كتب وكتاب)فى القرآن الكريم(6/5) كتب أعمال الأنبياء بين الحياة والموت

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٠٥ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 تمهيد (1 ) تاريخ البشر بين الكتاب الالهى وتأريخ المؤرخين

هذا موضوع طويل وعميق تعرضنا له ضمن كتابنا ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى ) الذى كان مقررا على قسم التاريخ فى جامعة الأزهر عام 1984 ، وفى غيره . ونشير اليه بإيجاز سريع فيما يخصّ موضوعنا هنا. الله جل وعلا سجّل ويسجّل تاريخ البشر أفرادا وجماعات ومجتمعات وأمما فى : كتاب الأعمال الفردى والجماعى الذى لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلاأحصاها . وسنرى هذا يوم القيامة . ثم هناك تسجيل لبعض تاريخ البشر فى الكتب السماوية ، وأهمها القرآن الكريم المحفوظ من لدن الله جل وعلا . كتاب الأعمال سجّل ويسجّل وسيسجل كل أعمال البشر الى قيام الساعة ،أما القرآن الكريم فقد(سجّل ) بعض هذا التاريخ فى : الماضى والحاضر والمستقبل . فى التاريخ الماضى ، نقرأ قصص بعض الأنبياء والأمم السابقة ، فى التاريخ المعاصر كان الوحى ينزل يعلّق على أحداث ويسجل أحداثا فى وقت نزول الوحى . ثم تميز القرآن الكريم بالاشارة الى أحداث تاريخية مستقبلية لا يتسنى للمؤرخين علمها لأنها غيب الهى ،مثل ما جاء فى مفتتح سورة الروم،بالاضافة الى حديث القرآن الكريم عن علامات الساعة ، ووضعه قواعد لحركة الانسان على الأرض تتجدد فى تاريخه .

 تمهيد (2)  كتاب أعمال الأنبياء والتفاضل بين الأنبياء

فى إحدى تفصيلات هذا الموضوع نجد التأريخ الالهى لبعض الأنبياء بين حاضرهم وهم أحياء فى الدنيا حيث يتم تسجيل أعمالهم وبين مستقبلهم فى الآخرة بعد انتهاء هذا التسجيل وتحديد درجة كل واحد منهم بين بقية الأنبياء فيما يعرف بالتفضيل بين الأنبياء،وهى قضية لا يجوز لبشر التحدث فيها،لأن هذا التفضيل هو لله جل وعلا وحده لأنه الأعلى فوق الجميع ، ولأنه الأعلم بمحتوى كتاب أعمال كل فرد وكل نبى . بينما لا نعرف نحن حتى عدد الأنبياء ولا نعرف شيئا عن حقيقة أعمالهم ، فكل ذلك غيب . والرأى الالهى يمكن معرفته من القرآن الكريم فيما أورده عن الأنبياء (الموتى) قبل نزول القرآن الذين انتهى وتم تسجيل كتب أعمالهم وتحديد درجة كل منهم . ولكن لا يمكن تحديد درجة النبى محمد خاتم النبيين لأنه كان لا يزال حيا يسعى وكتاب أعماله كان لا يزال مفتوحا ، ثم إكتمل القرآن نزولا ومات النبى محمد عليه السلام وتم قفل كتاب أعماله دون ان نعرف الى أى حدّ كانت مكانته بين الأنبياء السابقين ، هل تفوق عليهم جميعا فى طاعته،أو تفوق على بعضهم ام تفوق عليه كثيرون ؟ ومن هم؟ كل ذلك علمه عند الله جل وعلا ، وسنعرفه يوم القيامة .ولو كان هناك كتاب الاهى بعد القرآن الكريم وجاء نبى بعد محمد لأخبرنا بدرجة محمد كما أخبر القرآن عن أنبياء قبل محمد. ولكن لأنه عليه السلام خاتم النبيين ولأنه لا وحى فى الاسلام بعد القرآن ولأن القرآن هو الرسالة النهائية من رب العزة فلا نعرف درجته عليه السلام بين الأنبياء . ولا نريد الخوض فى تفصيلات التفاضل بين الأنبياء ، ولكن نقتصر على ما يخصّ قفل كتابة عمل الأنبياء عند الموت وتحدد درجة النيى بعدها .

