وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ
الجزء الأخير من " نساء غير النساء "

محمد صادق في الإثنين ٢٨ - نوفمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 الجزء الأخير من " نساء غير النساء "

القصة تبدأ كما بدأت قصة يوسف عليه السلام .. طفل يولد ويرمى في اليم، ذاك يرمى في البئر وهذا يرمى في اليم، ثم يكون الأمر نهاية فرعون على يد موسى عليه السلام فيوسف عليه السلام ينهي الحكم في مصر، ويتولى هو حكم مصر، وقد خرج من البئر، أما موسى عليه السلام فيُلقى رضيعاً في تابوت في اليم، ثم بعد ذلك يسقط أكبر طغيان على وجه الأرض مرت عليه مدة طويلة من الزمن. إذاً: هذه حكمة الله عز وجل.

 والخطر محدق به والموت يتلفت عليه، وها هي ذي أمه حائرة به خائفة عليه.  .لقد ولد موسى

هنا تتدخل يد القدرة  فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة وتلقي في روعها كيف تعمل وتوحي إليها بالتصرف:

وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)

من لطائف الآية: أمران ونهيان وبِشارتان

 

الأمرالأول والثانى: أَرْضِعِيهِ: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ، فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ.

 

النهي الأول والثاني: لاَ تَخَافِي ولا تَحْزَنِي.

 

البشارة الأولى والثانية: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ.

 

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " 9

يا للقدرة ! يا أم موسى أرضعيه . فإذا خفت عليه وهو في حضنك . وهو في رعايتك . إذا خفت عليه وهو تحت عينيك . إذا خفت عليه (فألقيه في اليم... الله تعالى إنما أوحى لأم موسى أن ترضعه مع أن إرضاع الأم ولدها أمر طبيعي ، لكن أوحى الله لها ذلك حتى لا تلتمس له المراضع.

ولا تخافي ولا تحزني)إنه هنا . . في اليم . . في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها، اليد التي لا خوف معها، اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعا أن يدنوا من حماها الآ من العزيز الجبار.

 

إنا رادوه إليك). . فلا خوف على حياته ولا حزن على بعده . . (وجاعلوه من المرسلين). . وتلك بشارة الغد ووعد الله أصدق القائلين.

فالتقطه آل فرعون.... أهذا هو الأمن ؟ أهذا هو الوعد ؟ أهذه هي البشارة؟

وهل كانت المسكينة تخشى عليه إلا من آل فرعون ؟ وهل كانت ترجف إلا أن ينكشف أمره لآل فرعون ؟ وهل كانت تخاف إلا أن يقع في أيدي آل فرعون؟ فها هي ذي يد القدرة تلقي في أيديهم بلا بحث ولا كد بطفل ذكر . وأي طفل ؟ إنه الطفل الذي على يديه هلاكهم أجمعين ! ها هي ذي تلقيه في أيديهم مجردا من كل قوة ومن كل حيلة عاجزا عن أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد !

ما نستنبطه من هذا المقطع، انها صدَّقت بالوحى وآمنت بربها ووعده فغلب صدقها وقوة إيمانها على عاطفة الأمومة التى هى غريزة طبيعية فى كل أم بالرغم من كل ما يحيط بهذا الطفل من مخاطر.

 

وَأَصْبَحَ فُؤَادُأُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12

 

لقد سمعت الإيحاء , وألقت بطفلها إلى الماء . ولكن أين هو يا ترى وماذا فعلت به الأمواج ؟ ولعلها سألت نفسها:كيف ؟ كيف أمنت على فلذة كبدي أن أقذف بها في اليم ؟ كيف فعلت ما لم تفعله من قبل أم ؟ كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة ؟ وكيف استسلمت لذلك الهاتف ؟

فى هذه الآية، العاشرة، وَأَصْبَحَ فُؤَادُأُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ "

