لكل نفس بشرية جسدان ( 15 ):التوبة والصراع بين الخير والشر فى الجسد الأ

آحمد صبحي منصور في السبت ٠٤ - ديسمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

 لكل نفس بشرية جسدان (15 ):التوبة والصراع بين الخير والشر فى الجسد الأزلى

أولا  ـ

بعض الناس تعرض لتجربة الموت الجسدى ـ وليس الموت الحقيقى ـ أى إغماءة فارقت فيها نفسه جسده المادى كأن يعجز الجسد المادى عن أداء وظائفه الحيوية بسب داخلى أو تدخل خارجى مثل حادث سيارة. وفيها يدخل فى إغماءة ، ويرى نفسه وقد انفصل عن جسده وابتعد عنه مرتفعا فى سقف الغرفة ، وينظر الى جسده المسجى وحوله أهله والمحيطون به والأطباء .. ثم يعود إلى إغمائه ، وبعد&cute;دها يصحو وقد تذكر رؤيته ، وتذكر معها دخوله فى  نفق فى عالم غريب من الأضواء والألوان والمشاعر ، وبعضهم كان متمسكا بالبقاء فى هذا العالم الغريب ، لا يريد العودة لعالمنا الدنيوى القبيح . تكررت هذه الرؤى فى شهادات أناس كثيرين من الغرب وتم نشرها وتسجيلها .

من واقع رؤيتنا القرآنية نقول : هناك المستوى الأول من البرزخ الذى ندخله عند النوم ، وعند الاغماء العادى . وهناك مستوى أعلى منه فى تلك الحالة الخاصة حين يصاب الجسد المادى بعطب قاتل ، ويموت موتة اكلينيكية ، فتنفصل عنه النفس بجسدها الأثيرى الأزلى. ولأنه لا تزال له بقية من العمر يحياها ،ولأن موعد الموت الحقيقى لم يحن بعد فإن الجسد المادى الذى عجزت أجهزته عن الحياة تعود اليه الحياة بتدخل خارجى من الطب أو بصحوة داخلية . وفى كل الأحوال فإن الموت الحقيقى هو للنفس وليس للجسد ،أى ليس بتوقف القلب أو بتوقف المخ ، ولكن بأن يرى المحتضر بنفسه ملائكة الموت ، عندها فقط يكون الموت ، ولا يمكن أن يرجع للحياة ، لأنه برؤية ملائكة الموت يكون قد دخل مستوى من البرزخ لا يمكن معه العودة لهذه الدنيا . وآجلا أو عاجلا سيدخل كل منا هذا المستوى ويموت فعلا . وهذا شأن كل البشر.

وقلنا إنه عند الموت يحدث الانفصال بين جسد مادى ينتهى الى التحلل والفناء ليحل محله جسد أثيرى أزلى ترتديه النفس ، يتكون من عملها وسعيها فى الدنيا إن خيرا وإن شرا .

عند الموت يكون البشر على ثلاثة أصناف : صنفان من أهل الجنة ، هم السابقون المقربون ،ثم أصحاب اليمين ، وقسم من أهل النار وهم أصحاب الشمال. ولنقرأ هنا ونتدبر قوله جل وعلا عن لحظة الاحتضار التى سنواجهها لا محالة : (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لّا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) ( الواقعة 83 ـ ).

أى هى جنة أو نار ، أى عند الموت يكون الميت :إما من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون من السابقين وأصحاب اليمين أصحاب الجنة ، وإما أن يكون من أولياء الشيطان.  

ثانيا :

ونعطى بعض التفاصيل من كتابنا ( السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة ) الصادر عام 1982 : تحت عنوان : (من هو ولى الله ؟) :

( يقول تعالى ﴿أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَىَ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ (يونس 62: 64).