 أولا : خصوصية الأنبياء لا تتعارض مع مساواتهم بالبشر فى كتابة العمل والمسئولية والحساب

1 ـ كتابة العمل تسرى على كل أفراد البشر من أنبياء وغيرهم لأن هذا الكتاب أساس الحساب يوم القيامة ، والحساب للجميع من أنبياء وغيرهم، بل إن مسئولية الأنبياء يوم الحساب أكبر ، لذا يجعل الله جل وعلا حسابهم فى كفة وحساب بقية البشر فى كفة أخرى مع الفارق العددى الهائل بين الأنبياء وأفراد البشر، يقول جل وعلا : (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (الأعراف 6:7 ) ،ونفس الحال مع خاتم النبيين يجعل ربه جل وعلا حساب محمد فى كفة وحساب قومه فى كفة أخرى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ )(  الزخرف 44 ) ويساوى بينه وبينه فى التخاصم أمام الله جل وعلا يوم الحساب (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ )(  الزمر 30 : 31). وهى قاعدة أساس فى المساواة بين كل البشر فى أن كل نفس ـ بما فيهم الأنبياء ستأتى يوم الحساب تدافع عن نفسها ، وسيتم توفية كل نفس جزاءها وفق المكتوب فى كتاب أعمالها :( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ )(النحل  111 ). لذا فإن الله جل وعلا يجعل الأنبياء مشمولين فى حديثه عن كتاب الأعمال،كقوله تعالى:(وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) (الاسراء 13 : 14)، ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ ) ( آل عمران 30 ). والأنبياء بعملهم وإيمانهم وجهادهم يجعلون كتاب أعمالهم ناصعا مضيئا ، وكذلك من يختار من بقية البشر أن يكون مؤمنا محسنا تقيا ، فيكون فى معية الأنبياء . وهذا متاح أمامنا جميعا فى كل زمان ومكان ، بل كان متاحا للمنافقين فى عهد النبوة لو أطاعوا وتابوا وأنابوا ، يقول جل وعلا عنهم : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ َالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا) ( النساء 66 : 69 )، أى هو حكم عام يسرى فى كل زمان ومكان:أن من يطع الله ورسوله فسيكون فى معية النبيين يوم القيامة. و(الرسول )هنا بمعنى الرسالة أى القرآن الكريم ، وليس شخص محمد عليه السلام. والتفاصيل فى كتابنا ( القرآن وكفى ).