نلاحظ أن الله سبحانه إستخدم لفظ الفؤاد حين كان شعور وإحساس الأم وصل إلى ذروته خوفا على رضيعها، فالقرآن الكريم حين يتكلم عن الخوف والحزن والفرح والكره او الحقد والغيرة والحسد وما شابه ذلك من مجرد أحاسيس وأمنيات وشعور سواءا بالفرح أو بالحزن فيستعمل كلمة فؤاد، أحاسيس وشعور ولكن حين يتكلم القرآن عن الإيمان، يستعمل كلمة القلب ولنقرأ ما يؤيد ذلك من كتاب ربنا جل وعلا:

 

بالنسبة للفؤاد يقول سبحانه:

" وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ " 6:113

القبول هنا جاء بعد الإصغاء وهوبمعنى القبول والإطمئنان لما يستمعون له وكل هذا عبارة عن شعور وإحساس بالراحة والرضى بما يتلقونه وكان ختام الآية بأنهم إرتضوا به وبدؤا يقترفوا ما هم مقترفون فالمحرك لكل هذه المشاعر هو الفؤاد.

 

  رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ " 14:37

ماذا نتوقع من أب مثل إبراهيم عليه السلام بعد أن ترك ذريته بمكان قفر لا يوجد فيه أى اساليب المعيشة، فأراد أن يستغل العاطفة والحب فى من يأتى إلى أهله بأفئدة تشفق وتحن على ذريته الذى تركهم فى واد قفر غير ذى ذرع فإستخدم كلمة أفئدة وهى جمع فؤاد، حتى يثير فىيهم الشفقة والحب والمعونة لذريته. فهذا هو الفؤاد موطن المشاعر والأحاسيس بكل معانيها.

 

بالنسبة للقلب يقول سبحانه:

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (49:14

هنا يوضح الله سبحانه لنا أن الإيمان محله القلب وليس قولا باللسان لأنهم قالوا... آمنا... فلم يتقبل منهم ذلك وأخبرهم أن الإيمان محله القلب وهو سبحانه الوحيد الذى يعلم متى يدخل الإيمان القلب ويعلم إن كان هذا الإيمان صادق أم كاذب.

 

والتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة صورة حية:(فارغا). . لا عقل فيه ولا وعي ولا قدرة على نظر أو تصريف.

إن كادت لتبدي به). . وتذيع أمرها في الناس، وتهتف كالمجنونة:أنا أضعته . أنا أضعت طفلي . أنا ألقيت به في اليم اتباعا لهاتف غريب.

لولا أن ربطنا على قلبها). . وشددنا عليه وثبتناها وأمسكنا بها من الهيام والشرود،

لتكون من المؤمنين). . المؤمنين بوعد الله الصابرين على ابتلائه السائرين على هداه ، لذلك كان الربط على القلب والسبب وضح فى نهاية الآية الكريمة...لتكون من المؤمنين، إذا الإيمان محله القلب.

وقالت لأخته:قصيه). . ولم تسكت أم موسى عن البحث والمحاولة اتبعي أثره واعرفي خبره إن كان حيا أو أكلته دواب البحر أو وحوش البر . . أو أين مقره ومرساه؟

 

وذهبت أخته تقص أثره في حذر وخفية وتتلمس خبره في الطرق والأسواق . فإذا بها تعرف أين ساقته القدرة التي ترعاه وتبصر به عن بعد في أيدي خدم فرعون يبحثون له عن ثدي للرضاع.

"فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون . وحرمنا عليه المراضع من قبل . فقالت:هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون."

 

إن القدرة التي ترعاه تدبر أمره وتكيد به لفرعون وآله فتجعلهم يلتقطونه وتجعلهم يحبونه وتجعلهم يبحثون له عن من ترضعه،  وتحرم عليه المراضع لتدعهم يحتارون به وهو يرفض الثدي كلما عرضت عليه وهم يخشون عليه الموت ! حتى تبصر به أخته من بعيد فتعرفه وتتيح لها القدرة فرصة لهفتهم على مرضع فتقول لهم: (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون)؟ فيتلقفون كلماتها وهم يستبشرون يودون لو تصدق فينجو الطفل.

وهنا يتضح تدبير الله سبحانه حين اوحى لها أمره بأن أرضعيه حتى يتعود على ثدى أمه ثم تكتمل القدرة الإلهية بأن يتم تحريم عليه المراضع وبذلك يعود إلى أمه كما وعدها ووعده سبحانه الحق.  