فولى الله تعالى موصوف بالإيمان والتقوى، وفى آيات أخرى يقول الله تعالى عن اتصاف الولى بالتقوى ﴿وَاللّهُ وَلِيّ الْمُتّقِينَ﴾ (الجاثية 19). ويقول ﴿إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاّ الْمُتّقُونَ﴾ (الأنفال 34) وفى الآية الأخيرة جرى الأسلوب بالقصر أى أن الله تعالى لا يوالى إلا من كان تقياً.

ويقول تعالى عن اتصاف وليه بالإيمان ﴿وَاللّهُ وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران 68) ويقول ﴿واللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ﴾ (البقرة 257).

ومعنى ذلك أن ولى الله تعالى لابد أن يتصف بصفتين أساسيتين هما الإيمان والتقوى، وإذا حللنا هاتين الصفتين فى القرآن الكريم لتعرفنا على سمات الولى فى المنظور القرآنى، وهى:

1- العمومية: أى صفات عامة: ومعناها أن الإيمان والتقوى صفات عامة لا يختص بها شخص بعينه أو جنس محدد أو طائفة خاصة، وإنما هى صفات مطروحة أمام البشر جميعاً فى دنيا التعامل ومطلوب من بنى آدم كلهم أن يتحلوا بها عرباً كانوا أو عجماً، أغنياء أم فقراء، رجالاً أو نساء، صغاراً أو كبار، من أتباع محمد أو عيسى أو موسى عليهم السلام أو غيرهم.

فعن الإيمان يقول تعالى ﴿إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة 62) أى أنه بغض النظر عن الأسماء والطوائف فكل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فجزاؤه جزاء أولياء الله تعالى الذين ﴿َلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

ونظير ذلك ما يقوله تعالى عن أتباع الرسل جميعاً ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (الأنعام 48)، أى أنه من آمن وأصلح من جميع أتباع الرسل فهو من أولياء الله تعالى الذين ﴿لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

والتقوى: أيضاً مطالب بها بنو آدم جميعاً منذ أنزل أبوهم آدم إلى الأرض، يقول تعالى ﴿يَابَنِيَ آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنّكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتّقَىَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (الأعراف 35). فلابد لبنى آدم جميعاً من الاتصاف بالتقوى ليكونا من أولياء الله الذين ﴿لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

ويقول تعالى للناس جميعاً ﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (النساء 1)، ويقول ﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ إِنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾(الحج 1)، وفى سورة الشعراء كان كل نبى يدعو قومه فى كل عصر بكلمة واحدة هى ﴿فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ ويقول تعالى لأمة محمد ﴿وَلَقَدْ وَصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيّاكُمْ أَنِ اتّقُواْ اللّهَ﴾ (النساء 131). فالمؤمنون المتقون هم أولياء الله فى كل عصر..

2- العرضية: أى أنها صفات تقبل الزيادة والنقص، أى ليست صفات لازمة للمرء طيلة حياته، بل تتغير زيادة ونقصاً حسب الصراع القائم فى داخل الإنسان بين الخير والشر، بين الهوى والخشية، بين الشيطان والفطرة السليمة التى فطر الله الناس عليها، والعصمة لله وحده وللرسل فيما يوحى الله إليهم به، وقد خلق الله تعالى النفس البشرية وسواها على أساس الفجور والتقوى وقدم الفجور فيها على التقوى فقال ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس 7: 8). وصراع الشيطان مع الفطرة السليمة فى المؤمن مستمر باستمرار الحياة، وبينما تكون السيطرة الكاملة للشيطان على الكافر فإن المؤمن يظل فى صراع مع الشيطان فى داخل نفسه، وهذا الصراع قد ينجم عنه بعض زلات ومعاص فيسارع المؤمن بالاستغفار والتوبة، وقد يخرج منه منتصراً على هواه وغرائزه وحينئذ يكون تقياً.

يقول تعالى عن سيطرة الشيطان على المشركين دون المؤمنين ﴿إِنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ. إِنّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىَ الّذِينَ يَتَوَلّوْنَهُ وَالّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ (النحل 99،100)، ويقول ﴿إِنّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاّ مَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ (الحجر 42).

