لكل نفس بشرية جسدان: ) 16 ): التوبة بين الإيمان والعمل

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٩ - ديسمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة   :

الجسد الأزلى داخل النفس هو مسرح الصراع بين الخير والشّر لو كانت النفس مؤمنة ،وقد تكوّن لها بايمانها واصرارها على التوبة جهاز مناعة يعمل على تطهير جسدها الأزلى كلما وسوس الشيطان وهمز ولمز . ولأن التوبة هى العامل الأساس فى تكوين جهاز المناعة المشار اليه فإننا نتوقف بالتوضيح الاضافى لعلاقة التوبة بالايمان والعمل .

 

أولا :

لمجرد التذكرة نعيد ما سبق التأكيد عليه فى مقالات سابقة عن الايمان كصفة عرضية متغيرة و&; ونضع لذلك بعض القواعد :

1 ـ الكافر له ايمان قليل لا ينفع وعمل سىء يضيع ايمانه:

وصف الله ىجل وعلا عصاة بنى اسرائيل بأنهم كانوا يستكبرون عن الحق ويقتلون الأنبياء ويقولون إن قلوبهم مقفلة تصدّ الحق ، فكانت النتيجة أن لعنهم الله جل وعلا بكفرهم وأصبح ايمانهم قليلا بسبب جرائمهم تلك : (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( النساء  155) ( وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( النساء: ـ   46 )(وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ) ( البقرة : ـ 88 ).

 

2 ـ هذا الايمان القليل بالله جل وعلا لا ينفع يوم القيامة لأن إيمانهم الأكبر هو لغير الله جل وعلا ، والله لا يقبل إلا من كان عمله خالصا لوجهه جل وعلا ، وكان إيمانه خالصا نقيا حنيفا لا مجال فيه لتقديس مخلوق ، يقول جل وعلا :(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ) ( السجدة 29 )

 

3 ـ الايمان يزيد وينقص:

3/ 1 :أى يتأرجح حسب مرور الزمن ، يعلو ويهبط ،ويتغير من ايمان كامل الى كفر بايمان قليل ، والعكس ، وتستحيل التوبة ، ويستحيل الغفران لهم يوم القيامة:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ) ( النساء 137 )

3 / 2 ـ أو ينقلب على عقبه سريعا بالمسارعة الى الى الكفر بعد الايمان، وهذا ما حدث من بعض الصحابة ممن آمن ثم سارع بالكفر،فحزن النبى من أجله ، فقال له ربه جل وعلا:(وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) (آل عمران 176 )وتكرر الموقف فقال جل وعلا:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) ( المائدة 41 ).

 

4 ـ يتغير الايمان زيادة ونقصا بالموقف من القرآن الكريم ، فالمؤمن بالقرآن يزداد إيمانه حين يتلى عليه القرآن ، عكس المنافق الذى يزداد به كفرا :(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ) ( الأنفال 2 )(وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ )( التوبة 124 : 125 ). (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا)( المائدة  64 ، 68 ).بل يتغير وجه أحدهم الى الكراهية والبغضاء حين يتلى عليه القرآن : (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) (القلم 51 : 52 ) ، بل يكاد يبطش بمن يتلو عليه القرآن (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ) (الحج 72 ).

 

5 ـ تغير الايمان حسب المواقف ، ففى موقف الشّدة يظهر الايمان الحقيقى أو الزائف القليل ، يقول جل وعلا عن المنافقين حين طولبوا بالقتال دفاعا عن العقيدة أو حتى دفاعا عن وطنهم فزعموا عدم معرفتهم بالقتال ، وعندها كانوا أقرب للايمان الكامل منهم الى الكفر: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ) ( آل عمران 167 )، أى إن الايمان الكامل محطة بلغوها مرة ثم تراجعوا عنها عندما ووجهوا بالتطوع للقتال دفاعا .

ومثله موقف بعضهم عند المصائب ، إذ يسارع بالسخط والكفر عندما تحل به كارثة، فيخسر الدنيا والآخرة لو مات على هذا الحال : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)( الحج 11 ).

