الحمدُ للــهِ .. كان كابـوســاً !

محمد عبد المجيد في الأربعاء ٢٨ - سبتمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الحمد للــه .. كان كابوساً!

رأيت فيما يرى النائمُ أنني أسير على غير هـَدْيّ في شارع جانبي بقاهرة المعز، ووجدت أمامي سُرادقاً للعزاء وقد غطى المعزّون وجوهـَهم بأيديهم، ففهمت أنَّ سبب تغطية الوجوه هو الخجل من الميت وليس الحزن عليه.

في الصف الثاني على اليمين من السرادق الضخم شاهدت رجلا نحيفاً يقهقه بصوت مرتفع، ويهرش رأسه، وينظر من أعلى نظارته، ثم يعاود الانفجار بالضحك مرة ثانية وهو يشير إلى المعزين وكأن أحدهم ألقى على مسامعه مئة نكتة من العيار الثقيل.

سألت الرجل القصير الذي يحمل فناجين القهوة السوداء المـُرّة عن هذا الذي يهتز السرادق لضحكاته الهستيرية فقال لي إنه رئيس محكمة الجنايات، وهو لم يتوقف عن الضحك منذ أن حــًكم بالبراءة على المتهم محمد حسني السيد مبارك، فالشهود الكبار كلهم انحازوا للراقد فوق فراش يحرسه ابناه وقد أمسك كل منهما مصحفا ليدلل على أن السماء أيضا معه.

غادرت السرادق مشياً حتى وصلت إلى مبنى قديم تنبعث منه زغاريد وأصوات مزعجة تختلط بنغمات موسيقية قريبة من الضوضاء يـُضـَّخمها مـُكبران للصوت.

دخلت بحذر فوجدت نساء ورجالا يرقصون، ويهنئون بعضهم بعضاً، وتعرفت من بينهم على وجوه كانت إلى عهد قريب ترى ثورة الشباب عبث صبيان أمام بطل الضربة الجوية الأولى، ثم بدأتْ تتبرأ من الالتصاق به عندما أتت الثورة بعض أكـُلــِها، وبعد ذلك أقسمتْ بأغلظ الإيمانات أنها مع شباب مصر الثوار ضد الطاغية، والآن تحتفل بعودة الروح إلى جزّار مصر بقرار المحكمة رغم ميزان العدل الذي يرتفع فوق رأس رئيسها .. ممثل عدالة السماء على الأرض.

ضحكات مجلجلة تهز أركان قاعة الحفلات، فحاولت أن أرهف السمع إلى أحاديثهم كأنهم سكارى، ولكن نشوة التشفـّي في أبطال مصر الصغار كانت قمة السعادة للمحتفلين بتبرئة أشرس مجرمي العصر.

رأيت في الحفل أسامة سرايا وهو يهمس في أذن طلعت زكريا قائلا له بأن (الريس) يريدك رئيساً للطباخين في قصره لمواقفك المشرفة، وبكائك المستمر عليه، وتطاولك على شباب ميدان التحرير الذين وصفت بعضهم بأنهم اعتصموا فمارسوا الجنس في الخيام، ورد عليه طباخ الرئيس قائلا: أقترح عليك أن تلعب بالفوتوشوب في ( الأهرام) بعد عودتك الميمونة لتصنع صورة تاريخية تجعل رئيسنا المحبوب والبريء في مقدمة زعماء الدنيا و .. التاريخ!

اقتربت من سماح أنور وهي تجلس بجوار صفوت الشريف وتقسم له بأنها لم تتنازل عن فكرتها بحرق ميدان التحرير ومن فيه إلا تحت ضغوطات شديدة، ويؤكد لها صفوت الشريف بأن الرئيس لن ينسى عبقريتها في التدمير، وسيبني لها مسارح وقطارات في بني سويف والصعيد لتضع فيها المصريين الغلابة، ثم تشعل النار فيهم وترقص حولها.

