عبدالله بن سبأ بين الواقع والخيال
عبدالله بن سبأ بين الواقع والخيال

وداد وطني في الجمعة ٢٦ - أغسطس - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

عبدالله بن سبأ بين الواقع والخيال

دراسة تأريخية تحليلية على ضوء آراء العلماء والباحثين

 

اخوكم/ وداد وطني

 

إقتنيتُ كتاب (عبدالله بن سبأ بين الواقع والخيال) لسيد خسرو شاهي، في شهر يوليو عام 2011، في طهران، حيث كنتُ في رحلة أثرية، علمية، سياحية الى ايران.

مُذ اقتنائي الكتاب كنت أرغب في عرضه مفصّلاً على حلقات ليعم النفع. فمواضيع الكتاب جديرة بالقراءة حقيقة. أرجو أن أكون موفقا في نشر حلقات الكتاب بمنتهى الدقة والأمانة. الكتاب من إصدار المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية/ المعاونية الثقافية. وقد لخّص المؤلف في ظهر الغلاف الخارجي الغرض من كتابه، ومنهجه، والخطة التي بنى عليها كتابه، وفي ذلك ما يعطي القارئ طرفاً من مقصود الكتاب، حيث يقول:

(شكّلت عقلية الماضي التي تهيمن على تصوّرات بعض المسلمين اليوم أزمةً كبيرةً حالت دون تناولهم مفاهيم الإسلام ودروسه وأصوله وتأريخه تناولاً صحيحاً، ومن جانب آخر شكّلت أيضاً أزمةً في التعامل مع «الآخر» من حيث قبوله والتعايش معه. وتتجلّى هذه الأزمة اليوم في ذلك الصدام المفتعل بين الشيعة والسنّة على أساس قضايا مزعومة هي من خلق الماضي، لاصلة لها بالحاضر، وعلى رأس هذه القضايا قضية «ابن سبأ» وماتمّ ربطه به من أحداث ومفاهيم ومعتقدات هي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. ولقد سقط الكثير من الباحثين المعاصرين ممّن سلّموا أنفسهم لعقلية الماضي، ضحية هذه الشخصية المزعومة، وقام ببناء صرح من المفاهيم والمعتقدات على أساس هذه الشخصية لكنّه كان صرحاً من الرمال، لم يصمد طويلا أمام رياح الواقع. كانت شخصية «ابن سبأ» من صنع بعض كتب الفرق بعد سنة 310 هـ على ما سيتبيّن للقارئ من خلال هذا الكتاب. واعتماداً على عقلية الماضي لم يبذل الباحثون القدر الكافي من الجهد العلمي والمنهجي حول هذه الشخصية المزعومة، بل تلقّفوها من الماضي كما لو كانت نصّاً صريحاً متواتراً، وكان الأجدر بهؤلاء أن يتحلّوا بالموضوعية والعدل الذي هو روح الإسلام وأساسه قبل تبنّيهم هذه الشخصية الخيالية ودفاعهم عنها، ذلك الموقف الذي تسبّب في إثارة الشبهات حول قطاع كبير من المسلمين، والتشكيك في معتقداتهم، ممّا نتج عنه إثارة الفرقة والشقاق بين هذا القطاع ـ المتمثّل في الشيعة ـ وبين قطاعات المسلمين الأخرى)

 

ويقول ايضا: (هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو كتاب عبد الله بن سبأ بين الواقع والخيال لم نعمد فيه الى تهشيم العناصر الصحيحة لهذه المفردة التأريخية، كأن نتناول عنصراً سلبياً يضرّ بالحالة الاسلامية والتراث الاسلامي المجمع عليه، بل حرصنا على تناول هذه المفردة التأريخية من خلال عناصرها المختلفة، والانطلاق في بحثها من منطلق المصلحة الاسلامية العليا، وحفظا للأمانة التأريخية، بغض النظر عن الهوية المذهبية الخاصة للسنة أو الشيعة، وإنما من خلال خطاب العقل الاسلامي المحسوب على الاسلام، الحامل لهموم الرسالة).