ويزيد من حدة الصراع فى داخل المؤمن أنه متفاعل مع البيئة، مطالب ـ ليس فقط بمراعاة التقوى فى نفسه أثناء تعامله مع خضم الحياة- ولكن مطالب أيضاً بأن يؤثر فى مجتمعه بالخير، ومن الطبيعى وهو بشر غير معصوم أن تؤثر فيه بعض المحن وأن يستسلم حيناً للهوى وحظ النفس وحيل الشيطان، وحين يقع فى حبائل الشيطان فلن يكون تقياً، وحين يسارع بالتوبة والندم يكون تائباً، وحين ينجح فى السيطرة على نفسه وغرائزه وينجو من الوقوع فى الإثم يكون تقياً نقياً، وتلك مجرد حالة من حالاته. وهكذا، فإيمانه وتقواه فى حالة تغير مستمر وارتفاع وانخفاض طالما بقى حياً.

يقول تعالى عن الإيمان كصفة قابلة للزيادة والنقص ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾ (الأنفال 2) ﴿فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ (التوبة 124)، وما يقبل الزيادة يقبل النقص، فيقول تعالى عن المعاصى وكيف أنها تذهب الإيمان ﴿كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ (المطففين 14).

والمؤمن إذا وقع فى المعصية - ولابد أن يحدث هذا- فسارع بالتوبة وعزم على ألا يعود  فيكون حينئذ ضمن المتقين طالما بر بوعده وأقلع، يقول تعالى ﴿وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلاّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرّواْ عَلَىَ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلمون َ﴾ (آل عمران 135). فجعل من صفات المتقين المسارعة بذكر الله إذا وقع فعلاً فى معصية والعزم الصادق على ألا يصر على فعل المعصية.

فالتقوى حركة مستمرة باستمرار الحياة يقويها فى نفس المؤمن الاستمرار فى ذكر الله تعالى، ومعنى أن يداوم على ذكر الله أن يخشاه ﴿إِنّ الّذِينَ اتّقَواْ إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُواْ فَإِذَا هُم مّبْصِرُونَ﴾ (الأعراف 201)، وليس معنى ذلك أن المؤمن ملتزم تماماً بذكر الله تعالى، فليس معصوماً وإنما بين الله تعالى لأتباعه الوسائل الكفيلة بمحاربة الشيطان     وهوى النفس التى خلفت على الفجور والتقوى، وتتركز هذه الوسائل فى ذكر الله تعالى واستغفاره، حتى يضمن لنفسه أن يخفف بقدر الإمكان من ذنوبه ومعاصيه حتى إذا انتهت حياته كانت النتيجة النهائية فى صالحه.

3- صفات غيبية: أى لا يعلم حقيقتها إلا الله وحده، فالإيمان والتقوى صفات قلبية وسبحان من ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ﴾ والمظهر خداع، بل ربما يكون أكثر الناس تظاهراً بالإيمان هو أكثرهم رياءاً ونفاقاً، فالإيمان تعامل خاص بين العبد وربه المطلع وحده على السرائر، والتقوى أكثر من الإيمان خفاء وسرية، لأنها تشمل حديث النفس، ومحاربة الهوى الكامن فى الغرائز وتلك أمور بالغة الخصوصية لا يطلع عليها إلا علام الغيوب.

والرسول عليه السلام لا يعلم الغيب ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسّنِيَ السّوَءُ﴾ (الأعراف 188). ولذلك فإنه لم يعلم بحقيقة النفاق لدى بعض الناس فى المدينة ﴿وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ (التوبة 101).

وإذا كان هذا حال الرسول فنحن أولى بالجهل بحقيقة اتصاف البعض منا بالإيمان والتقوى، وفى ذلك يقول تعالى ﴿وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مّن بَعْضٍ﴾ (النساء 25)، ويقول للرسول والصحابة فيمن أسلم من المؤمنات المهاجرات ﴿فَامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنّ﴾ (الممتحنة 10). ويقول فى الهداية والتقوى ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (القصص 56) ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتّقَىَ﴾ (النجم 32)، ويقول ﴿رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ﴾ (الإسراء 25).