 

وقد عاد الطفل الغائب لأمه الملهوفة . معافى في بدنه مرموقا في مكانته يحميه فرعون وترعاه امرأته وتضطرب المخاوف من حوله.

 

فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14

فرددناه إلى أمه , كي تقرعينها ولا تحزن , ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون.

 

لفتة سريعة، نستنبط من هذه الآيات الكريمات أن إذا أرادت مشيئة الله ان تحدث فسبحانه يستعمل أدوات من اللغة التى تفيد تحقيق هذه المشيئة وخصوصا إذا كان الموقف يستحق السرعة والحركة المستمرة لتحقيق هذه المشيئة.

فنلاحظ أن الله سبحانه إستخدم الكلمات: بدأ بالوحى فقال، أَوْحَيْنَا...ثم بدأ فى تنفيذ مشيئته فقال:فَـأَلْقِيهِ...،فــاقذفيه في اليم...، فـــليلقه اليم بالساحل....،  فــالتقطه.... ، فَــرَدَدْنَاهُ...، نلاحظ هنا حرف الفاء أضيف إلى الفعل، معنى ذلك فى لحظة معينة كانت تتم كل هذه الأفعال بسرعة وتتوالى الأحداث والتعقيب بدون فاصل زمنى بين الفعلين، مثلا الإلقاء ثم الإلتقاط تم بسرعة وبدون فاصل زمنى كبير، وعلى ذلك نقول انه إذا أضيف حرف الفاء إلى الفعل، ولابد أن يكون هناك فعلين وحرف الفاء يدل على عدم وجود زمنى بينهما ولنقرأ مثال من سورة المائدة، يقول سبحانه:

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَـــاغْسِلُواوُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَــاطَّهَّرُواوَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَــتَيَمَّمُواصَعِيدًا طَيِّبًا فَـــامْسَحُوابِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ...... "5:6

إن الله سبحانه لم يقل إذا قمتم إلى الصلاة إغسلوا....ولكن قال فــإغسلوا، وهذا فى القرآن كثير.

فى هذه الآية الكريمة فعلين، هما نية القيام إلى الصلاة ثم يعقبها التحضير للصلاة، وهو الغسيل ( الوضوء) ، فبإضافة حرف الفاء للفعل الثانى وهو الشرط  الواجب، يدل على سرعة العمل بالفعلين ولا يوجد فارق زمنى بينهما. بمعنى أنه يتم الوضوء ثم إلى الصلاة مباشرة ولا فارق زمنى بينهما...  هذا والله أعلم.

 

فرعون يُمَثِّل قوة السلطان، وقارون يمثل قوة المال، وكيف أن الله سبحانه وتعالى هو القوة الكبرى التي لا قوة معها في الكون، فإذا كنت مع الله عزَّ وجل نَم مطمئناً، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله، وإذا أردت أن تكون أضعف الناس فتوكَّل على غير الله، والله سبحانه وتعالى يقول:

" فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ "

" وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى"... هذا الوحيُ وحي إلهام ؛ فالله عزَّ وجل أوحى إلى محمد عليه السلام فهذا وحي إرسال، وأوحى إلى أم موسى وحي إلهام، وأوحى إلى النحل ؛ وحيُ غريزة، هناك وحي غريزة، ووحي إلهام، ووحي إرسال..... والله أعلم.

" فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (91:8

 

فأين هو موجود ؟ الشعور أن الله معك شعور لا يقدر بثمن، طبعاً الله مع كل إنسان، هذه معيةٌ عامةٌ لا ميزة فيها للإنسان، وهو معكم أينما كنتم، لكنْ لمّا يقول اللهُ تعالى: اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ، ويقول: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.

هذه معيةٌ خاصة، معية الحفظ، معية التوفيق، معية العطف، والرعاية، والنصر والتأييد، فالإنسان هو الذي يجتهد ليستحقَّ أن يكون الله معه، العوام يقولون: الله معك، هذه العبارة، كلمة: (الله معك ) ليست قليلة، اجتهد كي تستحق أن يكون الله معك، فإذا كان معك فلا تخشَ بأساً.