 

ولا شك أنّ عبد الله بن سبأ شخصية مثيرة للجدل، ظهر ـــ كما جاء في وقائع التأريخ ــ في زمن الخليفة عثمان بن عفان، ونسب إليه البعض دوراً هاماً في الفتنة الكبرى. ولأن الموضوع متشعب وكثرت فيه الأبحــاث التي تطرق اليها بالدراسة والمتابعة الكثير من الباحثين من المسلمين والمستشرقين، فقد إرتأيت تناول آراء ثلة من البحّاثة وبعض الكتّاب قبل الشروع في نشر الدراسة التحليلية لخسروشاهي، وعرضه مفصّلاً ومسلسلاً في صفحتي..

 

وفي البداية أتطرق الى رأي الاستاذ الدكتور احمد صبحي منصور، بخصوص هذه المسئلة، فهو ينظر ويجنح ــ ان لم أسيء الفهم ــ في دراساته التأريخية، بصفته كباحث ومفكر في الالهيات والاسلاميات إلى إثبات أن "عبد الله بن سبأ" شخصية حقيقية تاريخية، هكذا يبدو من خلال كتاباته، يؤكد فيها حقيقة ابن سبأ التأريخية.

 

يُنظر في فتواه المُعَنْوَن: "الزواج من الكتابي" على الرابط التالي:

 

http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_fatwa.php?main_id=372

 

يقول فيها: (ويلفت النظر ان أولئك الذين سماهم القرآن باليهود والنصارى أمر عمر بن الخطاب فيما بعد باخراجهم من الجزيرة العربية خصوصا اليمن ونجران فتحايلوا باظهار الاسلام، وهم الذين تسببوا فى الكيد للمسلمين فى موقعة الجمل وصفين، وهم أرباب فرقة التشيع (رائدهم عبد الله بن سبأ) وأرباب ما يعرف بالسنة (كعب الأحبار استاذ ابي هريرة، ووهب بن منبه وأخوه وقبلهم ابن سلام).

ويقول في تعليقه على "المهدي المنتظر" (والسبب أن نشر هذه الفكرة بدأ مبكراً مع خلافة (علي) فيما زعمته السبئية الأولى بزعامة عبد الله بن سبأ).

 

وفي صدد تعليق له على مقاله القيّم (السلفية: الجذور.. والشرور) يقول:

(إن التشيع كدين أرضي له جذوره الفارسية التى أصبح فيها (علي وبنوه) جزءا من الدين الشيعى يتمتع بالتقديس بينما أصبح خصومه السياسيون (أبو بكر وعمر وعثمان والزبير وطلحة.. الخ) رموزا شيطانية. سبق هذا وجود تشيع سياسى لدى بعض الصحابة الذين ساندوا حق علي فى الخلافة ضد أبي بكر وعثمان ومعاوية، وكان أبرز أولئك الصحابة عمار بن ياسر والمقداد بن عمرو. وسبق ذلك دعوة اليهودى عبد الله بن سبـأ فى تأليه علي وتكوين السبئية الأولى، ولكنها توقفت عند تأليه علي دون التبري من خصومه. جاء التحول الى التبري والتولي معبرا عن الثقافة الفارسية الدينية فى وجود الاهي الخير والشّر والنور والظلمة، بينما اندثر التشيع السياسي البسيط وتوارت السبئية الأولى في متحف التاريخ).

وللدكتور عبدالرحمن بدوي، كلام يطول شرحه عن شخصية عبدالله بن سبأ والسبأية؟ وهو من المثبتين أيضاً لشخصية ابن سبأ في كتابه الضخم العُباب: "مذاهب الاسلاميين ـــ القسم الثاني: الاسماعيلية، القرامطة، النصيرية" ولكي يعمّ النفع يُرجى قراءة صفحات 28، 29، 30، 31، 32، 33 الى 40 من الجزء المذكور. هناك تجدون كيفية التحليل والتعليل وشرح العلامة بدوي للمسئلة. يقول في بداية ص 31:

(نرى نحن أن هذا هو الأقرب إلى المعقول، وأن عبدالله بن سبأ شارك ــ سرّاً وعلى استحياء ــ في هذه الفتنة، ثم لما تولى عليّ الخلافة كان من أشد أنصاره تحمساً، ولا بد أنه بدأ ببث أفكاره الخاصة بأحقية عليّ في الخلافة، ليس فقط من عثمان، بل ومن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، على أساس أنه "وصيّ" النبي كما كان يوشع بن نون وصيّ موسى. ومن الواضح أن ابن سبأ قد أتى بكل الجهاز العقلي الذي كونته لديه اليهودية، خصوصا في صورها الممزوجة بالمسيحية المنحولة عند الفلاشا، يهود الحبشة، وراح يطبقه على الاسلام).