سمعت عبد الله كمال يتحدث بصوت خفيض مع جمال مبارك الذي كان جالساً على أريكة متناثرة عليها وسائد من حرير. كان يطلب من المتهم الذي قام المستشار أحمد رفعت بتبرئته لعدم ثبوت الأدلة أن يجعله على قمة هرم الإعلام، ويعطيه خرزانة مثبتة بها مسامير رفيعة ليعبط بها كل مناهضيه على مؤخراتهم العارية!

في ركن قصيّ من الحفل كان علاء مبارك يجلس في هدوء مستمعاً بشغف لمدير أعماله وهو يؤكد له أن مئات الملايين من أمواله لم يقترب منها أحد رغم مرور عدة أشهر على ما أطلق عليه المهرجون ثورة الشباب، فمليارات من أموالنا ظلت في أمان بين تلكؤ السلطة التنفيذية وتردد المجلس العسكري، وكادت بنوك سويسرا وبريطانيا وفرنسا وأمريكا ودول خليج وإسرائيل تستعد لاعادتها لشعب مصر، لكن مراكز القوى الممتدة من شرم الشيخ إلى معتقل طرة كانت تستطيع بستالايت موبينيل والإتصالات وفودافون أن تتحكم في كل حساب لرجالنا طالما لن نتحكم في حساب الآخرة.

كان ممتاز القط ومجدي الدقاق ومكرم محمد أحمد يخرج كل منهم منديلا ليمسح دموع الفرح التي غطت وجه غادة عبد الرازق، وفي هذه اللحظة دخل زكريا عزمي وصافح معانقاً الصحفيين الثلاثة، ووعدهم بالعودة رؤساء لتحرير أكبر الصحف المصرية، وابتسم في وجه غادة عبد الرازق قائلا لها: أعدك بمنصب نقيبة الممثلين في أقرب فرصة.

فجأة توقفت الموسيقى، وتوجهت أنظار الجميع ناحية الباب الصغير المؤدي إلى مكتب إدارة قاعة الحفلات، فسيدة مصر الأولى تدخل رافعة رأسها بعزة وكرامة، وعن يمينها الفنان الوزير فاروق حسني، وعن يسارها الدكتور سراج الدين، فتعالت الهتافات بالروح والدم، وهرولت الدكتور عائشة عبد الهادي ناحية السيدة سوزان مبارك لتـُقــّبــِّل يديها، ظهراً وبطناً، ثم حاولت أن تـُقــَبــِّل وجهها، فدفعها فاروق حسني قائلا: من الآن فصاعدا تمنع الدولة تقبيل وجه سيدة مصر الأولى، ومن أراد أن يبدي خنوعاً ومسكنة فعليه بحذاء سيدتنا .. حفظها اللـه وأطال عمرها!

دقائق قليلة ويغمر الجميعَ وجومٌ، فالسيد نائب الرئيس يخطو إلى داخل القاعة وقد رسم على وجهه رصانة وجدّية ونصف ابتسامة. يتقدم اللواء عمر سليمان من جمال مبارك ويعاتبه قائلا: لقد رأيت في وجهك بين قضبان القفص الحديدي علامات الشك فعرفت أنك تخشى شهادتي، لكنني ككل كبار رجال مصر على العهد باقون، ونحن سلسلة طولها سبعون ذراعاً من خدم وحشم وحيتان الرئيس مبارك، وكان كل واحد منا يستحق أوسكار ممثل من الدرجة الأولى حتى ملايين من شباب الثورة الأكثر وعياً من كبارها سقطوا في مصيدة تصديق دموع التماسيح، فبكينا على مصر وقلوبنا مع الرئيس مدى الحياة و.. بعد الموت.

ثم قال: هل تسمح لي أن أحتفظ بالفراش الذي رقد فوقه رئيسنا وقد غطى وجهه، فظن الناس أنه خجل من قفص القرود.. أعني قفص الاتهام، لكن الحقيقة أن حالة من الضحك المكبوت على المصريين كانت السبب وراء اخفاء الرئيس وجهه الكريم، فهذا فراش سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه، بل هو عرش في حد ذاته من ينام عليه فقد حكم مصر إلى الأبد.

خرجت مسرعاً من القاعة، وجريت وأنا أصرخ في وجه كل من يقابلني بأن الرئيس مبارك أعيدت له روحه وقصوره وأمواله ورقاب شعبه، لكن الناس كانت تنظر إلىَّ ببلاهة شديدة.