وهكذا فالإيمان والتقوى صفات قلبية اختص تعالى نفسه بمعرفتها ولم يطلع عليها أحداً من البشر حتى الرسل المكرمين ، فنحن لا نستطيع أن نحكم على إيمان شخص ولا نستطيع تبين درجة تقواه، فكل ذلك غيب عنا، وسبحان من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.

4- ثم إن المؤمن الحق يتهم نفسه ولا يزكيها ولسان حاله يقول: ﴿وَمَآ أُبَرّىءُ نَفْسِيَ إِنّ النّفْسَ لأمّارَةٌ بِالسّوَءِ إِلاّ مَا رَحِمَ رَبّيَ إِنّ رَبّي غَفُورٌ رّحِيمٌ﴾ (يوسف 53).والمؤمن الحق ملتزم بطاعة الله تعالى القائل ﴿فَلاَ تُزَكّوَاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتّقَىَ﴾ (النجم 32).

والمؤمن الحق يأبى على نفسه أن يتابع بعض اليهود الذين زكوا أنفسهم فاستحقوا نقمة الله حين قال فيهم ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَىَ بِهِ إِثْماً مّبِيناً﴾ (النساء 49،50). فمن زكى نفسه ووصفها بالإيمان الكامل والتقوى الخاشعة فقد تشبه بالعصاة من اليهود وصار أبعد عما يدعيه، ناهيك بمن يدعى الولاية ليضل الناس فى دينهم ويجعل من نفسه واسطة بين الله وخلقه.. وذلك موضوع آخر .

والمهم أن الولاية صفات عامة للناس جميعا ولا يعلم حقيقة الأتصاف بها إلا المطلع على ما تخفيه الصدور ثم هى صفات عرضية غير لازمة تزيد وتنقص حسب العمل الصالح والنية والصراع المستمر بين الخير والشر فى كل أنسان .

وعلى ذلك فلن يوجد- بعد الأنبياء- شخص بعينه على أنه ولى لله.. لأن هذا الشخص لابد أن يقع فى معصية، وحين يعصى تنتفى عنه صفة التقوى فتنتفى عنه صفة الولاية، ثم إن الإنسان طالما بقى حياً يرزق يسعى ويكافح، يناضل فى الحياة بيده ولسانه وجوارحه فسجل أعماله مفتوح،وأعماله تترواح بين الطاعة والمعصية ، ولن يكون حسابه الختامى إلا بنهاية حياته، شأنه فى ذلك شأن الطالب فى الدراسة فهو بين مذاكرة أو لعب، لا يمكن أن يحكم عليه حكماً قاطعاً إلا حين تظهر نتيجة الامتحان.

وإذا صح أن يوصف إنسان فى موقف معين بالتقوى- على فرض أننا تيقنا من سريرته- فمن يدرينا بمستقبل حياته، وهو مجال مفتوح لا ندرى بما سيحدث منه فيه.

بيد أن هناك لحظة على مفترق الطرق فى حياة الإنسان قبل أن يدخل إلى عالم الموت حين تقبض نفسه، لحظة تعدل الحياة بأسرها، لحظة يتذكر الإنسان فيها ما سعى، يتوقف لسانه وتتعطل جوارحه ويرى قبيل موته نتيجة سعيه فى الدنيا، حينئذ يعرف مكانه بين الجنة والنار. فالمؤمن يبشر بالجنة وأنه لا خوف عليه ولا حزن، والكافر يرى سوء عمله ماثلاً فى مكانه فى النار.

فالملائكة تنزل على المحتضر فى لحظة انطوى فيها سجل أعماله فلم يعد بمقدوره أن يزيد من عمله أو ينقص منه باليد أو باللسان، يحيط به أهله لا يستطيعون له شيئاً ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـَكِن لاّ تُبْصِرُونَ﴾ (الواقعة 83: 85).