وتحت بند "ما هي مباديء السبأية؟" ص 32، 33،

يقول العلامة بدوي: (كان لعبدالله بن سبأ إذن دور قويّ في الأحداث السياسية التي بدأت بالتآمر على عثمان بن عفان فقتله وانتهت بصراع علي بن أبي طالب لتثبيت خلافته. فما هي حقيقة مذهبه؟ أشرنا الى ما أورده الطبري من أن عبدالله بن سبأ (ابن السوداء) قال إن عليا وصيّ النبي محمد، وأنه خاتم الأوصياء، وأنه سيرجع الى هذه الدنيا).

وفي ص 38: (ونحن هنا بإزاء شخصين مختلفين وإن اتفقا في المذهب والسيرة، أحدهما: عبدالله بن سبأ، وبحسب هذه الروايات التي أسلفناها: كان في الأصل يهوديا من اليمن؛ والثاني: عبدالله بن السوداء، وبحسب هذه الرواية الأخيرة كان في الأصل يهوديا من أهل الحيرة... ـــ الحديث لبدوي ـــ لكن الشعبي، المنقول عنه هذه الرواية الأخيرة يتحدث عنهما معا في نفس الموضع على أنهما شخصان مختلفان اتفقا على شيء واحد هو التشيّع لعلي والغلو فيه؛ لهذا ليس من السهل القطع برأي في هذه المسئلة، بحسب مصادرنا الموجودة حتى الآن. وإن كنا نميل إلى أنهما شخص واحد، لأن عبدالله بن سبأ يقال إن أمه سوداء، فمن اليسير أن ينعت بأنه عبد الله بن السوداء).

وفي ص 39 يقول: (وإذا استقرينا هذه الروايات عن عبدالله بن سبأ نجد أن غلُوّه في عليّ مرّ بدوريْن: دور أثناء حياة علي، ودور آخر بعد وفاته).

الدكتور بدوي، والدكتور صبحي، يؤكّدان حقيقة هذه الشخصية التأريخية. وجُلّ الكلام مُنصبّ في حلقة الحسم والثبوت والتسليم. فهما يؤكّدان وينسبان الدور الفعال لابن سبأ في التأريخ من الأحداث والوقائع والحروب واشتعال الفتن وإحداثها.. كأنّنا أمام شاشات السينما ننظر الى شخصية شبحية اسمه "سَبَأْمان!" الأخ غير الشقيق لــ "سوبرمان" الخارق، الذي لا وجود له الاّ في الهوليود!!

راجعوا سلسلته السلسة وكتابه الضخم العُباب: (مذاهب الاسلاميين ـــ القسم الثاني: الاسماعيلية، القرامطة، النصيرية) للدكتور بدوي "رحمه الله تعالى"، فهو جدير بالقراءة حقيقة..

 

وبعكس الرأيين السالفين، نشر د. عبد العزيز الهلالي، أستاذ التاريخ الإسلامي، دراسة مستفيضة وبحثا قيما عن  إبن سبأ، قام فيه المؤلف بتحليل روايات الإخباري (سيف بن عمر التميمي) عن دور "عبد الله بن سبأ" في أحداث الفتنة الواقعة في خلافة (عثمان وعلي). وانتهى بحثه إلى أن تلك الروايات مختلقـة ولا أسـاس لها من الصـحة!! ثم أورد النصوص عن (السبئية) في بعض المصادر المتقدمة فأوضح أنه من خلال استخدامها في تلك الـمصادر لا تعني جماعة لها عقيدة دينية أو مذهب سياسي محدد، وأنها أطلقت على أناس مختلفين، وكان يقصد بها في كل الأحوال الذم والتعيير، وبعد أن ناقش أقوال الباحثين المعاصرين وآراءهم من عرب ومستشرقين خلص في بحثه إلى أن ابن سبأ شخصية وهمية، وأن الدور المنسوب إليه في إثارة الأحداث وتسييرها دور مزعوم.