فجأة وقعت عيناي على لافتة بطول برج الجزيرة وهي للرئيس مبارك يربت على رأس طفل صغير شاهدته من قبل في برنامج للأطفال تقدمه معاقة ذهنياً في التلفزيون المصري.

"انتخبوا الرئيس في ولاية جديدة"

لم أصدق سرعة نصب هذا الإعلان الضخم، فدخلت أول مقهى لعلي أصادف نشرة الأخبار في التلفزيون القديم المتهالك والمتراكم فوقه جبل من التراب.

أطل علينا عبد اللطيف المناوي بأناقته المعهودة، وبدأ حديثه بتهنئة الرئيس ، وتقديم الشكر العميق لكل الأوفياء من المجلس العسكري إلى أعضاء الحكومة، ومن الطاقم الطبي في مستشفى شرم الشيخ إلى الذين رفضوا أن يمسوا جنيها واحدا من عشرات المليارات التي اكتسبها أولياء أمورنا وشؤوننا، فظلت في حفظ وعناية الذين شهدوا لصالح بطل الضربة الجوية.

ثم قرأ رسالة تهنئة من قادة إسرائيل للصديق الرئيس حسني مبارك، ورد الرئيس عليها بأنه قرر منح كل إسرائيلي قطعة أرض مجاناً في مصر ليقيم عليها مستوطنة لعلها تساهم في حماية أجيال مبارك وهي تتوارث حُكم هذا البلد المسكين.

كان المجلس العسكري مجتمعاً لبحث مطالب الثورة وشبابها، والنظر في خطة الحكومة التي عرضها الدكتور عصام شرف، وفجأة دخل الرئيس محمد حسني السيد مبارك وقد صغر عشرين عاماً!

وقف رئيس المجلس والأعضاء من كل الرتب العسكرية المهيبة، وجلس المتهم البريء في مقعد الرئيس، وضجت القاعة بالتصفيق الحاد، لكن الرئيس لم يبتسم، ثم شكر أعضاء المجلس على ما أبدوا من ولاء ووفاء وحفظ للعهود.

سأل الرئيس عن القوى السياسية والدينية والحزبية فقيل له بأنهم أربعمئة وستون بعدما كانوا في ميدان التحرير لا يعرف المصري عن أخيه إلا شيئين: عشقه لأم الدنيا، وكراهيته للرئيس مبارك!

اتسعت ابتسامة الرئيس، وشعر بأن مئات من الفرق والاحزاب والجماعات تستطيع أن تعجل في خراب مصر وكل جماعة تزعم أن اللـه يقف معها.

بعد يومين من الاجتماع قام الرئيس حسني مبارك بتوزيع أوسمة الاستحقاق من الدرجة الأولى على أعضاء( إحنا آسفين ياريس) و ( أبناء مبارك) و ( ونصف مليون بلطجي) وعانق قتلة الشهداء من أصحاب موقعة الجمل واعدا إياهم بقتل الملايين في أي ثورة شبابية قادمة.

عدت إلى السرادق الأول فوجدت المعزين قد غادروه إلا المستشار أحمد رفعت الذي لم يستطع التحكم في هستيريا الضحك، واقتربت منه سائلا إياه عن سبب هذه الحالة الغريبة، فنظر إلي وقال: لأول مرة في حياتي تتحول دموع ثمانين مليونا من المصريين إلى ختام مسرحية كوميدية باكية، وملهاة مأساوية، وتراجيديا باسم العدالة. لا أدري إن كنت أضحك على المصريين أم على نفسي!

وانتفضت فزعاً من كابوس لازلت أرتعش رعباً كلما وقعت عيناي على فراشي، فخشيت النوم لئلا يهاجمني مرة أخرى.

 

أوسلو في 25 سبتمبر 2011

 

 

أفكار في استرجاع ثورة مسروقة

تلك حزمة من الخلجات، والأفكار، والنصائح، والاقتراحات، لا ألزم بها أحداً، لكنني أضعها بين أيدي شباب الثورة المجيدة، لعلها تساهم ولو بمثقال ذرة في حماية مصر ما بعد الثورة.