 العناية الإلهية بموسى عليه السلام

دائماً الله عزَّ وجل يرخي الحبل، افعل ما تشاء، إلى أن يتوهَّم العبد أنه قادر على أن يفعل ما يشاء، ثم يشد الحبل فجأةً، هذا هو الابتلاء، هذا هو الامتحان بعينه: فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً.

لِيَكُونَ لَهُمْ،  اللآم فى "ليكون" لام العاقبة والمآل، هي لام الصيرورة ، أي: سوف يصير الأمر إلى أن يصبح هذا الطفل الذي يتربى في حجر فرعون عدواً لهم وحزناً،  فمستحيل أن يلتقط إنسانٌ طفلاً، ويربيه عنده ليكون في النهاية عدواً له وحزناً، أنا أدرس لأنجح، النجاح واضح في ذهني، أما فرعون فالتقطه ليكون له عدواً وحزناً، مستحيل، المآل، فهو التقطه، وكانت النتيجة وآلَ المآل إلى أنّ هذا الطفل أصبح عدواً لهم وحزناً....... فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ.

أن أم موسى فهمت التوكل على الله فهما صحيحا

 

فهو لا يعني التواكل، وإنما يعني العمل مع الاعتماد على الله والثقة فيه.. ولذلك فأنها بعد أن ألقت رضيعها في النيل أمرت أخته بتتبع التابوت ومصيره "وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" وجاءت لها الأخت بأخبار الرضيع، وأنه يرفض المرضعات، وذهبت الأخت لهم تخبرهم بمرضعة وأهل بيت يكفلون الرضيع: "وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ" القصص: 12). وهكذا عاد موسى لامه وبيته متمتعا بحماية الفرعون نفسه.

أي أن الله تعالى استخدم قوة فرعون ضد فرعون، وجعله في خدمة موسى وأم موسى.. ووعد أم موسى وصدق وعده.. ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

عناية الله سبحانه ورحمته وقدرته 


يقول الله عز وجل: وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا "28:9، وهذه أول رحمة تنزل على هذا الطفل الصغير؛ لأنه وصل إلى داخل بيت فرعون، أصبح الآن لا مناص له من القتل، فرعون يقتل الأبناء الذكور، وهذا ذكر، وقد تكون هناك علامات موجودة في موسى، وإرهاصات تدل على أنه هو الذي سيقضي على هذا الملك الجبار العنيد، إذاً: ما هو العلاج؟ ألقى الله تعالى من أول وهلة المحبة في قلب امرأة فرعون، فطلبت من زوجها الطاغوت أن يستبقي هذا الولد من بين كل الأطفال الذين يقتلهم في كل لحظة، ممن يولدون من بني إسرائيل في تلك الفترة إلا هذا الطفل؛ لأن الله تعالى يريد له أن يبقى، وهذه من قدرة الله عز وجل الغالبة التي يقول الله عز وجل: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ " يوسف:21

 

إن فيما قصَّه الله علينا من نبأ موسى وفرعون تحدٍ صارخ للعقل المادي الذي ينظر إلى الأسباب والحوادث كقوانين أبدية جامدة طبيعية لا سلطان لأحد عليها . إن فيها دعوة إلى الإيمان بالله عز وجل وأنه تعالى الذي خلق الأسباب وهو مالكها والمتصرف فيها كيف يشاء. وإن معجزات النصر وعجائب القدرة الإلهية تتكرر.

 

كانت أم موسى عليه السلام نموذجاً للأم الصابرة المؤمنة الثابتة المتوكلة الطائعة لأمر ربها الراضية المطمئنة المستعينة دائماّ بالله.

قصة امرأة صالحة، مؤمنة صابرة، امتحنت في ابنها امتحاناً شديداً، فأعطت درساً عملياً لكل الناس رجالاً ونساءً، فلم نسمع عن امرأة مثلها في شدة يقينها بربها وثقتها به وتوكلها عليه، هكذا فلتكن الثقة بوعود رب العالمين، وهكذا فليكن اليقين، وهكذا فليكن التوكل على الله، موقف صعب محال لا تتحمله الجبال فكيف بالرجال، بل كيف بامرأة ضعيفة وأم حنون طار لبها وزاغ عقلها من هول الموقف، إنها: أم نبي الله موسى عليه السلام.