 

هذا البحث الذي كتبه الهلالي، يعتبر أحدث دراسة مستقلة أفردت عن ابن سبأ حيث نفى في بحثه وجوده، وأنه في رأيه لا يعدو أن يكون مجرد خرافة سطرتها كتب التاريخ والفرق!! وهذا ما خلص اليه في بحثه:

(("والذي نخلص إليه في بحثنا هذا أن ابن سبأ شخصية وهمية لم يكن لها وجود، فإن وجد شخص بهذا الاسم فمن المؤكد أنه لم يقم بالدور الذي أسنده إليه سيف ــ المؤرخ الذي تحدث عنه ــ وأصحاب كتب الفرق لا من الناحية السياسية ولا من ناحية العقيدة" (ابن سبأ ص 73).

وإذا أخذنا بهذا الافتراض، إذاً "ابن سبأ" شخصية وهمية وما ذكره من نبوة جاءت في التوراة هي نبوة وهمية لأنها غير موجودة وهي قول وهمي لشخص وهمي عن نبوة وهمية ولا تبني العقائد على أوهام)).

يُنظر كتاب "عبد الله بن سبأ شخصية مثيرة للجدل" د. فريز صموئيل..

 

أما الكاتب الاردني "تيسير خروب" فقد أدلى بدلوه، لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء، واصفا كون ابن سبأ شخصية من عامة المسلمين وأنّ أمره الى الله.

يقول في مقال له بعنوان:

"عبد الله بن سبأ.. بين الاسطورة والواقع":

(نلاحظ مما سبق اختلاف الرواة والمؤرخين في اصل ونسب ابن سبأ هل هو عن غفلة وعدم دراية به وبأصله ونسبه وموطنه من قبل المؤرخين؟ لطول الفترة التي انقضت على تلك الفتنة وتأخر التدوين وكتابة التاريخ الاسلامي الذي بدأ تقريبا في العصر العباسي الاول والذي لم يخلوا ايضا من التحريف والتزييف والاهواء وكتابة ما يريده السلطان. ام عن قصد وتعمد لالصاق تهمة ما حدث الى شخصية اسطورية. تارة يقودنا الحدث والنتيجة الى تصديقها. وتارة يبعدنا الخيال والتشتت الى استبعادها وفي النهاية اسقاطها من حساباتنا).

(وأخيرا لا أقول ان ابن سبأ كان اسطورة خيالية ولا شخصية وهمية وانما كان رجلا من عامة المسلمين "أمره عند الله". لم يكن له دور ذو شأن فيما حدث هناك ولم يكن ذا خطر كالذي صوره ونقله لنا المؤرخون وصوروا حركاته وعظموا خطره إنّما هو شخص ادخره خصوم المعارضين وكانوا يشكلون عامة المسلمين فاتخذت هذه الخصومة ألواناً وأشكالا من الجدل والاجتهاد والفتوى كثر في بعضها المكر والكيد والتحاسد والبغض والاختراع. فنرى اهل الشام يكذبون اهل العراق واهل العراق يكيدون لهم ويتربصون لهم للايقاع بهم. وبقيت هذه الخصومة مع مضي الزمان وبعد العهد ليصبح التحقق من الوقائع بات عسيرا. فالذين استباحوا لانفسهم ان يضعوا الاحاديث على النبي "صلى الله عليه وسلم" لا يتحرجون من ان يستبيحوا لانفسهم وضع الاخبار على اهل العراق واهل الشام ونيل كل طرف من الطرف الاخر ما ينقص من مكانته ويضعف شأنه ويجعله الفئة الباغية التي تحدث عنها نبينا محمد "صلى الله عليه وسلم" وأخبر عنها اصحابه من حوله.

وقد اسهب القصاص والحكواتية في الاماكن العامة والخاصة وفي مجالس سمرهم يتحدثون عن الفتنة فيطلقون العنان لخيالهم ويتركون ألسنتهم على سجيّتها ويتعصبون لقبائلهم من العرب ولعلهم كانوا يبيعون الرضى بالمال فيأخذونه من اولئك وهؤلاء ليحسنوا ذكرهم ويعظموا شأنهم ويزيدوا لهم من المآثر ما كان وما لم يكن ويرووا في هذه المآثر من الشعر ما قيل وما لم يقل.

ومن ناحية اخرى ما كان اصحاب الجدل يستندون اليه من اخبار الوقائع السابقة يؤيدون بها مذاهبهم وآراءهم فيزداد الامر تعقيدا وعسرا لانه يتصل بالدين والعقيدة فالجدل بين الفرق لم يكن عند القدماء جدالا في امور الدنيا وانما كان جدالا في اصول الدين وفيما ينبني عليه من الفروع فكان من اليسير والهيّن ان يتهم المجادلون خصومهم بالكفر والفسق والزندقة والالحاد وان يشنوا عليهم ما شاء الله مما يتوفر لهم من احاديث وابتكار ما يخدم قضيتهم وجدالهم). انتهى كلام خروب.