1- الثورة التي أسقطت طاغية العصر ودفعتْ ثمنها من دماء وشهداء وجرحى هي السلطة الأولى التي ينبغي تنفيذُ مَطالبــِها كاملة قبل أن تعود للسلطات الثلاث أدوارُها في دولةٍ ديمقراطية وحرة ومستقلة 2- الثورة قبل السلطة القضائية، ومهمة رئيس المحكمة التي يقف أمامها عدو الشعب الطاغية المخلوع حسني مبارك هي محاسبته على جرائم ثلاثة عقود، وليس ثلاثة أسابيع. وأم الجرائم في حق المصريين هي اعتبار مبارك متهم فقط لعدة أيام في الحـُكم مما يعد إهانة لشعبنا، واحتقاراً لثورته، وازدراءً لقوانين العدالة، ورفضاً لاتهام الطاغية المخلوع عن أي فترة أخرى سابقة للثورة.

3- السيد المستشار أحمد رفعت أثبتَ أنه لا يصلح قاضياً للنظر في جرائم لو تم عرضــُها على محكمة الجنايات الدولية لاحتاجت لعشرات من المستشارين ذوي الخبرة والامكانيات، لذا فالثورة تطالب بعزل المستشار ولا ينتقص هذا من احترامنا له.

5- التهاون في إعادة أموال المصريين المنهوبة، وطلب قروض ومساعدات بالمليارات هي جريمة بكل المقاييس، فالمصريون في هذه الظروف القاسية أحق بأموالهم من البنوك في الخارج، وكل الدلائل تشير إلى أن من بيدهم الأمر يرفضون استعادةَ أموال مصر المحتجــَزة في الخارج.

6- خصوم الثورة وأعداؤها الذين فرّقوها جماعات وأحزاباً، ورفضوا الانضمام للثوار قبل نجاحـِها، وانفضـّـوا عنهم بعدما حصلوا على مقارات ومكاتب واعترافاً بالشخصية المعنوية. إنها وصولية وتسلقية وغشٌّ وخداع، فالثورة قامتْ، ونجحتْ، وأجبرت الطاغيةَ على التنازل، مخلوعاً، عن الحُكم لأنها كانت بهويـّة واحدة وهي المواطــَنة المصرية، أما ما يحدث الآن من الافصاح عن توجهات مختلفة قبل تحقيق أهداف الثورة فهو طعن فيها، وخيانة لمبادئها، وانحياز ضد الشعب.

7- إن سرية الجلسات، والاكتفاء بشهود تنتهي شهادتهم لصالح طاغية مصر الذي خلعه الشعب، والاخلال بمواعيد بدء الجلسات، ومنع عدد كبير من المحامين للدخول إلى القاعة، والانحياز الواضح من رئيس المحكمة، وضعفه في إدارة الجلسات، وقرارات حظر النشر لجلسات محاكمة هي قضية رأي عام، وازدراء رغبة الشعب في معرفة ما يدور داخل قاعة محاكمة هو الذي ضغط على السلطة لعقدها فحـَرَمَتْه من متابعتها .. كلها تؤكد أن الأمر برمته مسرح للعرائس يتلاعب في خيوطه الطاغية ورجاله، حتى أحمد عز يدير أعماله بالمليارات من وراء القضبان.

8- الذين قتلوا مئات من شباب الثورة لم يكونوا أشباحاً أو كائنات فضائية لكنهم موجودون بيننا، وتعرفهم أجهزة الأمن والمخابرات والمجلس العسكري، ولدى الدولة أفلام موثقة، والانتظار المتعمد لعدة أشهر في تسويف واضح كان لاخفاء الأدلة أو تسهيل هروب القتلة.

9- أي متابع جيد، ومشاهد حصيف لن يخفى عليه أن أجمل وأرقى وأطهر ثورات العصر تتم سرقتها في وضح النهار، وفي استفزاز صريح لملايين المصريين، وفي تحدٍ مباشر لأبطال ميدان التحرير، والسرقة ليست لصالح قوى جديدة، لكنها لاعادة النظام السابق في صورة جديدة ومخادعة.