ثانيا : النبى فى حياته يتمنى أن يكون من الصالحين فى الآخرة ، وكذلك المؤمن الحق

 1 ـ  إن الله جل وعلا يحذّر المؤمنين مقدما ـ وهم على الأرض أحياء يسعون ـ من الانهماك فى غرور الدنيا فيغفلون عن ملء كتاب أعمالهم بالصالحات قبل ورود الموت عليهم:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) ( المنافقون 9 )ثم يأمرهم بالانفاق فى سبيل الله قبل الموت:(وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )(المنافقون10 :11)،  الشاهد هنا إن من تلهه الدنيا يتحسّر لحظة الموت وعند قفل كتاب أعماله ويتمنى فرصة أخرى ليملأ كتاب أعماله بالصلاح كى يصلح لدخول الجنة . هذا عن المؤمن الغافل اللاهى ، أما المؤمن الذى يتقى ربه فإنه  يعمل الصالحات ويرجو أن يكون من الصالحين بعون الله جل وعلا ، وهذا ما جاء فى الاتفاق بين موسى والرجل الصالح:(قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ )(القصص 27 ). أما أصحاب الدين الأرضى فلهم شأن آخر،أضل سبيلا . إعتادوا توزيع صفة الصلاح بكل كرم على شيوخهم وأئمتهم ، طبقا لطبيعة الدين الأرضى فى التدين السطحى والاحتراف الدينى ، وحيث يمكن قياس الصلاح بطول اللحية والسبحة وحجم العمامة وعدد الأتباع والأنصار والمريدين من العوام والرعاع وتأييد السلطة المستبدة . فالدين الأرضى يملكه أصحابه،وبه يمتلكون الجنة ويتحكمون فيها ، ويصدرون فرمان الصلاح لهذا وذاك فى دخولها، وبالتالى فلا حاجة لكتابة الأعمال ولاحاجة لملائكة كتابة العمل . ونذرهم فى غيّهم يعمهون ونتجه الى الأنبياء والمؤمنين وما جاء فى حقهم فى القرآن الكريم .

2 ـ النبى فى حياته يدعو ربه جل وعلا أن يكون من الصالحين يوم القيامة،أى من أصحاب الجنة ، هكذا فعل يوسف عليه السلام حين وصل الى أوج سلطانه وتحققت كل آماله ، فدعا ربه جل وعلا:(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) (يوسف 101).وتأمّل روعة الأدب فى عبارة :(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ )، لم يقل يوسف عليه السلام (إجعلنى من الصالحين ) وقبلها قال لملك مصر (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)( يوسف  55 )، أى طلب من الملك المصرى أن يجعله على خزائن مصر وقدم مسوغات تعيينه وهى إنه صالح لهذا العمل وإنه حفيظ عليم . أما حين دعا ربه جل وعلا فإنه لم يقم بتزكية نفسه بالصلاح بل على العكس قدّم الشكر لله جل وعلا الذى آتاه الملك وعلّمه تأويل الأحاديث ( المنامات ) ، وقدّم خضوعه لربه جل وعلا فهو جل وعلا وليّه فى الدنيا والآخرة ، وبعدها دعا أن يموت مسلما ـ أى أن يتم ختم كتب أعماله بالاسلام السلوكى والاسلام القلبى ، وأن يلحقه ربه جل وعلا بالصالحين ، أى أن يلتحق بركب الصالحين الذين ماتوا من قبل وتم غلق وقفل وختم وتوفية كتاب أعمالهم بالاسلام وبصلاحيتهم للجنة . وأولئك الصالحون ـ الذين تمنى يوسف عليه السلام أن يلتحق بهم ـ  ليسوا فقط أنبياء بل أغلبهم من بقية البشر ممّن آمن وعمل صالحا فى حياته الدنيا ،وملأ كتاب أعماله بنور الايمان والصالحات.

 3 ـ ونفس الحال مع النبى سليمان عليه السلام ، وقد أوتى آيات عظيمة ، ومع ذلك دعا ربه جل وعلا أن يدخله فى عباده الصالحين يوم القيامة ، يقول جل وعلا عن سليمان حين سمع وفهم ما قالته النملة : (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ) ( النمل 19 ) ، أى شكر ربه ودعا أن يهديه ربه الى عمل الصالحات فى الدنيا ، ثم أن يكون صالحا لدخول الجنة فى الآخرة.

4 ـ وهناك معياران للصلاح ، ففى الدنيا فالصلاح يعنى عمل الصالحات من العبادات والأعمال النافعات للمجتمع الصادرة عن قلب تقى ، لذا يأتى عمل الصالحات مقترنا بالايمان : يقول جل وعلا ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أى فى الدنيا ( لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أى فى الآخرة ، وفى الآخرة يكتسب الصلاح معنى آخر هو (الصلاح ) لدخول الجنة واللحاق بركب الصالحين فيها :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ) (العنكبوت 7 ، 9 ).وهذا الصلاح لدخول الجنة هو آلية يتحول بها كتاب العمل للمؤمن الذى آمن وعمل صالحا فى الدنيا الى شفيع لصاحبه يوم لقاء الله جل وعلا ، وبه يتم غفران ذنبه فلا يبقى فى كتاب أعماله سوى الصالحات ، وبالغفران أو التغطية على السيئات وبتكفير الذنوب أو تغطيتها أو غفرانها يكون بعمله الصالح المتبقى فى كتاب أعماله صالحا لدخول الجنة .  