 

ولابراهيم عيسى، الكاتب الاعلامي، مقال منشور في موقع اهل القرءان، بعنوان: "نظرية عبدالله بن سبأ" وهو من المتشككين والمترددين في إثبات ونفي شخصية عبدالله ابن سبأ، بل ومن المنكرين لهذه الشخصية كما يبدو ويظهر في نهاية مقاله! يقول فيه:

(هي إذن مأساة عبد الله بن سبأ مرة أخرى. وهو لمن لا يعرفه، عبد الله بن سبأ، يهودي من أهل صنعاء، أسلم في أيام عثمان، ثم جعل يتنقل - كما تروي الكتب- في الأمصار يكيد لعثمان، ويغري به، ويحرض عليه. وإلى ابن السوداء ينسب كثير من الناس كل ما ظهر من الفساد والاختلاف في البلاد الإسلامية أيام عثمان. ولاحظ أن كل هذه الأمور والمؤامرات تجري في عز وجود صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بينما رجل واحد يتحدث المؤرخون عنه بمنتهى العنصرية فيطلقون عليه ابن السوداء، يستطيع أن يكون سوبرماناً خارقا! ويبث الفرقة والفتنة بين الصحابة.

هناك فريقان في التاريخ الإسلامي، فريق أكبر وأوسع انتشارا يؤمن بوجود هذا الرجل الخارق الذي أظهر الإسلام وأخفى اليهودية في صدره (تفتيش للقلوب واضح) وهو الذي صنع الفتنة بين الصحابة وراح ضحيتها عشرات الآلاف من الصحابة والتابعين والمسلمين الأوائل الذين استسلموا لاختراق ابن سبأ ولم يتمكنوا من مواجهته ومعاقبته بل انضم إليه الآلاف، وصار خلف أفكاره الآلاف، ونفذ أهدافه بمنتهى الدقة الآلاف، وقتل آلاف من المسلمين آلافا آخرين دون أن يدركوا أن وراء كل هذا رجلا واحدا يمكن أن يحبسوه أو يقتلوه لكنه خدع الأمة الإسلامية كلها في توقيت كان العظام الأوائل هم القائمون على إدارة الأمة كلها!

 

الفريق الآخر من المؤرخين ينكر وجود عبد الله بن سبأ أصلا ويرى أنه شخصية وهمية اخترعها المؤرخون من أجل تبرئة المسلمين من إشعال حرب أهلية وفتنة كبرى بينهم وتحميل يهودي واحد مسؤولية كل هذه الدماء المراقة والاغتيالات الكبرى، ومن هؤلاء الذين لا يعيرون وجود ابن سبأ اهتماما الدكتور طه حسين الذي يقول في كتابه «الفتنة الكبرى»: "ويخيل إليَّ أن الذين يكبرون من أمر ابن سبأ إلى هذا الحد، يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافا شديدا.. وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم وسلطانهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيام عثمان. فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والاحتياط، ولنكبر المسلمين على أن يعبث بدينهم وسياستهم وقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء، وكان أبوه يهوديا وكانت أمه سوداء، وكان هو يهوديا، ثم أسلم لا رغبا ولا رهبا، ولكن مكرا وكيدا وخداعا، ثم أتيح له من النجاح ما كان ينبغي، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه".

 

لكن الذين يرون أن ابن سبأ وراء الفتنة الكبرى من عصر عثمان بن عفان "رضي الله عنه" إلى أحداث مسرح البالون في العجوزة ألا يسألون أنفسهم: وأين نحن من هذه الفتن؟ وكيف يضحك علينا ابن سبأ هكذا منذ مئات السنين.. ربنا يهد.. وربنا يهدي).

انتهى كلام الاعلامي الصحفي ابراهيم عيسى.

 

ومن المنكرين والمتشككين والمترددين في إثبات ونفي شخصية عبد الله بن سبأ، إن لم تخنني ذاكرتي، د. محمد عمارة.

يُنظر كتابه "الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية".

