معضلة الثورة المصرية

كمال غبريال في الخميس ١٤ - يوليو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً


معضلة الثورة المصرية لا تتبدى فقط فيما توصلنا إليه من تحليلات في مجموعة المقالات السابقة، والتي تشير إلى الوضع المضاد -بطريقة شبه تامة- لإمكانية قيام ثورة حقيقية في مصر، تنقل الشعب المصري من ورطته الحضارية وحالة ركود طويلة، قد يكتفي البعض بإرجاعها لستة عقود مضت، وقد يذهب آخرون أبعد من هذا قروناً أو حتى عشرات القرون في عمق التاريخ المصري الممتد. . المعضلة ماثلة الآن بجلاء على أرض الواقع، نتبينها في حشود المتظاهرين والمعتصمين في كافة ميادين تحرير المدن المصرية، وأيضاً على وجوه عامة الناس السائرين في الشوارع، وعلى ألسنة ربات البيوت وسائقي التاكسي والميكروباص والباعة الجائلين أو غير الجائلين. . الجميع الآن يعلو وجوههم الوجوم، بعدما كنت تشهد فرحة الأمل والسعادة والانتصار!!
ربما أكون بحاجة لتأكيد أنني لا أرضى لنفسي إلا أن أكون من الثوار ومعهم وبهم، وأن أعز أمنية لي فيما تبقى من سويعات العمر، هي أن أشهد مصر جديدة كل الجدة. . مصر حديثة تسير في طريق النمو والتطور والرخاء، وليست مصر تلك الجثة التي عرفتها طوال ستة عقود هي عمري. . رغم هذا، بل ولهذا بالتحديد أحاول قدر جهدي البحث عن الحقائق، ومواجهتها بجرأة وشجاعة، مهما كانت مضادة لما أتمنى. . من منا ينكر أن التشخيص السليم للحالة هو الباب الذي يتحتم الدخول منه للبحث عن الدواء الشافي؟!
الحقيقة المريرة هي أن نظام مبارك ليس فقط متجذراً في المجتمع، لكنه إفراز ذلك المجتمع وابنه البار بتوجهاته وميوله. . نعم الجميع ناقم على هذا الابن، ناقم على النتائج المترتبة على أدائه، لكن عدم رضاك عن ابنك لا ينفي أنك من ربيته على سلوكياتك وأفكارك، وأنه أيضاً قد ورث ضمن ورث جيناتك. . تلك القطعان من الجماهير التي تعشق الخنوع وتبحث طيلة الوقت عمن يقودها وهي صاغرة صامتة، على أمل أن يوردها إلى مواطن الكلأ والماء، هي من تشكل في رحمها نظام مبارك بفساده وخداعه ومؤسساته البوليسية. . هي ناقمة نعم، ونقمتها هذه زخيرة ومعين للثورة، وإن كانت هناك عوامل سبق واستعرضناها تقلل من حجم ونوعية تأييدها للثورة، وهو ما ليس مجالنا الآن في هذه المقاربة.
لا يغير مما سنخلص إليه هنا ما يقال من أن العكس هو الصحيح، والنظام البائد هو المسؤول عن تفشي السلبيات في المجتمع المصري، فأياً كان أيهما العلة وأيهما المعلول، فإن النتيجة واحدة وهي التماهي بين الشعب ونظامه، والذي هو حقيقة ميدانية، لا ينكرها إلا أهل المتاجرة والمزايدة بالشعارات.
نركز هنا على أن ما يستهدفه الثوار بالاستئصال والملاحقة، ويطلقون عليه فلول النظام، أو جذوره المتغلغلة في المجتمع المصري، وإن كان عقبة لا يستهان بها، وهو من الاستشراء بدرجة تجعل استئصاله عملية غاية في الصعوبة، إلا أن هذا هو الوجه الأبسط من المشكلة. . فالمعضلة الحقيقية هي أن أي عملية إعادة بناء الآن لن تنتج لنا إلا نظاماً يحوي من نظام مبارك الشيء الكثير، وعلى أحسن الاحتمالات تتساوى إحتمالات أن يكون أسوأ قليلاً، مع احتمال أن يكون أفضل بعض الشيء.
نعم كانت الانتخابات في عهد مبارك تزور تزويراً فجاً، لكننا مع ذلك نزعم أن نتائجها بمن تصل بهم إلى مقاعد البرلمان، لم تكن أسوأ ولا أبعد تمثيلاً لحقيقة الشارع المصري، من تلك النتائج التي يمكن أن تترتب على أي اتنخابات نزيهة، دليلنا في زعمنا هذا ما رأيناه في نتائج انتخابات مجلس الشعب في 2005، حيث أنقذ الحزب الوطني أغلبيته البرلمانية عن طريق ضم مستقلين، منهم من كان قد فصله الحزب لتقدمه للترشح خروجاً على قرارات الحزب وترشيحاته. . هذا يعطينا الحق في الادعاء أن الحزب الوطني الذي يستنزل الجميع عليه اللعنات الآن هو في جميع الأحوال الممثل الحقيقي للشارع المصري، بغض النظر عن فرض أشخاص بعينهم واستبعاد آخرين، وفقاً للمثل العامي المصري "أحمد زي الحاج أحمد"!!