ثالثا : كتاب النبى مفتوح فى حياته وبقفل بموته وتتحدد درجته

1 ـ ابراهيم عليه السلام فى الدنيا كان يدعو الله جل وعلا أن يكون من الصالحين :(رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)(الشعراء 83 ). وكان يقرن دعاءه بعمله الصالح ، فمثلا حين كان يرفع القواعد من البيت كان يدعو ربه :(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ). الله جل وعلا أخبر فى القرآن الكريم عن هذا الذى حدث فى حياة ابراهيم وهو يدعو وهو يرفع القواعد من البيت . أى جاء هذا الخبر بعد موت ابراهيم بقرون طويلة . والمعنى إن ابراهيم حين كان يدعو هذا الدعاء كان كتاب أعماله مفتوحا ، ثم تم غلقه بموته . وبالتالى بغلق كتاب عمل ابراهيم تحددت درجته النهائية ، فإخبر رب العزة فى القرآن الكريم إنه استجاب لابراهيم حين دعا (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) ، فجعله بعد موته من الصالحين ، وهذا ما جاء فى سياق الآيات السابقة : (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ( البقرة 127 : 130 ). أى إصطفاه الله جل وعلا نبيا فى الدنيا ، وأدخله فى إختبارات وابتلاءات فوفّى بها كلها : (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)(النجم  37)، وأتمها جميعا (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) وفى نهاية حياته جاءته المكافأة من ربه:(قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(البقرة 124 )،أى بلغت نصاعة كتاب أعمال ابراهيم فى نهاية عمره بعد أن وفّىّ وأتم ، ومات وتم قفل كتاب أعماله ، وأخبرنا رب العزة إنه فى الآخرة من الصالحين ( وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ( العنكبوت 27 ).

2ـ وتكرر نفس الحال مع بقية الأنبياء ،إذ تتحدد درجة أحدهم بقفل كتاب أعماله بالموت ، ثم يأتى الخبر لنا  من رب العزة فى القرآن الكريم عن منزلته بعد قفل كتاب أعماله وموته، يقول تعالى عن النبى لوط  فى الدنيا:(وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ) ثم قال عن منزلته فى الآخرة بعد قفل كتاب أعماله : (وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ). ونفس الحال عن بقية الأنبياء ومنزلتهم فى الآخرة :(وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ ) (الأنبياء 74 : 75 ، 85 : 86 )،أى صبروا فى الدنيا وتزين كتاب أعمالهم بالصبر وبقفله تحددت درجتهم بالصلاح فى الآخرة .  ونحو ذلك ما قاله رب العزة عن أنبياء سابقين ذكرهم فى سورة مريم ثم جاء التعقيب يشير الى درجتهم بعد موتهم وقفل كتاب أعمالهم : (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا) (مريم 58  ). وفى التعقيب على قصة ابراهيم فى سورة الأنعام قال جل وعلا : (  وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ )(الأنعام 84 : 90 )

رابعا : إختلف الحال مع خاتم النبيين لأنه فى حياته وقت نزول الوحى كان حيا يسعى وكان محتاجا للتعلم من القرآن

1 ـ عند نزول الوحى كان كتاب أعماله لا يزال مفتوحا لم يقفل بعد،ولم تكن درجته بين الأنبياء قد تحددت، ثم قبيل موته إكتمل القرآن ، ثم مات وتم قفل كتاب أعماله ، دون أن نعرف درجته بين الأنبياء .  وأثناء نزول القرآن كان يتعلم من قصص الأنبياء السابقين . 

