الفتى وائل غُنيم والشيخ طارق البشرى والثورة والدستور

سعد الدين ابراهيم في السبت ١٩ - مارس - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الفتى هو المهندس وائل غُنيم، خبير تكنولوجيا المعلومات المصرى، فى شركة جوجل العالمية، يعيش خارج الوطن، ولكن تعلقه بمصر جعله مع حفنة من رفاقه، يُخططون ويُنفذون ثورة ٢٥ يناير، التى هرع إلى تأييدها مليون مواطن فى القاهرة، وعشرة ملايين فى بقية مُدن ومحافظات مصر، وكانت ثورتهم هذه هى التى أجبرت الطاغية حسنى مُبارك على الاستقالة والرحيل إلى شرم الشيخ.

أما الشيخ طارق البشرى، فهو فقيه قان&edil;نونى ومؤرخ فاضل، وينحدر من أسرة أزهرية، وأسند إليه المجلس العسكرى الأعلى رئاسة لجنة لتعديل الدستور، وتنقيته من مواده المعيبة، التى أرادت أسرة مُبارك أن تظل السُلطة مُتوارثة من الأب إلى أحد أبنائه.

ولكن الشيخ الذى قام برئاسة لجنة تعديل الدستور، بعد أعظم ثورات مصر، فى العصر الحديث، وضع نصاً فى إحدى هذه المواد المعيبة، يحرم وائل وملايين من أمثاله من الترشح لرئاسة الجمهورية، فقد اشترط التعديل ألا يكون المُرشح قد عاش فى الخارج، أو تزوج من أجنبية، أو كان أحد والديه غير مصريين، فوائل غُنيم تزوج من زميلة أجنبية أثناء دراسته العُليا وعمله فى الخارج،

ومأساوية هذه المُفارقة هى أن وائل يصغر طارق بحوالى خمسين عاماً، أى أنه فى عُمر أحفاده، وأن الشيخ طارق هو من جيل كان ثائراً، تنقل فى شبابه بين التيار الماركسى إلى التيار القومى العروبى، ثم فى أواسط ونهايات العُمر إلى التيار الإسلامى، ورغم كل هذه النقلات الأيديولوجية، لم يفلح جيل الدكتور طارق البشرى فى تفجير الثورة التى ظلوا يحلمون بها، طوال نصف قرن،

وحينما حقق جيل الأحفاد حلم الثورة، فها هو جيل الشيوخ، ينقضّ عليها، ويُحاول من خلال الدستور أن يحرمهم من أغلى ثمراتها، ألا وهى الحق الأصيل فى الترشح لمنصب رئاسى جليل.

إن هناك ستة ملايين مصرى يعيشون خارج مصر، ولكنهم مصريون بالوجدان وبالقانون، فحبهم لمصر لا يقل عن ذاك الذى يحمله المستشار طارق البشرى، والقانون يُعطيهم الحق فى ازدواج الجنسية، أى الاحتفاظ بجنسيتهم المصرية الأصلية مع أى جنسية أخرى قد يكتسبونها بسبب إقامتهم للعمل أو الدراسة فى الخارج، وليست مصر فى ذلك استثناء بين دول العالم، فمعظم هذه الدول تسمح بازدواج الجنسية، والتمتع بكل حقوق المواطنة فى البلدين، بما فى ذلك حق الانتخاب، وحق الترشح. هذا فضلاً عن أن الملايين الستة من المصريين هؤلاء يُساهمون فى الاقتصاد القومى بأكثر من خمسة مليارات دولار سنوياً، أى بما يوازى دخل مصر من قناة السويس والسياحة، دون أن يُكلفوا الخزانة المصرية أى أعباء خدماتية، مثل التعليم والصحة والمرافق، ودعم السلع التموينية.

