الى الجحيم ياأباسفيان !!

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٠٥ - يناير - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

(1)

فى منتصف السبيعينات استأجرت شقة فى حى شعبى، وطفت الحى أتعرف على المكان وافرحنى أن وجدت جامعا ضخما جديدا بقرب مسكنى ، وتعشمت أن أقضى فيه جزءا من وقتى فى القراءة والعبادة والسكينة ، ولكن ضاع هذا العشم مع أول صلاة جمعة احضرها فيه، ففى أثناء تعرفى على المسجد وأهله لفت نظرى وجود شاب فى العشرينيات يلبس جلبابا ابيض وقد انزوى فى ناحية من المسجد وهو يقرأ بصوت عال فى الصفحات الاولى من كتاب السيرة النبوية المقرر على السنة الاولى الاعدادية فى التعليم الازهرى ، وعجبت أن يكون ذلك الشاب فى اولى اعدادى أزهر ، ولكن عرفت انه موظف بدبلوم تجارة وأنه خطيب المسجد وأنه يجلس فى المسجد طيلة الاسبوع ليجهز لخطبة الجمعة!! ولم أتفاءل بهذه البداية . وصدق ظنى يوم الجمعة التالى، إذ اعتلى صاحبنا المنبر والقى خطبة عامية عصماء إجترّ فيها المكتوب فى كتاب السيرة عن غزوة بدر، ثم زاد من عنده هجوما حادا على أبى سفيان زعيم مشركى قريش وقتها وقائد القافلة التى نجت من جيش المسلمين. قيادة أبى سفيان للقافلة جعل خطيبنا يزداد حنقا على ابى سفيان فانطلق يسبه ويشتمه ويجعل مصيره الى النار وبئس المصير . وتململت فى مقعدى من الغيظ خصوصا وقد رأيت الناس فى المسجد قد انفعلوا بحماس الخطيب وصار عندهم مايشبه الاجماع على دخول ابى سفيان النار ، وآلمنى انه لم يصل الى علم الخطيب المبجل أن ابا سفيان قد اسلم فى فتح مكة وانه وقف ومعه اولاده الى جانب المسلمين يحارب المرتدين ، وانه شارك فى فتح الشام وأنه فقد عينه فى موقعة اليرموك ضد الروم . لم يصل الى علم خطيبنا المبجل ذلك كله لأن فضيلته قد توقف فى قراءته لكتاب السيرة النبوية عند غزوة بدر ولم يصل إلى نهاية الكتاب، ولعله لم يصل الى نهاية الكتاب حتى ا ليوم !!

· ولأن صحتى لاتحتمل الاستماع الى الجهل طويلا فقد عزمت على l">ولأن صحتى لاتحتمل الاستماع الى الجهل طويلا فقد عزمت على الذهاب الى مسجد آخر يوم الجمعة، وعثرت على مسجد تحت الانشاء والتشييد وقد توسمت فى الخطيب الافندى الرزانة وخطورة الشأن ، ومنيت نفسى بسماع خطبة دسمة على نفس وزن الخطيب وجسامته ، ولكننى فى استماعى للخطبة وجدت للخطيب خطورة من نوع آخر ، فقد كان ينفعل ويترك العنان لانفعاله الغاضب يقوده فينطلق لسانه بما لايدرى وبما لايعلم، وفوجئنا به يقول بأن النبى محمداعليه السلام مدفون فى الكعبة !! ونظرت الى حذائى وأخذته وتسللت هاربا حتى لا اسمع من الخطيب العلامة تصريحا أخر يقضى على ما تبقى من صحتى ومستقبلى !!