2 : من أهداف القصص القرآنى تثبيت فؤاد خاتم النبيين ووعظه فى دنياه ، وهو نفس الهدف لكل من يسير على السّنة الحقيقية لخاتم النبيين فى الدعوة والجهاد. بعد أن قصّ رب العزّة تاريخ بعض الأنبياء فى سورة هود قال فى ختام السورة :(وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) ( هود 120 ).

3 ـ وفى قصص الأنبياء كان بعض الأنبياء قد بلغ الدرجات العلا مثل ابراهيم عليه السلام ، لذا امر الله جل وعلا خاتم النبيين فى حياته ان يأخذ ابراهيم قدوة وأسوة حسنة : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) ( الممتحنة 4 : 6 ).

وبعد أن مدح الله جل وعلا ابراهيم أمر خاتم النبيين ـ  وهو حىّ يسعى ـ أن يتبع ملة ابراهيم : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ( النحل 105  ). وبعد أن قصّ جل وعلا جانبا من قصة ابراهيم ذكر ذريته من الأنبياء أمر خاتم النبيين أن يقتدى بهداهم فى حياته:(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)( الانعام 90  ).

4 ـ وبعض الأنبياء وقع فى خطأ وكرره رب العزة فى القرآن مثل يونس عليه السلام الذى لم يستطع الصبر على عناد قومه فهرب منهم الى سفينة فألقوا به فى البحر فالتقمه الحوت،واستغفر ربه فأنجاه وعاد لقومه مصمما على الصبر فآمنوا،واجتباه ربه جل وعلا بعدها .يقول جل وعلا:(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ  أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) (الصافات 139 : 148 )  (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) ( القلم 87 : 88 ). وأمر الله جل وعلا خاتم النبيين فى حياته أن يتعظ بما حدث ليونس ، وأن يصبر ولا يرتكب نفس الخطأ الذى وقع فيه يونس من قبل : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ  ) ( القلم 48 : 50 )

خامسا :عامل الزمن فى كتابة العمل فى حياة النبى محمد عليه السلام

1 ـ من التاريخ المعاصر فى القرآن الكريم ما نزل يخبر عن أحداث وقعت وقت نزول الوحى أو يعقّب ويعلّق عليها ، وكان التعبير يأتى بالفعل المضارع كقوله جل وعلا : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ )(الأحزاب 37 )،( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)(التحريم 1 )،(عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) ( التوبة 43 ). فالتعقيب هنا سريع ومعاصر للحدث حتى يستفيد منه النبى فى تصحيح الخطأ بما ينعكس فى كتابة عمله .

2 ـ وأحيانا كان النبى لا يستجيب للتوجيهات فتتكرر . كان يتحرج من أصحابه الفقراء المسلمين حرصا منه على التودد للملأ القرشى المتكبر حتى لا يقولون له ما قاله من قبل قوم نوح : (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا  ) ورد عليهم نوح رافضا طردهم :(وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) ( هود 27 ـ )، (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ )( الشعراء 111 ـ ). على العكس كان خاتم النبيين . أعرض عن رجل أعمى جاءه يطلب الهدى أثناء إجتماعه مع الملأ ، فنزل قوله جل وعلا يعاتبه ويذكّره حتى لا يكرر الخطأ :(عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ )( عبس 1 ـ  ). ولكنه لم يتذكر . ظل بعدها وهو فى مكة يحاول التقرب للملأ معرضا عن المؤمنين الفقراء ، فنزل قوله جل وعلا يأمره أن يجاهد نفسه على الصبر فى الجلوس مع فقراء المؤمنين ، وأن يبتعد عن الملأ الذين لا أمل فيهم :(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) ( الكهف 28 ).ولم يطع هذا الأمر ،بل كان يطرد المؤمنين الفقراء فجاءه التحذير الالهى : (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) ( الأنعام 52 ). وفى المقابل كان يحضر جلسات الملأ الكافرين وهم يخوضون فى القرآن ، فنهاه ربه جل وعلا مرتين عن حضور هذه الجلسات:(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) ( الزخرف 83) ، (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ )( المعارج 42 ). ولم يطع النبى فنزل التحذير :(وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(الأنعام 68 ). ونتدبر قوله جل وعلا للنبى : (وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )كان ذلك فى مكة. وقد إمتثل النبى أخيرا فامتنع عن حضور هذه المجالس بعد الهجرة الى المدينة ، وقد كان   يعقدها المنافقون فى الخوض فى القرآن الكريم ، بينما كان يحضرها بعض المؤمنين فنزل التحذير الالهى يذكّرهم بما سبق من نهى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ( النساء 140 ).