 

وفي ختام هذه المقدمة وبعد استقراء آراء ثلة من البحّاثة والكتّاب عن حقيقة هذا (الوجود الخيالي) كما تؤكده "الروايات" التاريخية حسب الأحداث والوقائع! حيث سار على هذا النهج كثير من المحققين والباحثين المحدثين.

وعلى أية حال ليس في العلم منتصر ومهزوم اذا صحت النية فالهدف هو الحقيقة. وهذا النقد لـن يفيـد مَنْ عنده الأحكام المسبقة لكنّه سيفيد من يريـد البحـث عن الحقيقة.

 

والآن نشرع في دراسة المصلح المعروف خسروشاهي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1)

 

كلمة المركز

 

لا مراء أنّ من أشدّ أنواع المعاناة التي تتعرّض لها الشعوب والأُمم في الفترات العصيبة والشاقّة من حياتها، هو ذاك التنافر الشديد في الرؤى الفكرية والعقائدية الذي يبلغ حدّاً يعطّل فيه توازن المجتمع، وتشلّ حركته، لما يسيطر فيه من حدّة وتعصّب يصلان في أحايين كثيرة إلى مستوى التكفير والتجريم الذي يمارسه كلّ طرف على غيره، ويضحى «العنف» وسيلة الإقناع الوحيدة للآخرين! ويمكن تصوّر كم ستكون الكارثة مروّعة حينذاك!!

 

فالمغلوبون سيفضّلون الانسحاب إلى الوراء، فيدخلون عالماً أقلّ ما يوصف بالإحباط واللامبالاة القاتلين، وأمّا المنتصرون فسيضحون أسيري قوّتهم التي تقودهم إلى عالم من الزهو والملل، وعندئذ ستخلو المواقع من الرجال، ويصبح المجتمع بلاحول ولاقوة تحميه أو تقوده إلى برّ الأمان!

 

وضمن هذا السياق تدخل مسألة «البحث» و «النظر» في حوادث ومفردات تاريخنا الاسلامي الطويل، إذ أنّ البحث والتقصّي في قضايا وقعت في الماضي، وإعلان النتائج دون تمحيص أو إدراك لما يترتّب عليه من أُمور، قد يسبّب إثارة حفيظة «الآخرين» وغضبهم، فيستدعي ذلك إلى نشوء التوتّر، فالتنافر، ومن بعد سيصاب المجتمع كلّه بالعطب والعطل.

 

لكن هل هذا يعني مصادرة الأقلام، والامتناع عن تعاطي هكذا بحوث؟ يبدو أنّه لم يبرز مصلح أو مفكّر يدّعي هذا الرأي، فالجميع متّفقون على تعاطي التاريخ وحوادثه ومفرداته، لكنّهم اختلفوا في زاوية النظر. فمن نظرة قدسية لاتقبل تناول حوادث التاريخ إلاّ بالتقريظ، إلى أُخرى لاترى ضرورةً من تناولها في هذه المرحلة بالذات لئلاّ نثبّط عزائم المصلحين ومن يرون مبدأ التقريب، وهناك النظرة اللامبالية; لما يعود من أثر سيّئ على مسيرة الأُمة، فهي لا ترى في هذه المسائل إلاّ مجموعة مليئة بالأخطاء ينبغي تصحيحها، إذ أثرها وهي خامدة أكثر سلباً فيما لو أُثيرت عنها الغبار.

 

وهناك أيضاً النظرة التفاؤلية التي تتّخذ الموضوعية وسيلةً لحلّ هذا التنافر والاختلاف، والسعي إلى تقريب «القلوب» قبل «الأفكار»، انطلاقاً من مبدأ «احترام الغير»، ومحاولة ردّ دعواه بالدليل إن وجد، وإلاّ فلا طائل ممّا يراد منه. ذلك أنّه لايخلو شعب أو أُمة تمتلك تاريخاً ليس فيه أخطاء! فيتوهّم من يظنّ أنّ تفوّق الشعوب وتقدّم الأُمم إنّما جاء من ماضيها المقدس الخالي من الأخطاء والمآسي، أو جاء على طبق من ذهب، من دون عناء ومشقّة، أو تحرّج من تناول تاريخها بالنقد والمناقشة.