· ولم أفقد الأمل .. إذ كانت المنطقة تعج بمشاريع متعددة لانشاء مساجد، وتقام صلاة الجمعة فى الخلاء المعد لاقامة المسجد عليه، وتجولت بين تلك المشروعات ، وكنت حذرا إذ أعرضت عن الخطباء الافندية والخطباء من أصحاب الجلاليب البيضاء ، واسعدنى ان عثرت على خطيب يرتدى الجبة والقفطان وقلت لنفسى : على الاقل فهو لن يلقى بابى سفيان فى النار ولن يجعل النبى محمداعليه السلام مدفونا فى الكعبة !! وحضرت الخطبة وكانت نكبة .. صحيح أن صوت الخطيب كان حانيا وان اسلوبه كان رقيقا فصيحا ، ولكن ليس المهم فى الشكل فقط ولكن فى المضمون، وشيخنا الخطيب الحنون كان يتحدث فيما يعرف بالحقيقة المحمدية التى تعنى أن الله تعالى خلق النبى محمدا عليه السلام من نوره الالهى وانه خلق العالم كله لأجله وأن النور المحمدى انتقل من محمد الى الائمة الشيعة ثم الى الاقطاب الصوفيةـ والحقيقة المحمدية هى جعل محمد نسخة من الله ،أى تتطرف بأكثر ما يقوله البعض عن الوهية عيسى عليه السلام ـ وأخذ الشيخ المهذب الوديع يشرح هذه الاساطير باسلوبه المؤثر الحانى الرقيق و الناس تنظر اليه مأخوذة وقد فتحوا افواههم على مصراعيها وصاحبنا قد سرح بهم فى اجواز السماء حيث الكوكب المحمدى المحيط بالعرش، وحيث كانت الصلاة على محمد هى الصداق الذى دفعه آدم كى يتزوج حواء .. الخ ونظرت حولى فوجدت الناس تحوقل و تكبّر والدموع تهطل ، فقد أطعمهم الشيخ الماكر أشد انواع المخدرات العقلية ، وخفت على صحتى كالعادة وبحثت عن حذائى وتسللت هاربا .

· حكيت هذه الذكريات لبعض الاصدقاء ونحن نناقش الضعف المزرى لاغلبية الخطباء فى المساجد الكثيرة التى يزيد عددها على عدد الخطباء المؤهلين وغير المؤهلين وكيف ان الاهتمام ينبغى أن يتجه الى رفع المستوى الدينى والعقلى للمسلمين لنصل الى الفهم الصحيح للإسلام دين العلم والثقافة وا لحضارة والتقوى والتسامح . واقترح بعض الاصدقاء أن نذهب الى المسجد الذى كان يرفع لواء الخصومة ضد ابى سفيان لنرى ماحدث له بعد خمس عشرة سنة ، وذهبنا ووجدنا الخطيب نفسه ولكن طالت لحيته وعظمت هامته وتكاثر اتباعه وتعاظم نفوذه ، ومع ذلك فلايزال مصمما على أن أبا سفيان من أصحاب الجحيم لأنه زعيم المشركين !!

ولاريب أن ثقافته الدينية قد توقفت عند غزوةالأحزاب !

( 2 )