 فولى الله يعرف نفسه حينئذ حيث لا مجال للادعاء أو التظاهر أو المزايدة وحينئذ لا يخاف ولى الله ولا يحزن فمالك يوم الدين يحميه ويدافع عنه، يقول الله تعالى ﴿إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ﴾ (فصلت 30،31)، فالملائكة تنزل على من أمضى حياته كلها مؤمناً مستقيماً فتبشره ساعة النزع وتقول ﴿وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ أى التى كنتم توعدون بها فى سابق العهد من الدنيا، وفى هذا الموقف بين الدنيا والآخرة بين الحياة والموت تقول لهم ﴿نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ﴾.

وفى آية أخرى يقول تعالى ﴿الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (النحل 32) وقبلها يقول عن الكفرة ﴿الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ.. فَادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ..﴾ (النحل 28،29)  

تلكم هى البشرى التى يتلقاها المؤمن حين النزع وهذا هو المقصود بقوله تعالى ﴿أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَىَ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾. انتهى النقل .

ثالثا :

لا يوجد بشر معصوم لا يخطىء قط . وأفضل البشر هم الأنبياء رسل الله جل وعلا ، ومن اتبعهم باحسان الى يوم الدين وصدّق بالحق الذى جاءوا به ، يقول جل وعلا : (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ )(الزمر 33 : 35 ) فالمتقون صنفان : الأنبياء الذين جاءوا بالصدق ، والأتباع الذين صدّقوا به . ومصيرهم أن الله جل وعلا سيكفّر عنهم (أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) ، أى كان لهم عمل ( أسوأ ) ولكنهم تابوا وأنابوا ، لذا كفّر الله جل وعلا عنهم أسوأ الذى عملوا.

ولن يدخل الجنة إلاّ من كان تقيا :  (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا) ( مريم 63 ). والبشر يوم القيامة نوعان فقط : متقون يدخلون الجنة وكافرون يدخلون النار(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا ) (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا )(الزمر 71 ، 73 ) . والأنبياء فى مقدمة المتقين.

والمتقون ـ بما فيهم الأنبياء ـ فى حالة صراع مع وساوس الشيطان وضلالاته ، وقد أمر الله جل وعلا خاتم النبيين مرارا بالاستعاذة من الشيطان : (وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ )(المؤمنون 97 : 80 )( وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ( فصلت36 )(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ). ومعنى الاستعاذة بالله جل وعلا أن النبى لا يستطيع بنفسه التغلب على وسوسة الشيطانه فلا بد له من الاستعانة بالخالق جل وعلا .

إن العصمة لا مكان لها فى عالم المخلوقات، إذ تعنى عدم الحاجة الى يوم الحساب. كما أن الاستسلام التام للشيطان يعنى عدم وجود صراع معه، وهذا يحدث مع من يزين الشيطان له عمله السيىء فيراه حسنا فيرضى به ويفاخر. ولكن التقوى تعنى استمرارية الصراع بين الخير و الشرّ ، وانتصار الخير دائما وفى النهاية . والتوبة هى المحور هنا، وأرض المعركة هى الجسد الأزلى أو الأثيرى للنفس ، حيث تترسب السيئات وتتركز و تتجذر وتستعصى على التنظيف. أو تسارع النفس المتقية للقيام بدور جهاز المناعة فى الجسد المادى ، أى تسارع الى التطهير والتطهر أولا بأول لكل سيئة تقع فيها وتصنع مكانها عملا صالحا يحل محلها ، وتظل فى هذا الصراع تحمى جسدها الأزلى ليحافظ على نقائه أولا بأول الى أن يأتى وقت الاحتضار ،فتنفصل عن جسدها المادى وتقابل الملائكة بجسدها النورانى النقى وتسمع منها البشرى بالجنة ، وتكون من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا يحزنون ، مع الأنبياء والمرسلين. وتغوص فى برزخها الى يوم يبعثون.