 

فإنّ ماضي الأُمم الغربية كان مليئاً بالأخطاء والتنافر اللذين أثمرا مآس لعدّة قرون تلت، ووصلت إلى حدٍّ مقرف ومخجل في أحيان كثيرة، لكثرة مامورست فيه من جرائم وجنايات، زُهقت أرواح كثيرة، وعُطِّلت عقول جبّارة بعنف وخشونة. ولا نظنّ أنّ سيرة محاكم التفتيش الاوربية المرعبة، وما اقترفته من جنايات مثيرة للقرف تخفى على أحد. وكيف كانت تجمع الناس على شكل طوابير وأرتال، ثم تصفّ في ساحات الاعدام، ثم يتمّ تصفيتهم بدم بارد، ليس لشيء إلاّ بسبب رفضهم تحويل أراضيهم إلى مراع كي تجد مصانع الغزل والنسيج حاجتها من الصوف!!

 

كما وأنّ قصة «غاليلو» وكروية الأرض معلومة لدى لجميع، لاحاجة إلى ذكرها أو التعليق عليها. فرغم هذه الأهوال التي تكاد لاتصدّق، لم تستسلم هذه الشعوب لما قدّر لها، وظلّت تقاوم بشموخ إلى أن استطاعت أن تخرج من هذه الأهوال بسلام، وتقبض على زمام الأُمور، تديرها عقول مدبّرة ومُصلحة، بعيدة عن روح الانتقام والتعصّب، أو توزيع التُهم بالمجّان، وبدلا عن ذلك راحت تدرس جميع الآراء، وتحلّل كل القضايا بروح علمية وموضوعية محضة، ثم تستخلص منها الدروس والعبر، وتقدّمها للأجيال المتلاحقة التي استوعبت الدروس بدقّة، وتعمل وفق ما تمليه عليها المصلحة، فامتدّ نفوذها في كل أقطار الدنيا الوسيعة.

 

لقد أدركت هذه الشعوب أنّ ماضي أيّ مجتمع هو كحاضره، وليد بيئة اجتماعية معقّدة، وفي ظلّ ظروف سياسية واقتصادية متقلّبة، يستحيل معها أن لاتكون ثمّة أخطاء هنا وهناك، وانحرافات في هذا الجانب أو ذاك. لكن هذا لايعني وجوب إثارتها بشكل سلبي بحيث يعود ضررها على الناس جميعاً أو الدين نفسه، وهو ماترفضه مصلحة الاسلام العليا. وأمّا الذين يرون عكس ذلك فهم واهمون حقّاً!

 

صحيح أنّه ليس من العدل ترك من يحاول أن يجرّ مركبة الاسلام بعيداً عن ساحل الأمان والسلام، وصحيح أيضاً أنّه ليس من المصلحة التجرّي والقفز على الموائد للقبض على أولئك الشرذمة من «المتفقّهين» الجّهال، وإلحاق الضرر بهم باشعال النار فيهم وبالمركبة معاً مثلا!!

 

فالمصلح الغيور، والداعية المتديّن، وإلى أىّ مذهب ينتمي، ينبغي عليه أن يتذكّر شيئين من قبل أن يخوض غمار عمله: الأول: أنّ لكل مذهب أو طائفة تاريخاً حيوياً يضرب جذوره في الأعماق، إلى درجة نعتقد معها أنّه يصعب شطبه. يودّ كلٌّ منهم أن يلاقي احترام الغير له، وألاّ يستمرّ «الآخرون» في المساهمة في الإنقاص من مكانته، وقدسية انجازاته، بالانسياق وراء الأفكار والادّعاءات التي تحاول أن تجرّده من كلّ ابداعاته الفكرية والأدبية والإنسانية التي قدّمها في سبيل رفعة هذا الدين وسمّو الأُمة الكبيرة.

 

الثاني: أنّ ماضينا الإسلامي بكلّ تنوّعاته ـ في النجاحات كما في الإخفاقات ـ هو ملك لكلّ أفراد الأُمة، وليس لأىّ أحد منّا أن يستأثر بالجيد، ويتنصّل من السىّء. وتأتي هذه الملكية للتاريخ من فكرة أنّه لايستطيع أىّ فرد إثبات أنّ سلسلة أجداده كانوا في اتجاه واحد، ولم يكونوا في اتجاهات متضاربة. ومن هنا نجد أنّه ليس من مصلحة أىّ فرد عاقل أن يتناول تاريخ أىّ فرقة من فرق دينه المشهورة والمعترف بها من زاوية «كيدية» لأنّه يكون حينها كمن يتناول نفسه، ويبصق في وجهه! وطبيعي لايقبل بهذا الفعل سوى المجانين!!