3 ـ عنصر الزمن هنا واضح ، ليس فقط فى رصد تاريخ معاصر للنبى ،وليس فقط فى التاكيد على عدم عصمته ولكن أيضا فى أن كتاب أعماله كان مفتوحا يستقبل هذا وذاك ، ويسجله كما كان القرآن ينزل ببعض تلك الأحداث يرصدها ويعلق عليها بالتوجيهات والتربية . ويتضح عنصر الزمن أكثر عندما يقترب كتاب الأعمال من التمام والكمال ، أى باقتراب صاحبه من الشيخوخة والموت . هنا يكون المؤمن قد قارب من تحديد درجته ، بتوبته وبتعوده على التقوى وعمل الصالحات بحيث يصحو ضميره ويصير قلبه نورانيا مضيئا ، يقول جل وعلا يدعو المؤمنين للتمسك بالتقوى ليصل المؤمن الى ضمير يقظ حىّ يفرّق له بين الغىّ والحق فيحوز على الغفران يوم القيامة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) (الأنفال 29 ).فى المقابل فإن من تعود العصيان وأدمنه فإنّه بمرور الزمن يصدأ قلبه بتعود المعصية فتستحيل توبته فى نهاية العمر، يقول جل وعلا عن كتاب الأعمال للمجرمين : (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ)،ويصف رب العزة حالهم فى الدنيا فيقول:(كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ )(المطففين  7 : 9 ، 14)،أى إن إدمانهم للذنوب جعلت قلوبهم مظلمة صدئة. ويقارن رب العزة بين الفريقين : فريق أضاء الايمان قلبه وفريق فى ظلمات الضلال والظلم:(أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) ( الأنعام 122 ). بتطبيق هذا على حال النبى محمد وكتاب أعماله مفتوح يستقبل أعماله،ويتلقى التوجيهات من ربه، يخطىء أحيانا ولكنه يستغفر ويتوب محافظا على التقوى ، نجد أن شدة التأنيب تخف حدتها بمرور الزمن بحيث تأتيه  البشرى من ربه فى نهاية عمره بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر :( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)(الفتح1  :  2 ). ومعروف ان الغفران هو يوم الحساب وليس فى الدنيا ، أى ليغفر لك الله يوم الحساب ما تقدم من ذنبك وما تأخر . جاء هذا فى نهاية رحلته وقبيل موته . وتأكّد هذا بتبشيره بالجنة هو والمؤمنين معه بعد حياة حافلة بالجهاد بالنفس والمال وفعل الخيرات:(لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة 88 : 89 ). أى أخيرا تحقق لهم الفوز العظيم . الكلام هنا ليس عن فلان وفلان من الشخصيات التاريخية من الصحابة ، ولكنها صفات تنطبق على أشخاص لا يعلمهم إلاّ الله جل وعلا . وليس لنا أن نتكلم فى هذا ،وإلاّ صرنا من أصحاب الديانات الأرضية الذين يجعلون التاريخ البشرى والشخصيات التاريخية جزءا اساسا من دينهم القائم على عبادة الأبطال .

