روح المرح وساويرس والإسلاميون

سعد الدين ابراهيم في السبت ١٦ - يوليو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

إن أحد الأسباب التى لن تمكن الإسلاميين من حكم مصر، هو افتقادهم روح المرح، فالثقافة المصرية الشعبية هى ثقافة مرحة. وقد أصبح المصريون يعرفون ذلك عن أنفسهم، وأصبحت بقية وطنهم العربى والعالم يعرفون ذلك عنهم. وفى كل مرة يلتقى فيها مصرى بآخر، خاصة خارج الحدود، فإنه يُبادره بالسؤال عن «آخر نُكتة». ومع زيادة «تمصير» العرب، من خلال الأفلام والمُسلسلات، والتعليم على أيدى مُعلمين وأساتذة مصريين، انتقلت روح النُكتة إلى أشقاء عرب، لم يكن يُعرف عنهم استساغة، أو سهولة التعبير الفكاهى الساخر ـ مثل العراقيين، والجزائريين، والسودانيين.

وأتذكر فى مرحلة الصبا، أن أحد أقربائى الأكبر عُمراً من الإخوان المسلمين، نهانى عن قراءة إحدى المجلات الفُكاهية، التى كانت شائعة فى ذلك الوقت، واسمها «البعكوكة»، لأنها تضحك، وأن «كثرة الضحك تُميت القلب»! ولما كنت أحب المرح، والضحك، فقد كنت حريصاً فى كل مرة أقوم فيها بفحص طبى عام، أن أسأل الطبيب عن حالة قلبى.. والحمد لله إلى تاريخه (٧٢ سنة)، فما زال قلبى فى حالة جيدة، رغم استساغتى للمرح والفكاهة.

وأتذكر وأنا فى منتصف الثلاثينيات، أن الرفيق الراحل صدام حسين دعانى ومجموعة من الخبراء العرب إلى العراق لمُساعدة ذلك القطر الشقيق فى التخطيط لتنمية موارده البشرية، فى أعقاب الطفرة النفطية (١٩٧٣/١٩٧٥)، وكان ضمن فريق العمل زميلان مصريان آخران.. ولم يكن ثلاثتنا نتوقف عن تبادل النكات والقفشات.. وكان معروفاً عن صدام حسين الصرامة والتجهم. وكان على وزير التخطيط العراقى التنبيه على المصريين ألا يتسببوا فى إحراجه، خلال اجتماع مُرتقب مع الرفيق صدام. فإذا بصدام نفسه حينما علم أننى مصرى، يُبادرنى بالسؤال عن آخر نكتة مصرية، فحكيت له نكتة تناسب السياق العربى فى ذلك الوقت، وفحواها أن ثمة اجتماعاً للجامعة العربية، حول «الأمن الغذائى العربى»، فحينما سأل أحد الصحفيين مندوب مصر لدى خروجه من الاجتماع عن «رأيه فى أكل اللحم؟»، وكانت هناك أزمة لحوم فى مصر فى ذلك الوقت، فأجاب المندوب المصرى، بسؤال مُقابل للصحفى «وما هو اللحم؟». وحينما وجّه نفس السؤال إلى مندوب السودان، الذى كان يُعانى من مجاعة، فردّ، بدوره، بسؤال مُقابل: «وما هو الأكل؟»، وحينما سئل المندوب العراقى عن «رأيه فى «أكل اللحم؟»، رد مُستفسراً، «وشنو الرأى؟»- أى ما معنى كلمة «رأى»، فى إشارة واضحة إلى أنه فى ظل صدام وحكم البعث العراقى، ليس هناك «رأى» لأحد، فالكل على قلب رجل واحد، وهو صدام حسين فقط، فضحك صدام كثيراً وانبرى يقص علينا نكاتاً كان قد سمعها فى «مقهى الدقى»، أثناء سنوات لجوئه إلى مصر فى ستينيات القرن العشرين.

ومنذ أربع سنوات حينما اصطحبت مجموعة من طلابى فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة للاجتماع بالسيد حسن نصر الله، الزعيم اللبنانى لحزب الله الشيعى، فى أعقاب حربه مع إسرائيل (٢٠٠٦)، كان أول ما بادرنى به ذلك الشيخ الجليل هو سؤالى عن آخر نكتة مصرية.

أبدأ مقالى بهذه الطرائف، للتعليق على واقعة قيام رجل الأعمال المعروف، وراعى حزب المصريين الأحرار، بإعادة نشر كاريكاتير على صفحته، للشخصيتين الفكاهيتين ميكى ماوس ومينى ماوس، ترتدى إحداهما الحجاب ويُطلق الآخر لحيته ـ أى كأنهما سلفى وسلفية، وقد قامت قيامة الإخوة السلفيين والجهاديين، ولم تقعد. واللافت للنظر حول هذه الواقعة ما يلى:

١ - أن السلفيين، تركوا أولئك الذين ابتدعوا ونشروا شخصيتى «القط المُلتحى» و«الفأر المُنتقب»، وصبوا جام غضبهم على نجيب ساويرس، ونسوا قولهم المأثور، «إن ناقل الكُفر، ليس بكافر».

