ليتهم عاشوا ليروا الثورة

سعد الدين ابراهيم في السبت ٢٨ - مايو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

خلال العقود الثلاثة الأخيرة عرفت وصادقت جيلين من السياسيين والمُفكرين، الأكبر عُمراً، باستثناء واحد كان أصغر سناً، ولكنهم جميعاً عاشوا يحلمون بالثورة، طوال تلك العقود الثلاثة الأخيرة من أعمارهم. وربما فقد بعضهم الأمل نهائياً فى حدوثها حتى فى حياة أبنائهم!!

وكان هذان الجيلان خليطاً من كل ألوان الطيف السياسى والأيديولوجى من ليبراليين إلى اشتراكيين وماركسيين، إلى إصلاحيين وإسلاميين.

من هؤلاء المُفكر الليبرالى والاقتصادى النابه د.سعيد النجار، الذى كان صِهراً فى شبابه للفقيه القانونى عبدالرازق السنهورى باشا. ورغم أن د.سعيد النجار قضى عدة سنوات يعمل فى مؤسسات دولية مثل البنك الدولى والأمم المتحدة، إلا أنه بمُجرد عودته النهائية إلى مصر، أسس مع مجموعة من الليبراليين المصريين جمعية «النداء الجديد»، التى ظلت طوال عقد التسعينيات وأوائل القرن العشرين، وإلى وفاته عام ٢٠٠٤، تبشر بالديمقراطية والمجتمع المفتوح.

 وحرص الرجل على أن يجعل من جمعية النداء الجديد منبراً لاستشراف شكل وطبيعة الديمقراطية كنظام سياسى، والرأسمالية المسؤولة كنظام اقتصادى، انطلاقاً من إيمانه بأن الليبرالية الاقتصادية هى الوجه الآخر لليبرالية السياسية. كذلك أسهم د.سعيد النجار باجتهادات عديدة فى كيفية التغلب على مُشكلتى التخلف والفساد اللتين اعتبرهما أيضاً وجهين لنفس العُملة. وكان الرجل حالماً بمصر ليبرالية، كالتى عاشها فى شبابه خلال الأربعينيات ومطلع خمسينيات القرن العشرين.

من الذين حلموا أيضاً بثورة سلمية بنفس التوجه، القانونى الدولى إبراهيم شحاتة، الذى تخرج فى جامعة هارفارد، وعمل لسنوات بكل من الصندوق العربى للتنمية فى الكويت، ثم نائباً لرئيس البنك الدولى. ولكن رغم بُعده عن مصر، إلا أنها لم تفارقه أبداً. وآية ذلك أن آخر كُتبه، الذى نشره له مركز ابن خلدون، ثم أعادت نشره دار الشروق، كان بعنوان «وصيتى لبلادى». وألّف د. إبراهيم شحاتة ذلك الكتاب بعد أن علم بدنو أجله، حيث إنه أصيب فى آخر سنوات حياته بمرض السرطان الرهيب.

وقد رحل عن عالمنا قبل رحيل د.سعيد النجار بأربع سنوات. وكانت الثورات الديمقراطية قد انتشرت فى أوروبا الشرقية وجنوب أوروبا وشرق آسيا، وحتى فى أفريقيا جنوب الصحراء. وكثيراً ما كنا نُفكر ونتساءل سوياً، عن متى يحدث نفس الشىء فى مصر والوطن العربى؟ فليت هذا الصديق كان معنا ليهنئنا برؤية هذه الثورة فى وطنه مصر، وفى شقيقاتها العربيات: تونس، والأردن، والبحرين، واليمن، وسوريا.

وكان المُفكران اليساريان محمد سيد أحمد ونبيل الهلالى يُنبئان بثورة اشتراكية ديمقراطية. وكان هذان القطبان من أولاد الباشوات فى العهد الملكى، وورثا عن ذويهما الإقطاعيين آلاف الأفدنة. ولكنهما كانا أمينين مع نفسيهما، فوزعا مُعظم ما ورثاه من ثروة على فقراء الفلاحين الذين كانوا يعملون فى أراضى أسرتيهما.

وبعد سقوط الأنظمة الشيوعية الشمولية فى الاتحاد السوفيتى، أدرك الرجلان أن ما كان ينقص هناك هو الديمقراطية كوجه آخر للاشتراكية. وعاش الرجلان لرؤية كيف انقض نظام الرئيس الراحل أنور السادات، ثم نظام الرئيس السابق حسنى مُبارك على ما كان عبدالناصر قد شيّده من مؤسسات اشتراكية. وماتا محسورين على ما فقدته مصر، رغم أنه كان اشتراكية منقوصة من وجهة نظرهما.

كان أيضاً من بين الحالمين بثورة ديمقراطية اشتراكية كل من الماركسيين المصريين فليب جلاب، وأبوسيف يوسف ولطفى الخولى وإسماعيل صبرى عبدالله، وفؤاد مُرسى.

وأذكر أننى اصطحبتهم جميعاً فى سلسلة من الحوارات العربية السوفيتية فى أواخر سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى. وكان إعجابهم شديداً بما أنجزته الثورة البلشفية فى روسيا، حيث نقلت ذلك البلد المُترامى الأطراف من دولة مُتخلفة إلى قطب أعظم فى النظام الدولى.

ولكنهم جميعاً قرب نهاية حياتهم أدركوا أن الاشتراكية وحدها، أو العدالة الاجتماعية بدون ديمقراطية، لا بد أن تنتكس، إن آجلاً أو عاجلاً. وهذا ما حدث بالفعل فى العقد الأخير من القرن الماضى، ورأوه فى حياتهم. أما ما تمناه كل منهم لمصر من اشتراكية وديمقراطية، فلم تتحقق منه الاشتراكية، وإن كانت الديمقراطية فى طريقها للتحقق بفضل ثورة يناير ٢٠١١.

لم يكن أحد من الماركسيين الذين ذكرتهم يمكن أن يتصور أن أى ثورة فى مصر يمكن أن يقوم بها شباب الطبقة المتوسطة، إلا إذا كان «وعيهم الطبقى» قد تم تزييفه. فبالنسبة لهم لا يقوم بالثورة إلا أبناء الطبقة الكادحة. وربما كان الاستثناء من بينهم كل من محمد سيد أحمد وفليب جلاب، اللذين كانا دائماً ينظران إلى ما هو أبعد وأعمق من التحليلات الماركسية الكلاسيكية، خاصة فى ضوء ما حدث فى أوروبا الغربية نفسها فى أواخر ستينيات القرن العشرين، حيث قاد شباب الطبقة الوسطى انتفاضات ثورية فى تلك البُلدان.

إن السطور السابقة هى تنويه رمزى لأجيال سابقة من أبناء مصر، الذين رحلوا عنا فى العقدين الماضيين، ولكن كتاباتهم وكفاحهم مهّدا لأبناء جيل حركات كفاية، وشايفنكو، وحركة ٦ أبريل، وعُمال من أجل التغيير، وأكاديميين من أجل التغيير.. فتلك الحركات هى التى أحدثت شروخاً فى جدار الخوف، الذى شيّدته المؤسسة الأمنية لنظام آل مُبارك. وجاء شباب ٢٥ يناير ليهدموا ما تبقى من ذلك الجدار المشروخ.

تحية وفاء لذكرى أجيال سابقة.. وتحية إعزاز لأجيال لاحقة.

وعلى الله قصد السبيل

اجمالي القراءات 9337