نشرت هذا المقال فى جريدة الأحرار منذ سبعة عشر عاما تقريبا. وكان شكوى معلنة من الجهل المزرى للخطباء فى المساجد المصرية ومسئوليتهم عن نشر التطرف والجهل والارهاب، حيث توسع بناء المساجد لتنشر الدعوة السلفية ، وأصبحت تلك المساجد مأوى للعاطلين عن العمل والعاطلين من العلم والمتعطشين للثروة والسلطة، ليس مهما ان كان ما يقولون صحيحا أو باطلا ، المهم ان يرفعوا أصواتهم بقدر ما يستطيعون ، و أن يرهبوا المستمعين بالنار وعذاب الجحيم ليكتسبوا سلطانا وجاها باعتبار انهم المتحدثون باسم الله تعالى والمتحكمين فى جنته وناره. هذه النوعية الجاهلة المتعدية من الدعاة يحتاجون الى معركة يتمتعون فيها بالقيادة ، و يحتاجون الى عدو يشيرون اليه متوعدين متنمرين . وكان الأقباط هم الضحية المناسبة لهم فى الداخل ، كما كانت أمريكا واسرائيل والغرب هى الحائط المثالى الذى يستمطرون عليهم الدعوات بالتدمير والهزيمة و ( أن يجعل الله أموالهم ونساءهم غنيمة للمسلمين ). وتمضى الأيام ويتضاعف الدعاء على العدو الخارجى ( اسرائيل وأمريكا والغرب ) ولكن بدون استجابة ، اللهم إلا الاستجابة العكسية ، لأن البلاء و المصائب و الفقر و القمع والاذلال والعار لا يلحق الا بالمسلمين فى هذا العالم . الذى لا شك فيه أن سياسة الغرب لا تخلو من ظلم للعرب والمسلمين ، ولا شك أن سياسة أمريكا تظلم العرب والمسلمين ، ولا شك أن اسرائيل أكثر ظلما للعرب من امريكا والغرب, ولكن تلك النظم فى الغرب و أمريكا و اسرائيل تخدم شعوبها التى انتخبتها ، و ليست معينة أو معنية بخدمة العرب. الحكام العرب هم الأكثر ظلما لشعوبهم مع أنهم المعنيون بخدمة شعوبهم. وبدلا من توجيه النقد لهم فان السهل هو الهروب من هذا الجهاد السلمى الحقيقى الى الهجوم الأجوف على من لا يسمعك ولا يهتم بما تقول .

الثابت تاريخيا أن ألأمويين هم أول من استخدم خطبة الجمعة سياسيا ، وبعد أن كانت خطبة الجمعة فى عهد النبى محمد عليه السلام مجرد قراءة سورة (ق ) أو غيرها من سور القرآن الكريم ، فان الأمويين حولوها الى منشور سياسى للدعاية لهم ولعن "أبى تراب " أو ( على بن أبى طالب ) ، ثم أصبحت عادة سيئة ـ من وقتها الى عصرنا هذا ـ أن يصعد أبو جهل ليدعو للسلطان وعساكره ونصرة المجاهدين المسلمين، (من الجزائر الى الشيشان ولعن الكفار المشركين من بوش الى أبى سفيان .. )

أكثر من ألف عام وهم يدعون نفس الدعاء ولا يستجاب لهم الا بالعكس..

ومع ذلك فلم يتساءل أحد عن موقع الخطأ.. اهو فينا أم فى الاخرين ..

ماذا لو رجعنا بخطبة الجمعة لأن تكون تلاوة خاشعة لسورة قرآنية كما كان يفعل رسول الله محمد عليه السلام ؟

ماذا لو جعلنا المسجد لعبادة الله تعالى وحده ، لا يرتفع فيه سوى اسمه جل وعلا دون أى اسم من البشر ، و لا يقال فيه إلا القرآن الكريم ؟

إن كل أماكن الدنيا مفتوحة للجدل السياسى من النوادى والزنازين والمكاتب و البيوت و المصاطب و الحانات والقهاوى و ومحلات الحلاقة ووسائل المواصلات ووسائل الاعلام..ألا تكفى كل هذه الساحات للثرثرة السياسية و المكائد السياسية بحيث يتخصص المسجد للصلاة و السكينة و تذكر الآخرة و الراحة من ضجيج الدنيا و التنافس على حطامها ؟ أم نستكثر على رب العزة أن تكون له المساجد خالصة لعبادته وذكره وحده جل وعلا؟ والى متى نظل نزاحم رب العزة فى بيوته ومساجده بأوليائنا وآلهتنا الأرضية و عقائدنا الكافرة الشركية و مطامعنا السياسية الدنيوية ؟ هل ضاقت علينا الأرض بما رحبت كى نعطل مساجد الله تعالى ونمنع ان يذكر فيها اسمه وحده بلا شريك و بلا غرض دنيوى ؟

لقد خلطنا أوراق الدين بالسياسة فخسرناهما معا ، وندفع الثمن كل يوم اذلالا و تخلفا وفقرا و عارا ودماءا تجرى أنهارا ، ومع ذلك فان أولى الشأن فينا (لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ) كما قال تعالى فى سورة ( التوبة : 126 ).

اجمالي القراءات 26288