10- إنهم يراهنون على أن الثورة تقوم مرة واحدة، وأن جمعة المليونية ليست أكثر من تكدس شبابي لعدة ساعات، وأن غياب الاخوان المسلمين والسلفيين والأقباط والوفد وبعض الجماعات الأخرى سينهي إلى غير رجعة قوة شباب الثورة خاصة بعدما بدأت دول كثيرة في التردد لدعم الثورة المصرية السلمية التي انفضت وانفصلت عنها فصائل كانت تخفي أيديولوجيتها وأفكارها حتى تنجح الثورة ثم تقطف ثمارها وتجري بعيداً.

إننا ننادي كل عشاق مصر ومحبيها أن يعودوا مرة أخرى إلى الثورة ونقائها وعــَلــَمـِها الموحد وسلميتها، فهي ليست يسارية أو يمينية أو ناصرية أو اخوانية أو قبطية أو سلفية أو علمانية، إنما هي غضبة شعب يريد أن يُحاكم قاتلي أبنائه، وناهبي ثروته، والمفرّطين في استقلاليته، ومنتهكي كرامته، ومفسدي حياته اليومية.

عبقرية الثورة في سلميتها، وأي اعتداء على ممتلكات الدولة هي سرقة من ممتلكات الشعب الذي سيدفع ثمنها من عَرَق أبنائه، وتحطيم المحلات وسيارات الشرطة واستخدام أسلحة نارية أو بيضاء لا يمكن فهمه إلا أنه من قوى معادية لمصر، ومناهضة للثورة، ومتعاطفة مع الطاغية المخلوع.

محاكمة مبارك باطلة ما لم تتحول إلى محاكمة طاغية ورجاله على عصر كامل يمتد لثلاثة عقود، وجرائمه لا يمحوها نفي بعض القادة أنه أعطى أوامر أو أنهم لم يحضروا الاجتماعات ولم يتناهى إلى أسماعهم رتوش كلام، فالثورة أكبر وأعظم من أن تنتهي هكذا، كأنها ضحت بشبابها، وأخرجت مصر كلها عن بكرة أبيها لجريمة سرقة أبقار أو عجول أو سيارة قديمة.

إنه وطن من أغلى الأوطان، ومركز الثقل في المنطقة، ورأس التسامح الديني في أفريقيا والعالم العربي.

عندما نطلب مساعدة مالية أو قرضا ونغض الطرف عن مليارات من أموالنا في بنوك خارجية فنحن نستحق الوضع الكارثي الذي تتوجه إليه مصر.

الاستقرار لن يحدث إلا بعد تحويل المحاكمة من جنائية بسيطة إلى محاكمة نظام ارتكب آلاف الجرائم التي تكفي الواحدة منها للف حبل المشنقة حول عنق مبارك .. وكل الذين ساندوه.

إنهم يراهنون على أن الغضب المصري لن يحرك جناح بعوضة، وأنهم مستمرون في قوانين الطواريء، واعتقال الأبرياء، ومحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، والعسكريين ورأس النظام الفاسد أمام محكمة مدنية.

فلتنته كل الشعارات الأخرى، وأخصّ منها الشعارات الدينية التي يمكن أن تعود مرة ثانية أو ثالثة عندما تعلن الثورة أنها نجحت نهائيا، وأن هناك حكومة مدنية منتخب رئيسها كنتيجة لتصويت عادل ونزيه وشفاف.

إن استعراض القوى الدينية في وضع ترتيبات السياحة والبنوك والتهديد بالهجوم على الكنائس واشتراط التمييز في مناصب الدولة وفقا لخانة الديانة في البطاقة الشخصية، ثم النفاق المصطنع باعتبار المجلس العسكري خطاً أحمر في مقابل مساحة أوسع لتلعب فيها على الساحة السياسية لن يؤدي إلا إلى عودة مبارك وتحويل مصر الآمنة إلى ساحة يمنية ليبية سورية.