هذه الحالة من الاستمرار فى مقاومة الشيطان والهوى وغرائز الجسد المادى تجعل من التوبة حالة مستمرة ، بأن يتكون للنفس جهاز مناعة مقاوم لوساوس الشيطان يجعل التائب فى حالة حرب مستمرة ضد همزات الشياطين ، وفى حالة صراع مستمر مع نوازع الشر فى نفسه ، فيسارع بالتوبة وبالأوبة لربه منيبا له جل وعلا ومخلصا ، أى يكون التائب أوّابا منيبا .

  رابعا :

(أوّاب و منيب )

1 ـ (أوّاب ) يعنى كثير الأوبة والرجوع الى الله جل وعلا ،أى كثير التوبة بحيث تكون صفة لازمة له ، بمعنى أنه بمجرد أن يوسوس له الشيطان بالخطأ يسارع بالاستغفار والتوبة ،فلا يستطيع الشيطان أن يعميه عن طريق الاستقامة ، يقول جل وعلا لخاتم المرسلين: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ)( الأعراف 200 : 201 ).

بهذايظل المؤمن فى تقواه متمتعا بنور الهداية ، عكس من زين له الشيطان سوء عمله ،يقول جل وعلا:(أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) ( الأنعام 122 )

وقد وصف الله جل وعلا بعض الأنبياء بأنه (أواب) فقال عن داود عليه السلام:(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ( ص 17 ) وقال عن سليمان:(وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص 30 )، وقال عن ايوب:( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)( ص44).

 وجعل الجنة من نصيب المؤمنين الأوّابين :(هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ )(ق32 ) ، ووعدهم بالمغفرة:(رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا)(الإسراء 25 ).

2 ـ ولأن التوبة الحقيقية مرتبطة بتصحيح الايمان وإخلاص التوبة لله جل وعلا ، ولأن التائب باستمرار يظل على صلة وثيقة بربه جل وعلا يخشاه بالغيب فإن مصطلح (أوّاب ) يرتبط بالإنابة.

والمنيب هو الذى يخلص لله جل وعلا وحده فى عقيدته وفى عبادته وفى توبته. وبهذا جاء وصف ابراهيم خليل الله :(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) (هود 75 ).(أوّاه)  أى كثير التأوّه ندما وتوبة وأوبة لله جل وعلا ، وهو منيب لربه فى عقيدته وعبادته وتوبته. وبهذا أعلن ابراهيم والمؤمنون معه عقيدتهم لقومهم الكافرين وقالوا:(رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة 4  )

ووصف داود بالإنابة اى التوبة الخاشعة المخلصة : (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) (ص 24) ، ووصف بها أيضا سليمان: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ  ) (ص 34  )،وقالها النبى شعيب فى معرض دعوته الاصلاحية الأخلاقية لقومه ، وقرنها بدعوته لهم بالتوبة :(إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)(هود 88 ، 90).

3 ـ ومطلوب من كل مؤمن أن يحتكم الى كتاب الله فى كل خلاف يستجد ، قائلا:(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ( الشورى 10 ). والعادة أنه لا يتذكر التوبة المخلصة من المؤمنين إلاّ من ينيب : (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ) (غافر 13  )، فالذى يشاء ويختار الهداية و التوبة والانابة والاخلاص فى توبته  تأتيه هداية الله جل وعلا مترتبة على مشيئة المؤمن فى الهداية والانابة والتوبة :(وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) ( الشورى 13) فهو بدأ بالانابة ففاز بهداية الله جل وعلا له.