ومنهم من يدافع عن الحق فيتعرض لاضطهاد، فيظهر معدن ايمانه، والله جل وعلا هو الأعلم بما تخفيه السرائر:(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ )( العتكبوت 10 ).

والواقع أن الايمان الحق مرتبط بالمحنة ،فلا بد أن يمحّص الله جل وعلا الذين آمنوا لتظهر حقيقة ايمانهم ولتكون حجة لهم أوعليهم يوم القيامة:(وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)( آل عمران 141 : 142 ). وفى ارتباط الايمان بإختبار المحنة والفتنة يقول جل وعلا :( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)( العنكبوت 2 ).

 

6 ـ التوبة هى الحل ، ولا بد أن ترتبط التوبة بتصحيح الايمان الذى تضاءل بالمعصية ، وسبق ايراد الآيات الكريمة التى تربط التوبة بالايمان والعمل الصالح:(الأعراف 153)(القصص 67)  ( طه 82 ) ( الفرقان 68 : 71 ) ( مريم 60  )، كما سبق التأكيد على إن مشيئة الانسان بالتوبة والهداية تسبق مشيئة الرحمن، لأن هذه التوبة يترتب عليها عمل صالح ناشىء عن إرادة وتعمد وقصد.

 

ثانيا :

1 ـ وهذا يدخل بنا على علاقة الايمان بالعمل فى منظور التوبة .

فكما لا يخلو إنسان من بعض الايمان ـ حتى لو كان قليلا ـ فكذلك لا يخلو من عمل صالح مهما تضاءل هذا العمل الصالح .

وبعبارة أخرى فلكل إنسان عمل صالح واعتقاد فى الله جل وعلا ، سواء كان إيمانا به وحده إلاها لا اله إلا هو ،أو بتقديس غير الله جل وعلا مع الله . ولكن الناجى الفائز هو الذى يتوب ويئوب وينيب ،والعكس هو من لا يعرف التوبة فى العقيدة والسلوك فيصل به عصيانه الى تكذيبه لآيات الله جل وعلا أى يصل به العصيان السلوكى الى الكفر الاعتقادى ويظل بلا توبة فيخسر الآخرة، أو يمتد به كفره الاعتقادى أو إيمانه القليل الى لحظة الاحتضار فيموت مشركا ويضيع عمله الصالح أو يحبط الله جل وعلا عمله الصالح .

 

2 ـ أى هنا لدينا قاعدتان :

القاعدة الأولى :ـ الايمان القليل ( الشرك أو الكفر ) يحبط العمل الصالح لمن يموت مشركا بعقيدته دون توبة .لأن الله جل وعلا لا يقبل عملا إلاّ إذا كان خالصا لوجهه الكريم صادرا عن عقيدة مخلصة بلا رياء أو نفاق أو مقصود بها رضى الناس دون رب الناس ،أو مقصود بها الأولياء والآلهة المقدسة.  

وهذا ما كان يفعله الجاهليون بتقديم النذور والقرابين للأولياء وقبورهم المقدسة :( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ) ( النحل 56 ) (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) ( المائدة 103 ).

وكانوا  يقدمونها أحيانا باسم الله ولكن فى النهاية تكون لتقديس أوليائهم : ( وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ)(الأنعام 136) .

وهو نفس ما يفعله عوام المسلمين اليوم فى الموالد والقبور والمشاهد المقدسة لدى السّنة والشيعة و الصوفية ،هذا مع أن الله جل وعلا أمر باجتناب القبور المقدسة أو الأنصاب : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوه) ( المائدة  90)وحرّم الأكل مما يقدم اليها من طعام أو ذبائح :(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) (  المائدة 3)    

والله تعالى يحبط عمل من يموت مشركا ـ أى العمل الصالح ـ يقول جل وعلا  للنبى محمد فى قاعدة عامة تسرى على الجميع: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ  ) ( الزمر 65 : 66 ) ، ومعنى إحباط عمله الصالح أن تضيع ثمرته فلا يبقى له إلا عمله السىء ، فتحرم عليه الجنة ولا يجد له مصيرا سوى النار :(إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) ( المائدة 72 )   

ويؤكد رب العزة أن من يموت مشركا دون توبة لا يمكن أن يتمتع بغفران الله جل وعلا يوم القيامة ، وموعد الغفران هو يوم الحساب وليس فى هذه الدنيا ، يقول جل وعلا فى آيتين : (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا )(  إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا) ( النساء 48 ،116 ).

