الجنرالات في المتاهة

كمال غبريال في السبت ١٧ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

رغم التناص في العنوان إلا أن محتوى المقال لا علاقة له برائعة جابرييل جارسيا ماركيز "الجنرال في المتاهة"، التي تحكي قصة الأيام الأخيرة لديكتاتور أمريكا اللاتينية "سايمون بوليفار"، فقط وجدنا العنوان هو الأفضل تعبيراً عن الوضع الذي وجد السادة أعضاء المجلس العسكري للقوات المسلحة المصرية فجأة ودون مقدمات أنفسهم ينزلقون إليه، بعد أن قام الشباب المصري ليخلع حسني مبارك وصحبه، فكان أن وجد جنرالاتنا أنفسهم منخرطين أو غارقين للمرة الأولى في بحر السياسة المصرية، ليس في ظرف يمسكون هم بمقاليده كما حدث في 23 يوليو 1952، ولكن ليبدأوا من موقع "رد الفعل"، عسى أن يتمكنوا من السيطرة على "الفعل"، الذي بدا مذهلاً من شباب تصور الجميع أنهم "عيال" "كول" و"روشين" و"سيس"، فإذا بهم ينهضون ومعهم شعب سكن لدهور طويلة سكون الأموات.
مفتاح كل تحركات وقرارات المجلس العسكري منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن هو توصيفها بأنها مجرد "رد فعل"، سواء اتسم "رد الفعل" هذا بالإيجابية تجاه "الفعل" الثوري، أو جاء سلبياً معاكساً أو معانداً كما يحلو للبعض وصفه، وحتى في المنحيات التي يطرأ للجنرالات فيها أن يبادروا "بالفعل"، نجد أن الحكمة أو ربما الحذر الموروث من تكتيكات جس نبض تفتقد لجرأة وإرادة الهجوم، بما يلزمها من ثقة في الذات وفي جدارة المتوفر من عناصر القوة، هذه الحكمة جعلتهم إذ يشرعون في "الفعل"، يحولونه إلى "رد فعل"، عن طريق إطلاق بالونات اختبار، يتلمسون بها حجم وطبيعة ردود الأفعال على ما ينتوونه، ليأتي تحركهم بعد ذلك "كرد فعل" على النتائج التي ترتبت على ما أطلقوه من بالونات اختبار.
هو إذن تكتيك دفاعي محض، لا يبادر بغير هجوم محدود عبر طلائع تسارع بالعودة إلى قواعدها، وهو ما يحقق لمستخدمه مزايا إيجابية، بقدر ما يترتب عليه أيضاً من عيوب أو سلبيات. . فالدفاع المكتفي بأقل حد أدني ممكن من "رد الفعل" يوفر الجهد، مادمنا لا نبذل أكثر مما تفرضه علينا الظروف، كما يقلل من احتمالات الانكسار الذي قد يواجه حملة هجومية لتحقيق هدف ما، أو يلقاه القيام "برد فعل" رادع يأخذ طابع "الفعل"، مع ما يمكن أن يتبع هذا الانكسار من سقوط الهيبة التي هي أكثر ما يحرص عليه جنرالاتنا. . أما عن العيوب أو السلبيات التي تترتب على تبني هذه التكتيك فهي عديدة، أولها تحجيم قدرة مستخدمه على التأثير، مقارنة بما يمتلكه فعلاً من مقومات القوة والقدرة على "الفعل"، وفي حالتنا هذه يشكل هذا في بعض الأحيان خسارة للجنرالات ومجلسهم العسكري، وفي أحيان أخرى يشكل خسارة للوطن مالك هذه القوة التي تحت أيدي الجنرالات، ما لابد وأن يترتب عليه استشعار الناس لخذلان قد يصل إلى حد فقدان الثقة، وربما أيضاً فقدان هيبة الجنرالات أحرص ما يكونون عليها.