لم يكن مبارك وحزبه ومؤسساته مهيمنة واستبدادية بالصورة التي تبدو الآن في خطاب الثورة، بل العكس تماماً هو الصحيح، فقد كان أداء الدولة بجميع أجهزتها رخواً، ويخلو قاموسها تماماً من الحسم وتفعيل سيادة القانون، بالطبع فيما عدا حالات المس بالنظام ورموزه، ولم تكن سياسة اللاحسم تلك مجرد خيار مباركي مزاجي، لكنها كانت نتيجة لحقائق الواقع في الشارع المصري، تعكس ما فيه من تشرذم لتيارات تتراوح من أقصى اليمين الديني الإسلامي، إلى اليسار الناصري والعروبي، كما كان حجم الإصرار الشعبي على السلوكيات العشوائية وعدم الالتزام بالقانون، أكبر من مما يمكن السيطرة عليه من قبل أجهزة دولة، هي أصلاً جزء من هذا الشعب، وتتمثل فيها قيمه وسلوكياته.
أعتقد أن الدولة مثلاً قد بذلت أقصى جهد ممكن للسيطرة على عمليات تجريف وتبوير الأراضي الزراعية، ومع ذلك فالفشل الذريع هو النتيجة التي شهدناها ومازلنا نشهدها. . نفس هذا نقوله على الانضباط في الشارع المصري، الذي يحتله الباعه الجائلون وأصحاب المحلات والمقاهي، وعبثاً تحاول أي قوة تنظيمه، نتيجة للإصرار المستميت من الشعب المصري (الأصيل والبطل) على الضرب عرض الحائط بالقانون والنظام!!
نستطيع أيضاً المقارنة بين عشوائية حركة مرور السيارات رغم تواجد الشرطة، بانتظام المرور في دول أخرى اعتماداً على آلية إشارات المرور، دون تواجد منظور للبوليس، على أساس أن المخالفة المرورية هي الاستثناء والالتزام هو القاعدة، في حين أن الوضع في بلادنا يعد فيه الالتزام هو الاستثناء والمخالفة هي القاعدة!!
موقف نظام مبارك المتلون والمراوغ من الجماعات الدينية الإسلامية، هو مجرد انعكاس لموقف المجتمع من هذه التيارات، والذي يتراوح بين التأييد المطلق والرفض المطلق وما بينهما. . كذا موقف الدولة من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والبابا شنودة، والذي تجلى فيه في أكثر من موقف، تخلي الدولة عن مواطنيها الأقباط، ليكونوا مواطني الكنيسة بزعامة بطريركها، تفعل بهم ما تشاء، وتحرمهم من حقوقهم الإنسانية في الزواج والطلاق كما تشاء، هذا الموقف المخزي ليس أكثر من انعكاس لحقيقة تقديس أغلبية الأقباط الكاسحة للبابا ربما إلى ما قرب التأليه.
لهذا من الطبيعي أن يتحسب الليبراليون ودعاة الحداثة عند الحديث عن ديموقراطية صندوق الانتخاب، فنظام مبارك في الحقيقة كان ديموقراطياً إلى أقصى درجة في أدائه وإلى حد التفريط، إذا اعتبرنا الديموقراطية تعني الاستجابة لرغبات الشعب، وإن لم يكن كذلك في انتقاء شخوص نظامه. . هذا المنطق نفسه كان عبد الناصر يدعيه، بأن ديموقراطيته تنبع من احساسه بمطالب الجماهير والعمل على تحقيقها. . على هذا النهج ذاته مع الفارق سار مبارك. . هو رئيس لشعب عشوائي منغلق الفكر وذو نخبة باختلاف تنوعاتها فاشية وعالية الصوت، وكان عليه لكي يظل على كرسيه ألا يغضبها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وربما أطرف معالم خنوع الدولة للشعب المعلم (على حد قول عبد الناصر)، نجده في حالة امتحانات الثانوية العامة، بطريقة وضع الأسئلة ثم توزيع الدرجات، والتي نرى نتيجتها حصول أعداد هائلة على تقديرات تفوق 100%، ثم ما يترتب على ذلك من مذبحة ارتفاع معدلات درجات الالتحاق بكليات القمة، ناهيك عن قبول أعداد تفوق بأضعاف قدرة الجامعات على الاستيعاب، وإنتاج خريجين عديمي التأهيل العلمي تقريباً، كما لا سوق العمل يحتاجهم. . هذا النفاق المدمر للمجتمع لن تنجو منه أي حكومة منتخبة الآن بطريقة ديموقراطية، بل ربما سيكون الحال أسوأ بمراحل، ليس في قطاع التعليم فحسب، بل في كل مناحي الحياة المصرية.
المعضلة إذن أن بين الشعب المصري وبين الثورة الحقيقية على أحواله -وليس فقط على حكامه- عقود عديدة، يدركون خلالها حقيقة ما يحدث حولهم في العالم من تطور، ويدركون حقيقة وضعهم المتردي، وأنه لا مناص لتغيير أوضاعهم، إلا بتغيير ثقافتهم وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم وسلوكياتهم. . لكن شبابنا قد أدخلنا رغماً عن أنوفنا وفي غفلة منا إلى ثورة، عظيم. . عليه إذن أن يستمر في ثورته، وأن يكون طويل النفس معنا ومع نظامنا الذي تجذر في حياتنا، حتى يأتي اليوم الذي نستطيع معاً أن نقتلع القديم، ونلقى به إلى محرقة لتأكله النيران، ونؤسس حياة جديدة في مصر الجديدة.

 

اجمالي القراءات 7420