فكيف والحال كذلك، يحرِم جيل الشيوخ، الذى يُمثله المستشار طارق البشرى، جيل الشباب الذى يُمثله المهندس وائل غُنيم، من المُشاركة الكاملة انتخاباً وترشحاً، لصياغة مستقبل مصر فى القرن الحادى والعشرين؟ وكيف والعالم كله - من الصين شرقاً إلى الأرجنتين غرباً- يحتفى بثورة اللوتس الشبابية المصرية، التى ألهمت هى وثورة الياسمين التونسية، شعوباً عربية أخرى للانتفاض من أجل الحُرية والديمقراطية، فى البحرين والأردن واليمن وليبيا والجزائر والمغرب، يُعطى شيوخ مصر وفقهاؤها الدستوريون هذا المثال من الجحود ونُكران الجميل، لأحفاد من شباب مصر؟

إن هذا الأمر لا يختلف كثيراً عما تعلمناه فى أسطورة «جزاء سنمار»، فبعد أن شيّد المهندس سنمار قصراً ملكياً يخلب الألباب، كافأه صاحب القصر بإلقائه من أعلى أبراج القصر، حتى لا يُشيّد قصراً مثيلاً لأى مخلوق غيره!

ولولا أنى أعرف المستشار طارق البشرى، شخصياً، وكم هو إلى جانب علمه، وديع ودمث الخُلق، لكنت قد استخدمت لُغة أشد قسوة، كما طلب منى المصريون فى الخارج، من أستراليا، وأوروبا، والأمريكتين، وكان بعضهم غاضباً للدرجة التى أصروا بها على إرسال مبعوثين منهم إلى مصر للالتقاء بالدكتور طارق البشرى، ومسؤولين آخرين، لتسجيل احتجاجاتهم على هذا الحرمان من حقوق أساسية، تُقرّها كل المواثيق العالمية، فضلاً عن دساتير بُلدان عربية مُجاورة، مثل السودان والعراق والكويت ولبنان، ولا نقول البُلدان الغربية.

لقد كتبت، فى هذا المكان منذ أسبوعين، أُحذر من إجهاض ثورة اللوتس الشبابية، التى أبهرت العالم بتنظيمها وسلميتها وصمودها فى وجه محاولات الترهيب والتخويف والالتفاف من جانب فلول النظام المُباركى، ولم يخطر ببالى وقتها أن الطعنة ستوجّه إلى الشباب من شيوخ مثل د. طارق البشرى.

إن تعديل الدستور بالشكل الذى قرأنا عنه فى وسائل الإعلام، هو فى جانب منه انعكاس لنفسية قديمة، غرستها الأنظمة الاستبدادية الشمولية، التى اعتمدت على إشاعة الخوف والهلع فى الداخل من مخاطر حقيقية أو وهمية، مصدرها «الخارج»، وبينما كان ذلك ينطوى على شىء من الحقيقة فى حقبة النضال ضد «الاستعمار»، قبل نصف قرن أو يزيد، فقد استعذب حُكامنا الطُغاة هذه المُمارسة، فظلوا يوهمون شعوبهم من «الاستعمار الجديد» أو من «أعوان الاستعمار» فى الداخل، فكان كل من يُعارض أو ينتقد المُمارسات الاستبدادية لهؤلاء الطُغاة، سرعان ما يُتهم بأنه من أعوان هذا الاستعمار.

وتغير الخطر الخارجى هذا من الاستعمار القديم.. البريطانى حيناً، إلى الفرنسى حيناً آخر، إلى السوفيتى حيناً ثالثاً، إلى الإسرائيلى حيناً رابعاً، إلى الشيعى الإيرانى حيناً خامساً، إلى النفطى السعودى حيناً سادساً، ولابد أننا عما قريب سنسمع عن الخطر «الصينى الأصفر»، والخطر «الهندى الأسمر»، وهلمّ جرّا.

وإنى لأربأ بالمستشار طارق البشرى وإخوانه فى لجنة تعديل الدستور، أن يكونوا قد وقعوا، بوعى أو لا وعى، فريسة لهذه المشاعر المرضية البالية، فجعلتهم يضعون نصوصاً تحرم ستة ملايين مصرى، يعيشون- يدرسون أو يعملون- بالخارج، من أى من حقوق المواطنة الكاملة، لقد أصبح العالم قرية كونية، لا يتحدد ولاء الإنسان «بالجغرافيا» وحدها (أى أين يعيش الإنسان)، ولكن أيضاً بالاختيار، والإرادة الحُرة، والرغبة فى المُشاركة فى بناء الأوطان.

وعلى الله قصد السبيل

اجمالي القراءات 12210