الشارع العربي: ضرورة الانتقال من الثورة إلى الدولة

د. شاكر النابلسي في الأربعاء ٢٧ - يوليو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الثورات المتلاحقة في العالم العربي، أصبحت كالشرارة التي تتحول بسرعة إلى نار تفتك بالدكتاتوريات القروسطية، منذ الثورة التونسية في 18/12/2010، وانتهاء بالثورة الشعبية السورية في 16/3/2011، والحبل على الجرَّار، كما يقولون.

 

لا نريد من الثورة إحراق اليابس والأخضر

ولكن هذه النار، يجب أن لا تظل مشتعلة حتى لا تحرق اليابس من الدكتاتوريات القروسطية، وتحرق معه الأخضر من إيجابيات الأوطان كذلك. ومن هنا انطلقت في العالم العربي أصوات خافتة جداً، تحتاج إلى الالتفات، والتعقُّل، والإنصات منا، لكي تتعالى أصوات دعوة ضرورة الانتقال بالثورة من النار إلى النهر، ومن الهدم إلى البناء، ومن الشعارات إلى أرض الواقع، ومن الأحلام والأوهام إلى كدِّ الأيام ومعاناتها، حتى لا تتحول الثورات إلى أزمات ونكبات، كما سبق وقلنا. ولكي لا تتحول الثورات إلى (بعبع) يخيف الأنظمة القروسطية الأخرى، التي لم يصل إليها قطار الثورة بعد، ويمنعها من إنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل الغرق،  كما كان الأمر في أوروبا بعد إعدام لويس السادس عشر، عام 1793.

العقلاء  يبشرون ويحذرون

ولم يقتصر أمر دعوة الشارع العربي، إلى ضرورة الانتقال من الثورة إلى الدولة، والقيام بالمصالحة السلمية بين الفرقاء، وبناء الدولة الجديدة، على دعاة العقلانية في العالم العربي، وإنما امتدت هذه الدعوة إلى العقلاء السياسيين من خارج العالم العربي، وكان على رأس هؤلاء الزعيم الإفريقي، والمناضل العالمي نيلسون مانديلا.

 

العفيف أول من قرع النواقيس!

دعوة الشارع العربي لضرورة الانتقال من الثورة إلى الدولة بهدوء وبعقلانية، لكي لا يصيبنا ما أصاب باقي الثورات  في التاريخ، من أزمات ونكبات، جاءت أولاً من المفكر التونسي العفيف الأخضر، الذي رأى أن مصر – مثلاً- انتقلت من حكم "الحزب الوطني" السابق، إلى حكم "حزب الانتقام". وأصبح الشغل الشاغل للإعلام المصري – وربما لمعظم الإعلام العربي – هو:

 هل سيُحاكم مبارك ونجليه، أم لا؟

 وهل سيُحكم عليهم بالإعدام – ربما أو على الأقل على الرئيس مبارك – أم لا، حيث أن قرار الحكم بالإعدام قد صدر في الشارع المصري، قبل التحقيق، وقبل المحاكمة؟

وربما سيكون في جيوب القضاة، الذي سيحاكِمون هذه العائلة، نتيجة لضغط الرأي العام المصري، والشارع المصري، والإعلام المصري، الذي ردد مثل هذه الأحكام صبحاً ومساءً. وهو ما يذكرنا بمحاكمة لويس السادس عشر 1793، حين جرت المحاكمة، في مثل هذه الأجواء المشحونة بالانتقام، والتشفّي، والثأر، ورفض المصالحة. ومصر ليست هي الدولة الأولى والأخيرة التي يجري فيها كل هذا. فقد لاحظ المفكر التونسي العفيف الأخضر هذا الأمر في تونس أولاً. ودعا إلى الحذر مما سمَّاه "حزب الانتقام".  حيث يسعى "حزب الانتقام" من نقل الدولة إلى اللادولة، أو إلى "الصوملة". وحيث لغمالتوتر العالي بين الجهات، والاشتباك بين القرى، والاقتتال بينالأحياء لأقل شائعة، أو أتفه الأسباب، أو غيرها من مظاهر العنف، التي سيتكفل قانونالمحاكاة بتعميمها. أما اللغم الآخر، الذي لا يقل خطراً، فهو لغم عجز الحكومة المؤقتة،أمام إصرار "حزب الانتقام" على إفلاس الاقتصاد الوطني، عن إعادة البلاد إلى العمل،وهي قضية حياة اقتصادها، أو موته، واستقرارها، وبقائها كدولة صاعدة. و"حزب الانتقام" هذا، فقد الصلة بالواقع المحلي والدولي. وهو مصممعلى منع المصالحة الوطنية الشاملة، التي يعي أنها ستقطع الطريق على مساعيه لتحقيقالقطيعة مع استمرارية الدولة والنتائج الكارثية المترتبة عليها. وسلاحه اليوم هوتحريض الشارع على رفض العودة إلى العمل مستخدماً لهذه الغاية التظاهر المتواصل،لحماية الثورة من السرقة!