 سادسا : النبى فى حياته وبعد موته وقفل كتاب أعماله ليس مسئولا عما يفعله غيره

1 ـ  مثل كل الأنبياء لم يكن خاتم النبيين فى حياته مسئولا عن عناد قومه ورفضهم الحق ،بل أكّد لهم حقهم فى الاختيار بمثل حقه هو فى التبليغ . قال هذا من قبل النبى شعيب لقومه فى سورة هود: (وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) (هود 93 )، وفى نهاية السورة وبعد أن أوضح الله جل وعلا الهدف من القصص القرآنى أكّد نفس المبدأ فى حرية الايمان وحرية الكفر : (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ) (هود 121 : 122)، وأمره ربه جل وعلا أن يردد نفس المبدأ بنفس الألفاظ تقريبا التى قالها النبى شعيب لقومه من قبل : ( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ  ) ( الزمر 39 : 40 )، وأيضا : (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) ( الأنعام 135 ).

2 ـ لم يكن مسئولا إلا عن شىء واحد هو تبليغ الدعوة ،أما موقف الناس منه فكل نفس لها حق الاختيار ، إن إهتدت فلنفسها وإن ضلت فعلى نفسها . ومن يشاء الهدى يهده الله ومن يشاء الضلالة يضله الله . تكرر هذا فى آيات كثيرة ، منها أن هداية الناس ليست مسئولية النبى : (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) ( البقرة  272)، بل إنه عليه السلام لا يستطيع هداية أحبّ الناس اليه :(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (القصص 56 )،فالله جل وعلا هو الذى يعلم كتاب أعمال المهتدين ، لذا فليس من وظيفة النبى فرض الحق على أحد، بل هو مجرد نذير ومجرد مذكّر بالحقّ :( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ) ( الغاشية 21 : 26 ). بالتالى فالنبى بعد موته وقفل كتاب أعماله ليس مسئولا عما حدث من أصحابه أو خصومه من خير أو شّر،أو بالتعبير القرآنى ليس وكيلا عليهم لأن الله جل وعلا هو الوكيل على كل الناس . أما خاتم النبيين النبى ليس وكيلا عن أحد . ليس وكيلا عن المنافقين المخادعين من الصحابة : (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ) (النساء 81 )وليس وكيلا عن الصحابة العصاة :(هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ) ( النساء 109 )أو حتى الصحابة الطيبين الفقراء  :(وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ ) ( الأنعام 52 )، وليس وكيلا عن قريش قوم النبى (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )(الأنعام  65 : 66)، أوعن الكفرة المشركين عموما :(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا) (الفرقان 43 )( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ  ) ( الشورى 6 )، وليس وكيلا عن الناس جميعا:(إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ )( الزمر 41 ). الوكيل فى المصطلح القرآنى هو الذى يتوكل عليه الناس ويستعينون به ويكون مكفلا بهم . وهذا لا يكون الا رب العزة .  ليس على الرسول إلا  البلاغ أما مدى الاستجابة للبلاغ فعلمها عند رب العزة : (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ )( المائدة 99 ). وهذا العلم مسجل فى كتب الأعمال. بالتالى فالنبى بعد موته وقفل كتاب أعماله ليس مسئولا عما حدث من أصحابه بالخير أو بالشّر ، فسواء أثمرت دعوته هدى فلن يزيد ذلك فى مكانته ، أو إن عورضت فى حياته أو تعرضت للعصيان والتضليل بعد موته فلن يؤثر هذا على مكانته لأن القاعدة أن المسئولية شخصية ، فلا تزر وازرة وزر أخرى ومن يهتدى فلنفسه ومن يضل فعليها : ( مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ( الاسراء  15) .

 وستأتى تفصيلات أخرى فى مقال قادم بعون الله جل وعلا.

اجمالي القراءات 17307