٢ - بل إن أحد غُلاتهم، والذى خرج لتوه من السجن، بعد قضاء ٢٥ سنة، بسبب مُعتقداته وضلوعه فى أعمال إرهابية، كان أول تصريح له أنه ورجال جماعته لن يتركوا نجيب ساويرس، دون أن ينتقموا منه.. بل قال بالحرف الواحد «لن نكون رجالاً إذا لم نفعل»، وهكذا اختزل هذا الجهادى إسلامه ورجولته، فى الانتقام من إنسان ومواطن آخر، لمُجرد مُمارسة حقه الإنسانى فى الفكاهة والمرح.

٣ - وتبقى ثلاثة أسئلة، تكشف إجاباتها عن مكنون ما يدور فى سرائر هؤلاء الغُلاة، أولها، هل كانت ستكون غضبة هذا النفر من السلفيين- الجهاديين بهذه الحدة، لو لم يكن نجيب ساويرس، مسيحياً قبطياً، أى بمصطلحاتهم الفقهية، من «أهل الذمة»؟ أى أنهم فى قرارة نفوسهم لا يؤمنون بأن لغير المسلمين نفس حقوق المواطنة التى للمسلمين فى نفس الوطن؟ أى أنهم يستنكرون على مواطن مصرى قبطى نفس الحقوق والواجبات؟

٤ - والسؤال الثانى، هو إذا كان نجيب ساويرس مواطناً قبطياً متوسط الحال، من حيث ثروته ومكانته، فهل كانت ثورة الجهاديين- السلفيين ستكون بهذه الحدة؟ أم أن أحد الأسباب، إن لم يكن السبب الرئيسى، هو أن الرجل من أكثر المصريين نجاحاً فى أعماله، ومن أغنى أغنياء مصر والعالم؟ بتعبير آخر، هل هذا الغضب السلفى، هو فى حقيقته تعبير عن حِقد دفين ضد أغنياء القوم؟ وهل هذا الحقد الدفين، من جانبهم، أو حتى الخطأ من جانب ساويرس إذا اعتبره البعض كذلك، هو مُبرر للدعوة لمُقاطعة إحدى شركاته (موبينيل)، وحرمان آلاف العاملين فيها، وأغلبيتهم من المسلمين، من أرزاقهم؟ فما سر هذا الحقد المُدمر، الذى يسعى إلى قطع الأعناق وقطع الأرزاق؟

٥ - وأخيراً، هل كانت غضبة السلفيين- الجهاديين ستكون بنفس الشراسة، لو كان ساويرس، رغم نجاحه المهنى المشهود، ورغم ثرائه الموعود، ظل خارج الحلبة السياسية، ولم يدعم حزباً سياسياً بعينه، وهو حزب المصريين الأحرار، والذى أقبل على عضويته من المصريين المسلمين أربعة أمثال من أقبل عليه من المصريين الأقباط؟ إن السلفيين، ومن لف لفهم من غلاة الإسلاميين، عليهم أن يُجيبوا عن التساؤلات الخمسة السابقة، إذا كان لهم أن يكونوا أمناء مع أنفسهم ومع بنى قومهم، ونحن على أعتاب مرحلة سياسية ديمقراطية غير معهودة بالنسبة لمصر وللمصريين. وربما هذا المناخ الديمقراطى الجديد، هو الذى أغراهم وفتح شهيتهم للعمل السياسى، بعد أن ظلوا منذ ظهورهم على المسرح بعد عودة قياداتهم من السعودية فى سبعينيات القرن الماضى، وهم يُعلنون أن لا شأن لهم «بالسياسة»، والحض على السمع والطاعة لولى الأمر، حتى لو كان مُستبداً غشوماً، حتى لا تكون بين المسلمين فتنة.

 إن إجابة السلفيين، ومن لف لفهم، عن تلك التساؤلات هى شرط أخلاقى معنوى (وليس شرطاً قانونياً) لخوضهم العمل السياسى.. وإذا كان الرأى العام قد نسى أو غفر لهم ما تفوّه به بعض كبارهم من حض للمُخالفين لهم، خلال الاستفتاء على تعديل الدستور (١٩/٣/٢٠١١)، بمُغادرة مصر إلى كندا وأستراليا، فإن التاريخ لن يغفر لهم أبداً إجهاض الديمقراطية التى أتت بها ثورة، لم يُشاركوا فيها، ولكنهم أول الطامعين على الاستئثار بثمارها.

فلا حول ولا قوة إلا بالله.

اجمالي القراءات 8703