ويرى العفيف الأخضر، أن التحكم في العنف، يتمُّ من خلال احتكار الدولة وحدهاللعنف المشروع. ومن خلال توسيع قاعدةالنظام الاجتماعي بفتحه أمام النخب، والفئات، التي بقيت على هامشه. وكذلك من خلال توسيعحقوق المواطنة الكاملة للجميع.

 

"حزب الانتقام" الحاكم الآن!

وهكذا أصبح في مصر وفي تونس كذلك، حزب غير معلن، هو "حزب الانتقام"، كما قال العفيف الأخضر. وأصبح كل رأي مخالف لرأي الشارع المصري،تتم مصادرته، ويتم عقابه بشدة. وهذه هي دكتاتورية الثورة، وليست ديمقراطيتها. وكانت مطالبة الفيلسوف المصري مراد وهبة بوجوب إشراك المثقفين والمفكرين في ثورة 25 يناير، هدفه إبعاد الثورة عن طريقالديكتاتورية، الذي تمثَّل برفضها لكل نقد يوجَّه إليها، بحيث أصبحت معظم وسائلالإعلام المصري الحكومي والأهلي تتردد، وتخشى من نشر أو إذاعة ما يُبرز عيوبوسلبيات ثورة 25 يناير. والدليل ما حصل للكاتبة لميس جابر، التي أُحرق بيتها، وتوقفت عن الكتابة النقدية لثورة 25 يناير، في جريدة "المصري اليوم".

 

رسالة المناضل مانديلا إلى الثوار

أما المناضل العالمي، والبطل الأفريقي نيلسون مانديلا، فقد ردد في رسالته إلى الثوار العرب، الأفكار نفسها التي قال بها العفيف الأخضر. وكان أهم ما جاء في رسالته الى الثوار العرب:

  1. تساءل مانديلا، السؤال التالي المهم:

كيف سنتعامل مع إرث الظلم، لنقيم مكانه عدلا؟

فإقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم.

فالهدم فعل سلبي، والبناء فعل إيجابي.

والنظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية، أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير.

  1. إن الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس خاصة، يشير بأن معظم الوقت مهدرٌ في سبِّ وشتم كل من كانت له صلة تعاون مع النظامين البائدين. وكأن الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفّي والإقصاء. كما يبدو أن الاتجاه العام في تونس ومصر خاصة، يميل إلى استثناء وإبعاد كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بالأنظمة السابقة.وهذا أمر خاطئ. وتمنّى مانديلا على الثوار، أن يستحضروا قول النبي عليه الصلاة والسلام، عند فتح مكة:

 "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

  1. إن مرارات الظلم ماثلة. إلا أن استهداف هذا القطاع الواسع من المجتمع، قد يسبب للثورة متاعب خطيرة. فمؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام، وعلى مفاصل الأمن، والدولة، وعلاقات البلد مع الخارج. واستهدافهم قد يدفع إلى أن يكون إجهاض للثورة. وهو أهم هدف لأعداء الثورة في هذه المرحلة، التي تتميز عادة بالهشاشة الأمنية، وغياب التوازن.
  2. على "حزب الانتقام" في تونس ومصر، وفيما لو قام في ليبيا، واليمن، وسوريا، أن يتذكر أن أتباع النظام السابق في النهاية، هم مواطنون ينتمون للبلد. فاحتواؤهم ومسامحتهم، هي أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم في البحر، أو تحييدهم نهائياً. فلهم الحق في التعبير عن أنفسهم. وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة. وهذا ما قلناه في عدة مقالات سابقة. وكذلك قاله الفيلسوف المصري مراد وهبة، ثم صمت نهائياً عن الكلام حول ثورة 25 يناير. وقالته أيضاً الكاتبة المصرية الشجاعة لميس جابر، في مقالات عدة، نشرتها في جريدة "المصري اليوم"، ثم أُسكتت هي الأخرى.
  3. وأخيراً، وهذا هو المهم، فعلى الثوار العرب، أن يرسلوا رسائل اطمئنان إلى المجتمع الملتف حول الدكتاتوريات القروسطية الأخرى، من أن لا خوف على مستقبلهم في ظل الديمقراطية والثورة، مما قد يجعل الكثير من المنتفعين يميلون إلى التغيير، وهذا سوف يخفف من خوف وهلع الدكتاتوريات القروسطية الأخرى مما ينتظرها.

هذه العقلانية والواقعية السياسية هي التي قادت "جنوب إفريقيا" من احتمال حرب أهلية، إلى بر الأمان، والبناء، والاستقرار. كما أن هذه الواقعية السياسية – وهي واقعية مُرَّة كطعم الحنظل، مقارنةً بعسل الثورة – هي الطريق الأمثل – برأي العقلاء السياسيين والفلاسفة الثوريين من أمثال العفيف الأخضر، ونيلسون مانديلا – لتحقيق بناء الدولة الجديدة، في بلدان الثورة العربية.

اجمالي القراءات 8010