 

لذا نرى أنّ قراءة الماضي ينبغي بالضرورة أن تتحلّى بالموضوعية العلمية المحضة، وتتخلّى عن الاندفاع باتّجاه إثارة حفيظة «الآخرين»، لأنّه السبيل الوحيد الذي يضمن سير العملية التكاملية لأُمتنا المجيدة، ويدفع كلّ الطوائف إلى المشاركة الفعّالة من أجل إعلاء كلمة الإسلام عالياً. وهذا الكتاب الذي يرقد بين أيدينا، يعدّ من الكتب التي تخطّت الأزمنة بجرأة، ولامست مواضيع حسّاسة بموضوعية جديرة بالتقدير، قدخطّته يراعة الأستاذ والمصلح المعروف سيد هادي خسروشاهي، فتناول فيه بالدراسة والتحليل والمناقشة لمحطّة مهمّة من محطّات تاريخ التشيّع، بمنطق علمي سليم، ولغة سامية تترفّع عن المنهج الضحل، وأُسلوب يتمتّع بالرصانة والموضوعية، يأخذ مبدأ احترام الغير أساساً له.

 

فهو قد يكون مثيراً لتعاطيه جانب حسّاس طالما أثاره أعداء الدين وأهل البيت(عليهم السلام) ، لكنّه اكتسب إثارة أكبر في أُسلوب دفاعه وردّه بقلم جذّاب يشدّ القلوب قبل العقول، ينبض بالاحترام والحيوية. والكاتب رغم تركيزه على المحور الأساسي الذي يحمله عنوان الكتاب، وجهده الكبير في إبراز الجذور التاريخية لهذه «الأُسطورة» بصورة مختصرة، لكنّه يتعرّض إلى جوانب أخرى ترتبط بالمحور الأساسي; كالبحث الموجز عن الوحدة والتقريب، ومحاولة التعريف بالخطوة الأُولى على طريق الإخاء والوثام، ثم سلسلة ردوده الموجزة لبعض الشبهات التي أثارتها بعض المجلاّت... حيث ضمّها كملاحق للكتاب، قد تجلب المتعة والمنفعة في مواضيعها وطريقة عرضها الرشيق.

 

فهو بذلك ينقل القارئ من محطة إلى أخرى، تتخلّلها أزمنة متباعدة من الأحداث ما قد يكون جديداً لدى قسم كبير من القرّاء. إنّ هذا الأسلوب الرشيق الذي اتّخذه المؤلّف في كتابة بحثه الممتع، وما شحنه بدفء المحبّة للآخرين، إنّما يترجم نظرته التقريبية، ورغبته في التأكيد على ضرورة تعزيز الوشائج بين أوصال هذه الأُمة بجميع فرقائها، خاصة والأُمة تمرّ في مرحلة خطيرة ومثيرة.

 

وهذا مادعا المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية، من خلال مركزه العلمي، إلى تبنّي طبع هذا الكتاب ونشره بحلّة قشيبة تتناسب ومكانته، وجعله في متناول الجميع، سيّما ممّن يرغب في ضخّ الأُمة بالحبّ والأُلفة، وإرفادها بالقوة المستمدّة من التكاتف والوحدة ورصّ الصفوف أمام أعداء أُمتنا المرحومة.

 

ولايسعنا في الختام سوى تقديم الشكر والثناء للمؤلّف أدام الله عزّه، والتأكيد على نقطة مهمّة هنا، وهي أنّه من الأهمية بمكان أن نحافظ على هدوئنا ونحن نشهد مثل هذا النوع من الادّعاءات من أيّ جهة كانت، ونحاول أن نُعمل عقولنا في تتبّع وتفحّص دقيقين لما يُطرح من تُهم تمسّ كرامة أيّ مذهب إسلامي بارز، وهو يتمتّع باحترام وتقدير باقي المذاهب، ونحاول أيضاً أن نستخلص العبر كما صنعت الأُمم الأخرى التي تجاوزت هذه الحالة بنجاح، وبلغت في التقدّم شوطاً كبيراً، والله هو الموفّق والمعين.

 مركز التحقيقات والدراسات العلمية

التابع للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية

اجمالي القراءات 16433