4 ـ هذه الانابة والتوبة المخلصة يختارها من يشاء التوبة والهداية مستجيبا لدعوته جل وعلا لعباده بالتوبة:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) لذا عليهم الاسراع بالتوبة المنيبة والاستسلام لله جل وعلا والخضوع له قبل فوات الأوان :(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ) وعليه المسارعة أيضا بالعمل الصالح ،بل أحسن الصالحات لملء فراغ النفس ووقتها بالعمل الصالح قبل ضياع الفرصة: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ) وقبل أن يأتى وقت الحسرة والندم فى الوقت الضائع : (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتىٰ عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) وبعضهم وقت الحسرة تلك  سيتحجج بإرادة الله أى لو هداه الله لكان من المتقين التائبين ، وينسى أن قرار التوبة و الهداية يأتى من الفرد أولا ، يشاء الفرد الهداية والتوبة فيشاء الله هدايته ويقبل توبته ويغفر له بناء على تصميم ذلك الفرد على الهدى والتوبة ، وإذن لا محل للتحجج بارادة الله هنا لأنها تالية لارادة العبد ، لذا يردّ رب العزة مقدما عليهم حين يتمسحون بالارادة الالهية أو حين يطلبون فرصة أخرى للتوبة فيقول :( أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ). أى هم الذين شاءوا الضلالة وشاءوا التكذيب بآيات الله وكتبه ورسله ، واستكبروا وكفروا . وفى النهاية يؤتى بهم وقد إسودت وجوههم   بسوء أعمالهم وكذبهم على الله جل وعلا حين ابتدعوا واتبعوا أديانا أرضية مؤسسة على الكذب على الله ورسوله : (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) ( الزمر 53 : 60 )

5 ـ إن كل مؤمن منيب يخلص لله جل وعلا قلبه وتوبته يرى فى آلاء الله عظة واعتبارا وتذكرة ، (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ )(ق8 ) (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ)(سبأ 9 ) ، لذا ترتبط الإنابة بالتقوى وإقامة الصلاة (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)(الروم 31 )، كما ترتبط بخشية الله جل وعلا بالغيب أى فى السر وفى العلن ، ومصير المنيب أن يأتى يوم القيامة بقلب سليم نقى :(مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ) ( ق33)

أما غيره فينطبق عليه قوله جل وعلا :(وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (الروم 33 ) (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ )(الزمر 8 )..  أى يكون منيبا مخلصا لله جل وعلا تائبا وقت الشدة فقط ، فإذا زالت المحنة عاد الى فسقه .

ختاما

1 ـ عند الاحتضار إما أن تكون :

من أولياء الله فلا تخاف عند رؤية ملائكة الموت ولا تحزن على مصيرك حيث ستبشرك ملائكة الموت بالجنة و المغفرة لأنك فيما سلف من حياتك قمت بتقوية جهاز المناعة فى نفسك ، بالتوبة والانابة والتقوى فارتدت نفسك عند الاحتضار جسدها الأزلى الأبيض النقى الطاهر السليم .

وإما أن تكون من أولياء الشيطان الذى زيّن لك سوء عملك فرأيته حسنا ، وأضلك عن السبيل فحسبت نفسك مهتديا ، وينتهى بك الحال وقد اسودّ جسدك الأزلى ، وعندما ترى ملائكة الموت وأنت تدخل عالم البرزخ تصاب برعب هائل وحزن شديد ، وتطلب فرصة أخرى بلا فائدة .

2 ـ القرار بيدك . إن شئت الهداية والتوبة وقمت بشروطها فعليك ان تبدأ من الآن عهدا جديدا مع الله جل وعلا بالتوبة والعمل الصالح ، وبناءا على قرارك ومشيئتك بالهداية سيهديك الله جل وعلا ويقبل توبتك ويغفر لك . وإن شئت الغفلة والاصرار على الضلال و إغتررت بالحياة الدنيا ونسيت اليوم الآخر ولم تستعد للقاء الله جل وعلا فإن الله جل وعلا سينساك ويتركك للشيطان يزيدك ضلالا ويزين لك سوء عملك ويطبع على قلبك . وفى الحالتين فأنت صاحب المشيئة ، وأنت الذى تجد الجزاء المناسب لاختيارك ، ومن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ، وما الله جل وعلا بظلاّم للعالمين ، ولا يظلم ربك أحدا .

اجمالي القراءات 15142