مصر بين عصرين
كيف نحقق إعادة بناء الإنسان المصري

محمد عبدالرحمن محمد في الثلاثاء ٢٦ - يوليو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

            

مصر في مرحتلها الراهنة، ليست هى مصر التي عرفها التاريخ في معظم مراحله،كلا ولا هى مصر التي سوف تكون، ــ بإذن الله ــ بعد حين لن يطول إذ هي في عصر يتوسط بين مصرين: مصر التي عهدناها، ومصر التي سوف نحياها.

 ومصر من حيث الثقافة والحضارة كانت مثلاً رائعا للبلد الذي يعرف كيف يحافظ على الأصول ويغير في الفروع، فقد ظلت مصر هى مصر دائماً، دون أن يحول ذلك بينها وبين أن تخلع عن نفسها حضارة ذهب زمانها، لترتدي ثوب حضارة جديدة، ومع الحضارة تأتي ثقافة، أو مع الثقافة تأتي حضارة، فالعلاقة بينهما هى علاقة الجسد والروح التي تحل فيه،الحضارة مجسدات والثقافة قيم وأذواق تسري في عروقها..

ومصر في عصرها الأول كانت فيه مبدعة الحضارة لنفسها ولغيرها، حتى أخذت حضارات أخرى تتوالى عليها، فلا تكاد تلتقي حضارة منها حتى تمسك بزمامها وتنزل منها منزل الصدارة، وهذا هو جانب من معنى عبارة نرددها بحق وصدق، إذ نقول عن مصر إنها "مقبرة الغزاة"،فهؤلاء الغزاة ومعهم غزواتهم، يفنون ويذوبون في أرضها لتحيا هى، وسر ذلك هو أن الغزوات غالباً ما كانت حاملات لحضارات مستحدثة، فوجدت في المصري إنساناً واثقا بنفسه وبتاريخه،  فيأخذ ما يتلقاه ويتمثله، وسرعان ما يبرع فيه حتى يحتل منه مكان الريادة والتفوق.

وهذا ما حدث في حالات اليونانية والرومانية والمسيحية والإسلامية، وكالذي أوشك ان يحدث شئ منه أمام الحضارة الحديثة وثقافتها، لولا نكسة انتكسناها  بسبب "الثقافة الوهابية" فولينا وجوهنا من الذعر نحو ظهورنا، وكأننا هممنا أن نجعل سيرنا إلى الوراء.. (للخلف دُرْ وسر).

 والسؤال الذي يطرح نفسه علينا جميعا،ونتساءل به:ماذا أصابنا؟

وهل يمكن أن نعود بالمصري إلى حيث كان؟

  إنه سؤال طرحته هيئات علمية، وطرحه أفراد وحاول الجميع مخلصين أن يجدوا الجواب، والسؤال يوضع ــ عادة ــ في هذه العبارة: كيف نحقق إعادة بناء الانسان المصري؟

 ومعنى ذلك ان هناك خللاً ما قد أصاب بناء المصري في شخصيته، فما هو؟ وكيف نعالجه ليعود المصري سيرته الأولى؟

  الاجابة تدور حول محور أساسي، هو أن مصر تجتاز اليوم مرحلة،  هى نفسها المرحلة التي يجتازها العالم كله فمصر تتعرض خلال هذه المرحلة لما يتعرض له العالم كله ــ من جهة ــ  ثم تنفرد وحدها بظروف خاصة بها ـ من جهة أخرىـ أما الجانب الذي تشارك فيه مصر سائرأقطار الأرض،المتقدم منها والمتخلف على السواء فهو القلق  الذي يسببه السير في طريق مجهول ،  

فعصرنا هذا منذ قيام الحرب العالمية الثانية بصفة خاصة  هو عصر انتقال بين حضارتين، عرفنا الأولى التي سادت الدنيا خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر وأما الحضارة الأخرى ... التي ننتقل إليها .. فلا نعرف عنها إلا بشائر ومقدمات. لكن تفصيلاتها لم تزل مجهولة،  انتقلنا من حضارة  كانت فيها الغلبة والسيادة للرجل الأبيض الأوروبي الأمريكي ، إلى حضارة بدأت كتابها بصفحة جديدة من حيث تلك السيادة اللونية، ولم يعد احد يجادل الآن في إزالة الفوارق بين الألوان، اللهم  إلا أن تكون تلك الفوارق مكتومة في الصدور.

إننا ننتقل إلى حضارة جديدة قائمة على أسس جديدة، لم نعلم من حقيقتها وطبيعتها إلا البشائر والطلائع، ، ومن أراد صورة مفصلة بعض الشئ عن تلك البشائر والطلائع فليقرأ كتابا ممتازا  في ذلك أصدره  الاستاذ الدكتور  حازم الببلاوي بعنوان " على أبواب عصر جديد"

ونحن في طريقنا لاجتياز  هذه المرحلة الانتقالية بين الحضارتين لا مفر لنا في مصر وغير مصر من سائر أقطار الأرض ــ عن التخبط في الطريق، إذ انبهمت  أمامنا الفواصل  بين الصواب والخطأ في كل الميادين.

وإلا ... من منا يستطيع القول وهو موقن مما يقوله: ما هو أفضل نظام للحكم؟ ما هو أفضل نظام في دنيا الاقتصاد؟ ما هو أفضل نظام للتعليم؟

وهكذا يمكنك المضي  بأسئلة كهذه عن كل وجه من وجوه الحياة الانسانية، فإذا نحن أمام عشرات الاجابات المتضاربة، والسبب واضح وهو:

  أن الانسان لم يعرف بعد طبيعة العصر الذي نحن في حالة انتقال إليه، فكأننا نعيش على تجارب نجريها كل يوم، تفشل تجربة فنجرب أخرى.