الآن .. الآن فقط يعرف كل من يحب مصر ماذا يفعل، وإلى من ينتمي؟

المتفرج كالمتواطيء، والصامت كالمتآمر، والمنفصل بأيديولوجيته وعقيدته كالمنحاز لوطن منقسم ومجزء، والمؤيد لمحاكمة مبارك عن جرائم عام 2011 فقط كمن يتعاطف مع نهب وطن لثلاثين عاماً.

الطائفية لها صور عدة ووجوه كلها قبيحة، ومن يرى أخاه المصري كأنه الآخر لاختلاف في العقيدة أو المذهب أو الجماعة أو التوجه الفكري كمن يفتح جبهة حرب داخل الوطن تصب في النهاية لصالح الطاغية مبارك.

أعمى البصيرة فقط هو الذي لا يرى المشهد المصري ومبارك يتحكم فيه وهو على الفراش، فانقذوا ثورتكم العظيمة، ولا تخونوا شهداءكم الأبرار، واسدلوا الستار على هذه المسرحية السخيفة، ولا تكترثوا للشهود الكبار في جلسة سرية مغلقة يديرها قاض أصغر من أن يمثل عدالة لقضية وطن و .. عصر.

الشهود المعتمدون الذي يمكن احضارهم هم ثمانون مليوناً بالتمام والكمال، والثورة قامت من أجلهم، ومن أجل آبائهم الذين رحلوا ولم يشاهدوا نهاية الطاغية.

ثورة مصر الشبابية تــُجـِبّ ما قبلها، وتقف فوق رؤوس الجميع، وتأمر ولا تؤمر، وهي السلطة الأولى والوحيدة حتى يستتب الوضع، ويعود المصريون وشبابهم إلى بيوتهم وأعمالهم وجامعاتهم.

لا لسرقة الثورة لحساب أي جهة، ولا لتأجيل الحكم على المجرم حسني مبارك وابنيه، ولا للعفو غير المبرر عن السيدة سوزان مبارك، وإذا لم يلتف حبل المشنقة في وقت وجيز حول أعناق مبارك وولديه والعادلي وزكريا عزمي وصفوت الشريف وأحمد فتحي سرور وأحمد عز وغالي وحسين سالم فقل على الثورة السلام وترحم على 25 يناير!

المشهد المصري القادم هو التصويت الوحيد العملي في حب مصر أو كراهيتها، وخروج المصريين كلهم، بدون استثناء، واختلاط اللونين الجميلين، الهلال والصليب، رجال الدين الاسلامي والمسيحي، سيعيد لثورة مسروقةٍ بهاءَها ورونقـَها وعظمتــَها.

المشهد المصري القادم يحتمل واحداً فقط من اثنين: إما أن نحتفل بنجاح ثورتنا المسالمة، ومساواة الفرحة بين الجميع مهما كانت انتماءاتهم، وإما أن يبصق علينا مبارك كما فعل طوال ثلاثين عاماً.

من لا يغضب لمصر الآن فلن يغضب لأهله ولأولاده ولكرامته، ولا حاجة للـه في صلاته وصيامه، ولا حاجة للمساجد والكنائس في مؤمنين جبناء يبيعون الدنيا والآخرة بثمن بخس.

الغضب هو حالة حب الوطن الوحيدة التي تخترق حُجبَ السماء، ويرضى اللــه بها صلاة مشفوعة برحمته وعفوه.

حماية الثورة وحماية مصر والتعجيل في اصدار الحُكم العادل على عصابة مبارك، كلها وجوه واحدة للتطهر المصري، والدعاء إلى اللـه أن يرحمنا لصمتنا ثلاثين عاما، ثم لسذاجتنا عندما فرّطنا في أعظم ثورات العصر.

أيها الشباب المصري الوطني الثوري الرائع،

لم تنتقص سرقة ثورتكم من محبتي وتقديري واحترامي وفخري بوعيكم الأصيل، فتوكلوا على اللــه، فما اشد حاجة مصر إليكم الآن أكثر من أي وقت مضى.

وسلام اللــه على مصر.

 

محمد عبد المجيد

طائر الشمال

أوسلو في 26 سبتمبر 2011

Taeralshmal@gmail.com

 

 

 

 

 

اجمالي القراءات 10614