ومعنى عدم الغفران هو إحباط الأعمال الصالحة ،أو التى تبدو لأصحابها صالحة أو لغرض خيرى،أو تصير هباءا منثورا لا ثواب فيها :(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) ( الفرقان 23 ) ، أو تصبح سرابا ، أو ظلمات بعضها فوق بعض :(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ) ( النور 39 : 40 ).

وإثناء تعذيبه فى النار يرى المشرك أعماله الصالحة التى لم تنفعه وقد تحولت حسرة عليه تنافس أعماله السيئة فى تحسره وخيبته على ما آل اليه مصيره :(كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) ( البقرة 167 ).

والله جل وعلا لايظلم أحدا .

فصاحبنا أراد الدنيا والشهرة و الرياء ومصانعة الناس فيما يقوم به من أعمال خيرية ، وهو بحكم العادة ينال أجره من الناس اعترافا منهم بفضله وترديدا لسيرته العطرة ، وقد يحصل أحيانا على مكاسب مالية ومعنوية ودعائية وإعلامية وصفات كريمة تلتصق به باعتباره أحد المحسنين الذين تلهج بذكرهم الركبان وأجهزة الإعلام. أى قدم خيرا يبتغى به وجه الناس فكوفىء عليه من الناس .

بل يكافئه عليه أيضا رب الناس ، ليس فى الآخرة ولكن فى الدنيا ،إذ يوسع الله له رزقه الدنيوى و يكافئه فى الدنيا جزاءا لما قدّم فى الدنيا ، ولكن ليس له فى الآخرة إلا النار :(مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) ( هود 15 : 16 ).

 

القاعدة الثانية :  العمل السىء يؤدى الى الكفر والتكذيب بآيات الله جل وعلا  وبالتالى يحبط العمل لمن يموت عاصيا مشركا دون توبة.

ونأخذ بعض الأمثلة من سيرة بنى اسرائيل التى أوردها القرآن الكريم لنتعظ منها ونستفيد:                                                                                                         

ـ فقد أخذ الله جل وعلا عليهم العهد والميثاق بعدم سفك دمائهم بينهم وألا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم ، فنكثوا العهد والميثاق وحاولوا تسويغ المعصية بالتلاعب بكتاب الله يطبقون بعض آياته ويكفرون ببعضها ، وجزاؤهم الخزى فى الدنيا وأشد العذاب فى الآخرة :( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( البقرة 84 : 85 ).

وباهمال التوبة ونسيانها صارت عند بعضهم عادة نكث العهد ، وبهذا تلاشى ايمانهم الحق وضاعت ملامحه ، يقول جل وعلا : ( أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) ( البقرة  : 100)

 ومعظم المسلمين الآن يكررون نفس الفعل ، أى يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه ، يؤمنون بالآية طالما تسير على هواهم ، وإلاّ يعطلون حكمها ويكفرون بها ، بل زاد السنيون اسطورة النسخ بمعنى إلغاء حكم الآية القرآنية التى لا توافق هواهم.

ـ ووصل بعض بنى اسرائيل الى الكفر بسبب عملهم السىء واصرارهم عليه دون توبة ، واكتفوا بالزعم بأنهم سيدخلون الجنة وأنهم أولياء الله من دون الناس، وبهذا الزعم ارتكبوا العصيان وتحصّن عصيانهم برفض التوبة، لذا تحدّاهم رب العزة فقال :(قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)( البقرة 94 ، 95 )( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ( الجمعة 6 : 7 ) .