 

تدبروا أيها المسلمون في هذا السر العظيم .. تدبروا وأنتم تعيشون هذه الأيام أزمة وهجمة على عقيدتكم وإخوانكم المستضعفين ، انظروا إلى إيمانكم! اجعلوا قصص القرآن كلها نصب أعينكم، إنها الثقة بالله، واليقين بوعد الله، لكن متى؟! إذا كانت العبودية التامة لله، إذا كانت الطاعة والاستجابة لله ؟! فأين من يريدون النصر دون طاعة أو تضحيات؟ أو حتى مجرد ترك شهوات ومحرمات؟! ليس بيننا وبين الله نسب؟ بل بيننا وبينه " يعبدونني لا يشركون بي شيئاً "! بيننا وبينه الاستسلام له والاستجابة، إنه الإسلام فكن مستسلماً لربك في كل شيء" وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور"  31:22

 

تأمل حين يصل الأمر منتهاه في التحدي لفرعون؟ ويكون الوفاء من رب الأرض والسماء لامرأة ضعيفة مسكينة، ماذا عساها أن تفعل أمام كل هذا الجبروت؟ ماذا بيدها أن تصنع مع كل هذه الإجراءات لقتل وليدها وفلذة كبدها؟! ما حالها حين أرضعته ثم وضعته في التابوت؟ ما هو شعورها حين سمعت أن صغيرها وقع بيد فرعون؟ آهٍ يا أم موسى؟! آهٍ لقلبك كيف صبرت؟! آهٍ لحالك كيف ثبت؟!

 

 أيها المؤمنون والمؤمنات: إنه قلب المؤمن مهما كانت الظروف؟ إنها الثقة بالله مهما كانت الأزمات؟ إنه اليقين بوعود رب العالمين يوم قال لها: " إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَـاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ" لم تتردد؟ لم تتراجع؟ لم تفكر؟ بل وضعته بالتابوت وألقته باليم؟ لأنها تعلم يقيناً أن الذي وعد هو: الله مالك الملك، ووعده وأمره حق، فكانت رعاية الله وعنايته بموسى وأمه؟ " وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" 28:10، سبحان الله! لو نطقت الأم لهلك موسى، لو فاضت مشاعرها فصرخت: (ولدي) لهلك ولدها، فسبحان من ثبت فؤادها، سبحان من ربط على قلبها.

 

ولا ننسى أن العوامل المحركة فى هذه القصة، العامل الأساسى المحرك والمدبر هو الله سبحانه، فكان العامل المحرك على أرض الواقع هى أم موسى عليه السلام، والعاملين المساعدين على تحقيق مشيئة الله سبحانه هن أخت موسى وإمرأة فرعون. نلاحظ هنا أن العوامل الثلاثة الذى سخرهن الله سبحانه هن ثلاث نساء وهن غير النساء.

ثلاث نساء غير النساء، لعبن دورا مُهِمَّا فيه الكثير من الرحمة والعاطفة والحنان والحكمة والإيمان والصبروقوة التحمل.

 

الدرس الأول: حسن الظن بالله سبحانه والثقة به.

الدرس الثانى: حاجة الإنسان إلى من يخفف عنه، ويُطَمئن قلبه.

الدرس الثالث: صوت الأمومة المستقيمة السليمة.

الدرس الرابع: التوكل على الله.

الدرس الخامس: الإيمان والتصدبق بأن وعد الله سبحانه حق.

الدرس السادس: تنمية القدرة على ضبط انفعالات النفس وتسرعها خاصة عند الشدائد والأزمات.

 هذا هو القدر الإلهى يظهر منه ومضات ليتيقن الناس أن خالق السَّماوات والأرض قادر على كل شيء:

" وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ" 12:21

فسبحان من بيده الأمر، يجعل لمن إتقاه من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا.

 

اجمالي القراءات 19775