أعتقد أن هذا الفهم (إن صح) لطبيعة أداء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والملتزم بالحد الأدني الممكن من "رد الفعل" إزاء ما تموج به الساحة المصرية، يزيل الكثير من اللبس والحيرة حول الدور الذي يلعبه الجنرالات الآن:
منذ الأيام الأولى للثورة تجنب الجنرالات "الفعل" تأييداً ومناصرة لحسني مبارك ونظامه، كما تجنبوا "الفعل" بالانتصار للثورة بمنع أحداث ما يعرف بموقعة الجمل مثلاً، وتركوا الأمور تسري مسراها الطبيعي، ليجدهم مبارك وقد قرر الرحيل مستعدين لاستلام السلطة والمسئولية منه، ويجدهم الثوار أيضاً مستعدين لحماية كيان الدولة المصرية من الانهيار، ثم بعد ذلك لا يتقدمون خطوة واحدة باتجاه استكمال هدف الثورة في إسقاط النظام ومحاكمة رموزه، إلا بالقدر الشحيح الذي تجبرهم عليه تظاهرات مليونية، ليستمر هذا الحال طوال العشرة شهور الماضية، ونلحظ الآن تضاؤل استكمال أهداف الثورة، مع تضاؤل قدرة الثوار على الحشد إلى ما قرب الدرجة صفر. . ليس في الأمر إذن انحيازاً للثورة كما يقال، كما لم تبد دلائل حاسمة حتى الآن تؤكد أنه ضدها، إذ يحتمل ما يتردد حول هذا الشأن تأويلات أخرى، تنزع عن تلك الدلائل صفة اليقينية، وإن كان المنطق الثوري يقول أن "من ليس معنا فهو علينا"!!
من يعتقدون أن المجلس بجنوحه بداية ناحية التيار الإسلامي، والذي تمثل جلياً في تشكيل لجنة التعديلات الدستورية، قد أخذ بهذا منحى مبادراً (بفعل) نتيجة ميوله الأيديولوجية للتيار الإسلامي، هؤلاء قد أخطأوا توصيف الحالة، فليس من المتصور أن يكون نظام مبارك من الغفلة بحيث يسمح لمنتمين لهذا التيار بالوصول إلى قمة السلطة العسكرية، والأكثر منطقية أن توجه المجلس جاء من منطلق "رد الفعل" لما تبدى منذ يوم 28 يناير من قدرة الإخوان على الحشد ومركزية فعالياتهم في الثورة، إضافة بالطبع للمستقر في الأذهان من قدرتهم التنظيمية والمالية والشعبية، ليكون استرضاؤهم هو "رد الفعل" ذي الحد الأدنى من الجهد على فعاليات الثورة، حتى ولو كان هذا (كما هو فعلاً) على غير هوى أو توجهات أو مصالح الجنرالات. . ينطبق هذا أيضاً على ما قام به المجلس في معرض استرضاء من نفضل تسميتهم بالظلاميين، من إطلاق سراح المعتقلين من الجماعات الجهادية، والسماح للهاربين من أحكام منهم بالعودة للبلاد، ثم تخطي القانون والدستور والسماح لهم بتكوين أحزاب نعرف جميعاً (باستثناء لجنة الأحزاب) أنها أحزاب دينية!!
أيضاً الأحداث الطائفية التي أبدى الظلاميون فيها عنفاً واستعلاء غير مسبوق، التزم فيها الجنرالات بموقف الحد الأدنى من "رد الفعل"، باستقدام رموز المحرضين على تلك الأحداث ذاتهم، لفرض تهدئة مخزية للجنرالات قبل أن تكون مجحفة بالضحايا الأقباط، ونفس هذا يقال عن تحدي الظلاميين للدولة وللمجلس العسكري في أحداث الاعتراض على تعيين محافظ قبطي بمحافظة قنا. . هنا اختار المجلس التزام ذات تكتيكه الذي حقق له تجاوز الأزمات، رغم خسارته لبعض قليل أو كثير من هيبة الدولة ومجلسها العسكري، علاوة بالطبع على النتائج الوبيلة التي تلحق بمستقبل الوطن على المدى المتوسط والطويل، نتيجة تراجع الدولة وسيادة القانون، لصالح تمكن أو توحش الظلاميين!!