وكالعادة سار المسلمون الصوفية على أثر أولئك العصاة الكفرة من بنى اسرائيل حين أصدروا قرارا بأن يكونوا هم وحدهم أولياء لله من دون الناس ، لذا فإن الآية الكريمة تتحداهم أيضا وتتحدى من يؤمن بتلك الأولياء ومن يتخذون عباد الله من دونه أولياء :(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلا قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) ( الكهف 102 : 104 ).أى أدى بهم صنعهم السىء الى الجحيم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

 

إن العادة فى أكثر الأحيان أن يأتى التكذيب تاليا للعمل السىء تحصينا للعمل السىء من التوبة الصادقة ، ومن يقع فى هذا يستحق البراءة من عمله :(وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ) ( يونس 41 )، ولذا يقول الله جل وعلا عن القرآن الكريم مخاطبا خاتم النبيين :( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ)(  البقرة   99  )،أى فلا يكفر بآيات القرآن إلا الفاسقون أو العصاة المصممون على المعصية دون رغبة فى التوبة . وطالما أعرضوا عن التوبة فلا بد من تسويغ العصيان بالتكذيب بآيات الله والكفر بها . ومن هنا ترتبط التوبة بتصحيح الايمان كما يرتبط العصيان بالكفر والتكذيب لآيات الله البينات .

وفى ضوء ما سبق نفهم قوله جل وعلا : (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون) ( الروم 10 )، أى همبدءوا بارتكاب السوء والاستمرار فيه بلا توبة فكان عاقبتهم أن حصّنوا عصيانهم بتكذيب آيات الله بل الاستهزاء بها .

والخلاصة :

1 ـ إن الايمان أسبق من العمل ، فالانسان يولد طفلا بالفطرة البيضاء ، وأجمل ما فى الانسان هى طفولته البريئة ، وكل مجرم عريق كان فى بدايته طفلا بريئا يسر الناظرين و يحب أن يراه الناظرون ، هكذا كان أبوجهل و هولاكو و أبوهريرة و هتلر وصدام حسين و حسنى مبارك ، ثم غلب عليهم العصيان فأخفى فيهم تلك البراءة و الطهارة وباعد بينهم وبين التوبة . فالايمان يبدأ داخل الانسان مع الفطرة ، ثم يتوالى العمل السىء بلا توبة فيحول الانسان الى ولى وتابع للشيطان .

2 ـ وهذا يؤكد على حاجة المؤمن لتكرار التوبة ليكون أوّابا منيبا شأن الأتقياء من الأنبياء والبشر، فلا يحسبنّ أحد أنه مهما بلغ ايمانه و التزامه بالطاعات وابتعاده عن الفواحش والكبائر يكون فى غنى عن التوبة ، فالتوبة تحصّن الايمان وتزيده .

التوبة  ليست مجرد نطق باللسان، فالتوبة العملية هى المرتبطة بالتقوى والصدقة ، فالكفر قرين للبخل ، ولهذا فهناك مؤمنون سيشعرون بالندم الهائل لحظة الاحتضار ، يكون ذلك المؤمن قد تناسى الانفاق فى سبيل الله ، أو أنفق أقل مما لا ينبغى ، ثم يأتيه الاحتضار وهو محاط بالأموال التى سيتركها لغيره متحملا وزرها ، عندها يصرخ حيث لا يسمعه احد فى هذا العالم ـ يطلب فرصة أخرى ولو لبضع دقائق ينفق فيها هذا المال قبل أن يتحمل وزره . لهذا يخاطب الله جل وعلا المؤمنين ـ و ليس الكافرين ، فيقول :( وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (المنافقون 10 : 11).

ولأنه جل وعلا لن يؤخر نفسا إذا جاء أجلها فعلى كل مؤمن أن يتحسب للموت الذى يتعقبه ويطارده و الذى لا مهرب منه، بأن يظل فى توبة مستمرة وعمل صالح مستمر و تصدق لا ينقطع فى سبيل مرضاة الله جل وعلا.

وإلا .. فالندم قادم عند الاحتضار، حيث لا يجدى الندم.

اجمالي القراءات 15848