   هناك ضباب حضاري ـ هناك ويلحق به ضباب ثقافي ، تشارك مصرفيه مصر بقية العالم، لكنها تعود فتنفرد وحدها بظروف جديدة خاصة بها، لا أقول أنها ظروف تضيف إلى الضباب ضباب أكثثف، بل هى ظروف فعلت بنا أكثر من ذلك، لأنها مالت بنا نحو أن نترك المسيرة الحضارية بضبابها وصفائها ، لنرتد على أعقابنا  قافلين إلى مولد التاريخ.

ثم لم نكتفي بتلك الردة الحضارية العامة،فزدناها تخليطاً وعسراً، فزدنا الطين بلة بأن أقمنا نموذجاً جديدا للإنسان الناجح في حياته ، (والنجاح في قاموسنا القومي معناه منصب كبير أو مال كثير!) ويتلخص ذلك النموذج في برنامج سهل ومنظومة ميسرة على من اتسعت حيلته، وهو برنامج شعاره .. أكبرناتج ممكن، بأقل جهد ممكن، فلم يعد النجاح مكفولاً لمن يحملون الأثقال، ويحطمون الصخر، ويلهثون وتتفصد اجسادهم عرقاًً .. لا .. فتلك صور من الماضي .

  كان الخبراء الحكماء يضحكون على أبنائهم: بقولهم من طلب العلا سهر الليالي، أو ربما بقيت تلك الحكمة الخالدة مع تغيير في مضمون كلمة واحدة من كلماتها، هى كلمة "سهر"  وكان الذي أوحى بالشعار أمثلة لا تعد ولا تحصى، لأفراد بلغوا ذروة الجاه، إذا قيس الجاه بالمناصب ونفوذها، أو بلغوا ذروة من الثراء لم يكن أحد يسمع قبل اليوم بمثلها.

  ثراء المصري حتى الأمس القريب كان يقاس بعشرات الألوف أو بمئاتها، أما لغة الملايين والمليارات فلم تكن معروفة في اللغة العربية بأكملها، فالألف هو أقصة ما استعدت له لغتنا بإسم خاص ، لا بل إن الملايين الدخيلة على لغتنا قد أهينت، فاختير لها إسم الأرانب! وربما وصفوا المليارت بالأفيال وأصحاب الأفيال بمصر كثيرون سرقوا ثروات المصريين بدون وجه حق وتركوهم من أفقر شعوب المنطقة.

  وإذا لم يكن العمل المنتج هو الذي يصل بصاحبه إلى "النجاح" بالمعنى الذي نعرفه له، وهو مناصب النفوذ والثراء، فما هى الوسيلة في ظل الشعار الجديد؟

  إنها وسيلة غاية في البساطة، تتخلص في: الكلمة المناسبة،في اللحظة المناسبة، للشخص المناسب (النفاق الاجتماعي) فإذا وُفقت في ذلك وجدت نفسك بين عشية وضحاها، صاحب النفوذ الذي يهيمن ويسيطر ويكسب المال.

 وما دام هذا هو النموذج القائم أمام الأبصار، فلا بديل أمام الشباب الساعي إلى حياة ناجحة ( بمعنى النجاح في قاموسنا القومي) سوى أن يتجه بمعظم جهده لا نحو مزيد من كد وكدح وعناء في دنيا العمل، بل إلى البحث عن تلك "المناسبات الثلاث" التي هى : الكلمة المناسبة، في اللحظة المناسبة، للشخص المناسب، وهو طريق يؤدي بنا حتماً إلى اختلال العدالة ـ من جهة ـ  وإلى ضعف الانتاج (المادي والعلمي) من جهة اخرى.

أما اختلال العدل، فلأن من لا يستحق ستكون له السيادة على من يستحق، وأما ضعف الانتاج بكل أنواعه، فلأن الزمام حين تمسك به أيد قادرة وغير أمينة، ضلت سواء السبيل، وأضلت، ثم هى فوق ذلك تحدث في نفوس العاملين مرارة ويأساً واستهتاراً وتراخياً.

  ومع ذلك .. فهذا الطرح لا يشمل فئات الشعب المصري جميعاً، فهناك ملايين ممن لا يزالون يعملون(مصريين) كما كانوا، أو (مصريات) كما كن،فأنظر إلى المرأة المصرية: زوجة وأمُاً سواءٌ كانت في الريف أو في المدينة، وقولوا لي  كم منهن قد انحرفن عن الجادة، بمغريات المناصب والثراء، إن الأم المصرية في رعاية أبنائها لا تعرف إلا شيئاً واحداً هو التضحية بكل ما يتعلق بشخصها في سبيل أطفالها، وإذا قصرت في التماس الطرق الصحيحة لقصور في تعليمها ودرجة وعيها، فليس الذنب ذنبها، ولا هو وليد الظروف الجديدة، ونسبة ضخمة من الرجال المصريين العاملين، لايزالون على إخلاصهم المعهود.

  إذن لعلها فئة لا تبلغ ربع السكان هى التي أصابها السوء والعطب ، ومع ذلك فهى حقيقة لا ريب فيها، سواء كان السوء والعطب مقتصراً على الربع أو ينقص أو يزيد، وتلك الحقيقة هى أننا نشعر جميعاً بأن مناخاً جديداً يسود حياتنا، هو ذلك الذي أشرت إليه.

   فما يزال السوء والعطب والخلل قائما.. لماذا وكيف ؟

   هذا ما سيتم مناقشه وعرضه في الجزء الثاني من المقال.

 

            

اجمالي القراءات 21519