مجزرة الشباب القبطي فيما عرف بأحداث ماسبيرو لم تحدث أيضاً نتيجة لنزعة طائفية معادية للأقباط لدى الجنرالات كما تصور البعض الأمر، لكنه ذات تكتيك بالونات الاختبار، لتحويل "الفعل" المضمر وهو السيطرة على حركات التظاهر وقمعها، إلى "رد فعل" للنتائج التي سيتم قياسها والمترتبة على القيام بقمع تظاهرات الأقباط، وكان التوقع بالطبع نتيجة لحمى الطائفية بالمجتمع أن تأتي ردود الفعل الشعبية على المجزرة في حدها الأدنى، خاصة مع المهمة الجليلة التي قامت بها وسائل الإعلام الرسمية، من استنهاض المسلمين للزود عن الجيش المصري من هجوم الأقباط عليه، ورغم ارتفاع أصوات الإدانة للمجزرة محلياً وعالمياً، إلا أن التجربة بدت للجنرالات مشجعة على الإقدام على الخطوة التالية، وهي فض اعتصام أهالي شهداء ومصابي الثورة يوم 19 نوفمبر بميدان التحرير.
ورغم أن الرياح قد أتت بعد ذلك بما لا تشتهي سفن الجنرالات، متمثلة في أحداث شارع محمد محمود، إلا أنه وعلى وجه العموم يمكن اعتبار أن التكتيك قد أثبت نجاحه وفعاليته، وقد استطاع الجنرالات بالصبر الجميل وبالضرب المحدود والمحسوب إحباط ما اعتبره كثيرون "الثورة الثانية".
ما ننتظره معشر دعاة الدولة المدنية من الجنرالات أن يفوا بوعودهم بتسليم السلطة لدولة مدنية، وليس لدعاة التخلف والدولة الدينية، ربما يحتاج إلى تبنيهم لتكتيك المبادرة "بالفعل"، خاصة مع تفاقم استعلاء وغطرسة جهالة القيادات الظلامية، بل وتهديداتهم بالتحول للاستجرام وللشهادة كما يقولون، وذلك بالقيام بتطبيق الدستور والقانون، وتحريم الأحزاب الدينية، ووضع من يتجاوز خلف قضبان العدالة، لكن هيهات، إذ يبدو أنهم ملتزمون بالتكتيك الدفاعي حتى النهاية، وأقصى ما نتوقع منهم في هذا الشأن هو إطلاق بالونات الاختبار، مثل وثيقة المبادئ الدستورية، ولائحة أو قانون تشكيل لجنة صياغة الدستور، فهم حتى في سعيهم لتأمين أنفسهم تحت مسمى خصوصية شئوون القوات المسلحة لم يتجاوزوا حدود ذلك التكتيك الذي يعتمد على جس النبض والكر والفر!!
لدينا في النهاية تساؤل ذو شقين، الأول هو إلى أين يمكن أن يقودنا الإصرار على هذا التكتيك، وهل سيصل بنا بهدوء وبأقل تكلفة إلى بر الأمان، أم سنفقد طريقنا في المتاهة. . الشق الثاني للتساؤل هو افتراض أن الظلاميين قد امتطوا بالفعل أعلى الخيول التي يركبونها الآن في خطابهم، فهل عندها سيظل الجنرالات على تكتيكهم الدفاعي والبقاء في حدود "رد الفعل" بحده الأدنى، أم سيهبون للمبادرة "بفعل" حاسم وهجومي لإنقاذ البلاد ليس من المتاهة، ولكن من أن تنتهي بنا المتاهة إلى الدخول في نفق الدولة الدينية المسدود؟!!
اجمالي القراءات 7442