكّلون عنصراً لا بد منه من عناصر تكوين الدّولة ، لا دولةً دينيّةً و أخرى ثوريّةً تحت غطاء دولة [ التكنوقراط/تسيير الأعمال ] التي تشكّل فقط الواجهة الإعلامية حسنة المنظر ، لما ورائها من استبدادٍ و قهرٍ يكرّر القصّة و يعيد سردها مرّة أخرى من البداية ربّما ليعيد الثوّار و الفقهاء كتابة التاريخ مكرّرين إيّاه فقط بألوان أخرى زاهية .

اجمالي القراءات 9082